ديناميكيات الموقف العربي في ضوء المتغيرات الإقليمية

شكلت الحرب في قطاع غزة وتداعياتها على لبنان وسوريا، وامتدادها إلى العمق الإيراني في يونيو 2025، نقطة تحول في النظام الإقليمي منذ 2003، ما أدى إلى تراجع النفوذ الإيراني وصعود إسرائيل كلاعب مركزي، وأعاد ترتيب التحالفات العربية التي بدأت تتحرك لملء الفراغ الناتج عن انكفاء طهران، وسط حذر من تحوّل إسرائيل إلى قوة مهيمنة، حيث تسعى الدول العربية إلى إعادة هندسة التوازن الإقليمي لصياغة نظام قائم على التعاون وليس على الهيمنة.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ٢٨‏/٠٧‏/٢٠٢٥

مثّلت الحرب في قطاع غزة، وما تلاها من تطورات في لبنان وسوريا، ثم امتدادها إلى العمق الإيراني في 13 يونيو 2025، نقطة تحول استراتيجية في البُنى التي حكمت توازنات المنطقة منذ عام 2003. كما شكّلت منعطفاً حاسماً في طبيعة المقاربة العربية إزاء أطراف الصراع، لا سيما إسرائيل وإيران، وذلك في سياق يشهد إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، وتبدلاً في تصوّرات التهديد وأولوياتها. وفي ظل هذا المشهد المتحوّل، تجد الدول العربية نفسها أمام اختبار جديّ لمدى قدرتها على المساهمة في رسم ملامح الشرق الأوسط المقبل، بعد سنوات من عدم الفعالية تجاه التحولات التي أعقبت التدخل الأمريكي في العراق، ثم ما عُرف لاحقاً بـ"الربيع العربي"، والذي أتاح لإيران التمدد والنفوذ على حساب فراغ عربي. ومن هذا المنطلق، تأتي الحسابات العربية حيال المستقبل، وخياراتها الإقليمية المقبلة، عاملاً حاسماً في بلورة مواقفها تجاه إيران ودورها المحتمل في النظام الإقليمي الجديد، بالإضافة إلى صعود إسرائيل كفاعل مركزي في ترتيبات ما بعد الحرب.

ما بعد عام 2003: انكفاء عربي وتقدّم إيراني

شهدت العلاقات العربية الإيرانية تحولاً ما بعد العام 2003، وتحديداً جراء دور التدخل العسكري الأمريكي في العراق، والذي أفضى إلى تحول كبير في ميزان القُوى الإقليمية، بعد أن حيد العراق عن اعتباره أحد اللاعبين الإقليميين، وساهم في صعود النفوذ الإيراني بعد تحوله من خصم مُنافس إلى حليف، وفي انحداره نحو الفوضى بعد تنامي الجماعات المسلحة والفاعلين من غير الدول، سواء من الجماعات المتطرفة والإرهابية مثل تنظمي القاعدة وداعش، أو من وكلاء إيران من الفصائل المسلحة، الذين أضعفوا من قُدرة العراق على التعافي واستعادة الدور الإقليمي حتى وقت قريب، وكان من أبرز تداعياتها أن وضعت الحدود العربية على تماس مع إيران ووكلائها، للمرة الأولى تاريخياً منذ استقلال دول المنطقة عن الانتداب البريطاني، ما أعاد تشكيل البيئة الجيوسياسية على نحو غير مسبوق.

غير أن خط التماس بين إيران والدول العربية، وكذلك إسرائيل، اتسع بشكل غير مسبوق عقب موجة الاضطرابات التي أعقبت ما يُعرف بـ"الربيع العربي" عام 2011. فقد رأت إيران في تلك التحولات فرصة تاريخية لإحياء مشروع نفوذها الإقليمي، مستغلة حالة الفراغ السياسي والأمني في عدد من الدول العربية. ومكّنها ذلك من إنشاء جسر بري استراتيجي يمتد من حدودها الشرقية حتى البحر الأبيض المتوسط، عبر تموضعها العسكري والسياسي في كل من العراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن توسيع حضورها في البحر الأحمر عبر مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن. وقد أدى انتشار الجماعات المسلحة الموالية لإيران إلى اقترابها الجغرافي والعسكري من معظم الدول العربية، بالإضافة إلى إسرائيل، كما منحتها تلك الجماعات أدوات متعددة للوصول العملياتي إلى عمق الشرق الأوسط. وقد استكملت طهران تطويق إسرائيل من خلال تنسيقها العسكري والعملياتي مع فصائل فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، ما أضاف طبقة جديدة من التهديدات المركّبة والمشتركة. وقد تُرجمت هذه التهديدات إلى واقع فعلي عبر سلسلة من الهجمات والتصعيدات التي نفذها وكلاؤها ضد السعودية، والإمارات، والأردن، والبحرين، وإسرائيل.

وفي نهاية المطاف، كانت ديناميكيات التوازن الإقليمي تميل في جانب منها لصالح إيران، وإن لم يكن ذلك بشكل حاسمٍ أو استثنائيٍ، وقد أسفر هذا الميل عن تحولات ملموسة في أنماط التحالفات الإقليمية، حيث سعت الدول المتضررة من النفوذ الإيراني إلى بناء شراكات وبدائل لمواجهة المخاطر المشتركة. أدى ذلك إلى تقارب ملحوظ بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، بلغ ذروته في عهد إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى (2017–2021). فقد شهدت تلك الفترة توقيع اتفاقات أبراهام عام 2020، وإدماج إسرائيل ضمن نطاق مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، بما عكس مستوى التنسيق الأمني والعسكري المباشر وغير المباشر بين الولايات المتحدة، إسرائيل، وعدد من الدول العربية. والذي جاء متسقًا مع مقترحات إدارة ترامب بإنشاء تحالف إقليمي أطلق عليه "التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط، ورغم هذا الزخم، ظلّت السياسات الأمريكية عاجزة عن وقف الأنشطة النووية والصاروخية الإيرانية، أو الحدّ من دعم طهران لوكلائها الذين يزعزعون استقرار المنطقة. بل إن الضغط المتزايد الذي مارسته واشنطن، خاصة بعد انسحابها من الاتفاق النووي عام 2018 وتبنّيها سياسة 'الضغوط القصوى"، التي يُمكن القول بأنها دفعت إيران نحو المزيد من التشدد، سواء على مُستوى صعود المحافظين داخلياً، أو ما يتعلق سلوكها الإقليمي بشكل عام.

ما بعد 2021: احتواء الخلافات وقبول الدور الإيراني

شهدت العلاقات العربية–الإيرانية تحولًا لافتًا بعد عام 2021، مدفوعة بمتغيرين رئيسيين. تمثل الأول في توجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن نحو اتباع مقاربة تفاوضية مع إيران، على غرار نهج إدارة باراك أوباما، مع السعي للعودة إلى الاتفاق النووي بنسخة معدّلة عن اتفاق 2015، وتخفيف العقوبات عنها بشكل تدريجي. أما المتغير الثاني، فكان نتاج إدراك إقليمي جماعي لضرورة التوصل إلى تفاهمات تُنهي حالة الاستنزاف وعدم الاستقرار التي أرهقت اقتصاديات الدول، لا سيما في ظل اعتماد العديد من الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج، برامج إصلاح اقتصادي شاملة جعلت من الاستقرار الإقليمي أولوية قصوى في سياساتها الداخلية والخارجية.

وقد أفضت تلك المتغيرات إلى تغيير في ديناميكيات العلاقات بين دول الإقليم وفي طبيعة النقاش السائد إقليمياً، من التنافس والتناقض بشأن الصراعات الدائرة، إلى الفرص والقواسم المشتركة التي يُمكن أن تغير الواقع الأمني الهش في المنطقة، وقد بدأ بذلك مسار تسوية الخلافات، انطلق بمخرجات قمة العلا لعام 2021، والتي استأنفت علاقات السعودية والإمارات والبحرين ومصر مع قطر بعد قطيعها عام 2017. ثم توجه تركيا لمُراجعة سياساتها الخارجية، وانفتاحها على استعادة علاقاتها العربية، لا سيما بعد زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الإمارات في فبراير 2022 ثم السعودية في أبريل، وانطلاق جلسات استكشافية لعودة العلاقات التركية المصرية منذ 2021.  وقد تُوجت تلك الأجواء باستئناف السعودية علاقاتها مع إيران في 10 مارس 2023، بعد انقطاعها منذ عام 2018. بموازاة تزايد الحديث داخل الولايات المتحدة عن قُرب التوصل إلى اتفاق سعودي-إسرائيلي، ما يعني أن المنظومة الإقليمية برمتها قد تدخل مرحلة جديدة وتشهد أنماطًا متقدمة من العلاقات التكاملية والاقتصادية والاستثمارية.

المكانة-الإقليمية-لإيران-ما-بعد-الحرب-ديناميكيات-المقاربة-العربية-in1.jpg

مع ذلك، نُظر إلى تموضع إيران ضمن جُملة المصالحات، باعتباره نتيجة استراتيجية عن سلوكها الإقليمي السلبي، بل وعززت من نفوذها الإقليمي، فقد ظلت حاضرة بسيطرة وكلائها في العراق ولبنان على المشهدين السياسي والأمني، حفاظًا على تموضعها الاستراتيجي في سوريا. كما راقبت إيران عن كثب مسار التقارب العربي مع النظام السوري السابق، في إطار سياسة "خُطوة مُقابل خطوة"، والذي تُوّج بعودة دمشق إلى مقعدها في جامعة الدول العربية في مايو 2023. وعلى صعيد الملف اليمني، استفادت طهران من الزخم الدولي الداعم لمسار التسوية، والذي تجلّى في الرعاية الأممية لمحادثات السلام، إضافة إلى قرار إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن شطب الحوثيين من قائمة التنظيمات الإرهابية في فبراير 2021، قبل أن تُعاد تسميتهم كمنظمة إرهابية في يناير 2024، ثم يُعاد تصنيفهم مجددًا كجماعة إرهابية في يناير 2025 تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب. وحتى إسرائيل اعترفت ضمنياً بالتفوق الإقليمي الإيراني، وفي نفوذها على مساحات واسعة من حدودها، وقد كان إطلاقها "مناورة هيمليك"، باستخدام أدوات القوة الاستخباراتية أولاً ثُم العسكرية، عاملاً في منع وصول إيران إلى نقطة لا يمكن لإسرائيل ودول المنطقة السيطرة عليها.

وعليه يمكن فهم التحولات التي طرأت على العلاقات العربية-الإيرانية ما بعد 2021 بوصفها جزءًا من ديناميكية إقليمية أشمل تسعى لإعادة هندسة التوازنات الأمنية عبر أدوات التهدئة والانفتاح السياسي، بما يضمن بقاء كل الفاعلين ضمن حدود الدور المقبول دون تصعيد شامل، وهو ما يتفق مع تصور ورقة "مناورة هيمليك: تغيير الواقع الأمني الإقليمي"، من حيث التأكيد على أن التهدئة الإقليمية لا تعني نزع أدوات القوة، بل إعادة هيكلتها ضمن نظام إقليمي مرن دون الوصول إلى نقطة الانفجار والتصعيد الشامل. 

7 أكتوبر: تآكل الردع وتراجع النفوذ الإيراني

جاءت هجمات حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في قطاع غزة، على المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية في غُلاف غزة، لتُشكل حدثاً محورياً، أعادت المنطقة إلى حالة الصراعات مُتعددة الجبهات، في الأراضي الفلسطينية ولبنان واليمن والعراق وإيران، ضمن ما عُرف باستراتيجية "وحدة الساحات" في مواجهة إسرائيل. حينذاك، كان لحجم الحرب واتساع نطاق اشتباكها، تأثير واضح في مُستقبل المنطقة وخياراتها: فإما ترسيخ الهيمنة الإيرانية بشكل استثنائي وفريد، أو تحجيمها وبروز قُوى نفوذ أخرى.

في غضون ذلك، تقاربت وجهات النظر العربية الإيرانية، تجاه رفض الحرب في قطاع غزة، والدعوة إلى وقفها، وقد شاركت طهران في القمة العربية الإسلامية الاستثنائية في الرياض في نوفمبر 2023، لكن لمرة أخرى، تباينت مُقاربات الطرفين العربي والإيراني تجاه وسائل وأدوات الاستجابة للحرب،  ففي الوقت الذي سعت فيه الدول العربية لتوظيف الحلول السياسية عبر الدبلوماسية ونهج الضغوط المركبة لوقف الحرب، اتبعت إيران سياسة تصعيد الهجمات العسكرية ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، وأظهرت هي ووكلاؤها قدراً من التصعيد لا يستهان به، دون تردد في إعادة المنطقة إلى أجواء الصراع التي تؤثر بشكل كبير على مشاريع الدول العربية الاقتصادية الوطنية والمشتركة والعابرة للإقليم.

لكن، شهدت الفترة ما بعد سبتمبر 2024، بوادر الانهيار في المحور الإيراني وأدواتها الإقليمية، وتراجع قُدرات الردع الإيرانية، خاصة بعد الضربات الحاسمة التي وجهتها إسرائيل إلى أهم حلفائها؛ حزب الله اللبناني، وبشكل قضى على هيكله القيادي، وجزء كبير من ترسانته الصاروخية، تبع ذلك؛ تغيير النظام الحليف لإيران في سوريا، وصعود قُوى مناهضة لها في ديسمبر 2024، بالتوازي مع إضعاف قُدرات الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وإحباط أنشطة المجموعات المسلحة الميدانية في الضفة الغربية، لا سيما بعد عملية "الجدار الحديدي" التي أطلقتها إسرائيل في 21 يناير 2025.

وقد سارعت الدول العربية لملء جانب من الفراغات التي خلفها الانكفاء الإيراني، إذ تقاربت مع السلطة الناشئة في سوريا، ودعمت تحولات النظام السياسي في لبنان بعيداً عن هيمنة حزب الله السابقة، وكانت الوفود العربية والخليجية من أوائل الزائرين إلى دمشق وبيروت، وقد أسهمت الجهود العربية متعددة الأطراف في سد الثغرات التي يُمكن لإيران إعادة التموضع بها في البلدين، وفي فترة وجيزة تحولت الدولتين من العُزلة إلى التموضع السياسي والاقتصادي العربي والدولي، وقد بدأت لبنان أولى خطواتها بتجاه نزع ما تبقى من سلاح حزب الله الذي شكل في وقت ما أحد أهم مرتكزات القُوة والنفوذ الإيرانيين.

حرب الـ 13 يومًا: المقدمة لتحولات موازين الإقليم

ظلت الدول العربية بعيدة عن المُشاركة في سياق التصعيد الأوسع بين إيران وإسرائيل سواء المباشر أو غير المُباشر، بقدر تركيزها على وقف الحرب في قطاع غزة، مع حفاظها على قدر من المعقولية للحفاظ على توازنات عُلاقاتها بين الدولتين، لكن الأحداث التالية للهجمات الإسرائيلية وتقويضها أطراف "وحدة الساحات"، عقَّدت بشكل ملحوظ من الحسابات العربية، خاصة بعد أن بدأت إسرائيل توجيه ضرباتها ضد القدرات العسكرية الإيرانية في 13 يونيو 2025، ثُم دخول الولايات المتحدة على خط تلك الهجمات، في 22 يونيو 2025، بعد توجيه ضربة عسكرية دقيقة استهدفت ثلاث منشآت نووية مركزية: فوردو، ونطنز، وأصفهان. وقد جاءت مواقف الدول العربية والإسلامية والتي أدانت 21 دولة منها بالفعل الهجمات الإيرانية، بالانطلاق من ثلاث ركائز رئيسية:

الأولى: أنَّ استهداف قُدرات النظام الإيراني، قد تُقوض سيطرته على جغرافيا البلاد، وقد تفضي مع مرور الوقت إلى سقوطه، وصحيح أن العلاقات العربية الإيرانية ضلت تستدعي الحذر منذ عام 1979، وأن في سقوط ذلك النظام مصلحة عربية لإقامة علاقات براغماتية وتشاركية مع إيران، لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل المخاطر المترتبة على انهيار مفاجئ أو غير منضبط لذلك النظام، في ظل غياب بدائل سياسية واضحة، أو بنى مؤسسية قادرة على احتواء الفوضى. إذ أن انزلاق إيران إلى حالة عدم استقرارٍ داخلي شاملٍ قد يحمل ارتدادات أمنية واقتصادية عابرة للحدود، تطال مختلف دول الشرق الأوسط، وتُفاقم الوضع الإقليمي الهشَّ.

ثانياً: تُبدي العديد من الدول العربية تخوّفًا متزايدًا من أن يؤدي اختلال موازين القوى في الإقليم إلى دفع إسرائيل نحو ترسيخ نفسها كقوة مهيمنة في المنطقة. ويستند هذا التخوّف إلى ما أثبتته إسرائيل من قدرات عسكرية متقدمة، مكّنتها من تنفيذ ضربات دقيقة وفعالة ضد أهداف تابعة لإيران والحوثيين، على بُعد يزيد عن 2000 كيلومتر من حدودها. وهذا الاستعراض المستمر للقوة الجوية والعسكرية والاستخباراتية يعزز فرضية أن إسرائيل قد تسعى إلى ملء الفراغ الناتج عن تراجع أو انهيار الدور الإيراني، في تكرار محتمل للمشهد الإقليمي الذي سمح لإيران بالتوسع بعد عام 2003، ثم مجددًا بعد اضطرابات عام 2011.

ثالثاً: فقد أظهرت الدول العربية منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، أظهرت رغبة واضحة في تجنب التصعيد، وقد تزايدت هذه المُقاربة عُقب الهجمات الإسرائيلية على إيران، إذ تزايدت معها احتمالات امتداد الصراع إلى الدول العربية والممرات التجارية الرئيسية في المنطقة وخاصة مضيق هرمز، وبالنظر إلى الارتباط الوثيق بين أمن هذه الممرات وسلامة الاقتصاديات العربية، فإن أي تصعيد عسكري واسع قد يفضي إلى اضطرابات كبيرة في إمدادات الطاقة وحركة التجارة، ما يُهدد الاستقرار الاقتصادي الإقليمي.

المكانة-الإقليمية-لإيران-ما-بعد-الحرب-ديناميكيات-المقاربة-العربية-in2.jpg

الخيار العربي في مُواجهة المتغير الإقليمي

استفادت الدول العربية من تجاربها السابقة أثناء الهزات والارتدادات الجيوسياسية الواسعة في المنطقة، وتحديداً تجاه انكفائها عن المشهد العراقي بعد عام 2003، ثُم عن المشهد السوري بعد عام 2011، والذي منح إيران المساحة للتحرك بحرية وتوسيع نفوذها. ومن الواضح أن الدول العربية ترى في الهزة الأخيرة، فُرصة لإرساء نوع من التوازن الإقليمي، دون السماح لطرف واحد بالهيمنة عليه، خاصة وأن السباق لرسم المشهد الجيوسياسي في الإقليم بدأ ما بين إسرائيل وتركيا انطلاقاً من الساحة السورية. وذلك يُمثل أولوية استراتيجية عربية، تفضي إلى المساهمة الفعالة في إعادة هندسة المشهد الإقليمي، بما يعنيه ذلك من تحول التحالفات وأطر العلاقات.

أمام ذلك الواقع؛ تبدو الخيارات العربية محكومة بمجموعةٍ من التطورات في إيران وإسرائيل. من جهة إيران، التي تراجعت المخاوف تجاهها بعد تقويض أدواتها، وتموضعها نحو أولويات الداخل، فإنها مُطالبة بمراجعة عميقة لسياساتها الخارجية تجاه الدول العربية، من أجل استمرار قبولها والحيلولة دون مواجهتها عُزلةً إقليميةً، خاصةً بعد أن فقدت قدراً كبيراً من أدوات فعاليتها المُنفردة في المنطقة، والتي كفلت لها فرض تصوراتها في فترات العزلة.

لكن ذلك يستند في الأساس إلى ما قد تفضي إليه التحولات في المشهد الداخلي الإيراني، فمن شأن صعود القوى الإصلاحية والمعتدلة في إيران، أن يُسهم في انفتاحها على علاقات براغماتية مع الدول العربية والغربية على حد سواء، وأن يحد من نفوذ الحرس الثوري الإيراني في صياغة السياسات الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة. أما إذا اتجه النظام نحو مزيد من التشدد خوفاً على أمنه واستقراره، فقد ينعكس ذلك سلبًا على المقاربة العربية والغربية تجاهه، ويحد من أي خطوات تسمح له بالمشاركة الفاعلة في النظام الإقليمي المُقبل، لا سيما وأن ملفات مثل البرنامج الإيران الصاروخي والأصول النووية وعلاقاتها مع الفاعلين من غير الدوليين، وسلوكها الإقليمي، لا تزال جميعها مطروحة على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة، وون تغير يُذكر من الموقف العربي تجاهها منذ ما قبل الحرب وما ترتب عليها بعدها.

من جهة أخرى، تُحافظ الدول على أولوياتها الاقتصادية، ورؤيتها لنظامٍ إقليمي قائم على التعاون والتكامل والتشاركية، ورفضها أي قُوة مُهيمنة منفردة، وبالتالي، كما أن هُناك اشتراطات عربية لإيران، فإنّ مثيلاتها مطلوبة من إسرائيل إذا ما أرادت الاندماج فعلياً في النظام الإقليمي، وبينما تُراقب الدول العربية سلوك الأخيرة وسياساتها تجاه قطاع غزة وتوسعها المُفرط في الضفة الغربية، فإنّ ذلك قد يصطدم بملفات على تماس مُباشر بها، ومن أهم هذه الملفات توسيع اتفاقيات التطبيع لتشمل السعودية وبالتبعية سوريا ولبنان، حيث حددت الرياض إقامة دولة فلسطينية كشرط أساسي للتطبيع، وفي ضوء استمرار الحرب في قطاع غزة، وما يُرافقها من أزمة إنسانية غير مسبوقة، فلن يكون من السهل على إسرائيل أو الولايات المتحدة تمرير حزمة اتفاقيات جديدة.

بذلك، استطاعت الدول الخليجية التي زارها الرئيس دونالد ترامب في مايو 2025، أن توجد مساراً موازياً للحملات العسكرية الإسرائيلية، بالشراكة مع الولايات المتحدة، والذي استفادت منه على شكل مشاريع اقتصادية، وتحوّل جوهري في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، خاصةً بعد رفع العقوبات الأمريكية عنها بقرار تنفيذي أواخر يونيو 2025. وعلى منوال الخيارين المطروحين لإيران، فأمام إسرائيل الاختيار بين الاندماج وتوسيع الاتفاقيات مُقابل منح الفلسطينيين حقوقهم، ووقف الحرب وحملات الاستعراض العسكري، أو مُواجهة حالةٍ من الغُربة في الإقليم وإن كانت قوةً نافذةً فيه، واستبعادها من الترتيبات الإقليمية القادمة التي ساهمت في تهيئة الميدان لها، وقد يكون الشأن السوري مثالاً حياً على ذلك، إذ أفضت الضغوط المُشتركة إلى تغيير الموقف الأمريكي تجاهها من عدم الانخراط إلى الانخراط شبه الكامل، بالرغم من المخاوف الإسرائيلية بشأن ذلك.

وفي هذا السياق، تعد أحداث السويداء نموذجًا دالاً على تحولات المقاربة الإسرائيلية في سوريا، وارتباط ذلك بالموقف العربي من إعادة تشكيل التوازنات. فالتدخل الإسرائيلي العسكري المباشر في المحافظة منتصف يوليو 2025 عبر ضربات جوية استهدفت قوات الجيش والأمن التابعة للحكومة المؤقتة ومواقعها عسكرية في دمشق ودرعا واللاذقية، يعكس انتقال إسرائيل إلى سياسة التدخل الاستباقي في العمق السوري. وهو تحول يُفهم في الأوساط السياسية العربية التي أدانته على أنه محاولة إسرائيلية لإعادة ترسيم حدود النفوذ في الجنوب السوري وفرض واقع أمني ميداني فيه بانتهاك السيادة السورية. في ظل ذلك، فإن الدول العربية التي تسعى إلى تحجيم أدوار القوى الإقليمية غير العربية، تتعامل مع السلوك الإسرائيلي في السويداء بحذر مزدوج؛ إذ تدرك أهمية كبح النفوذ الإيراني في سوريا ومنع عودته، لكن دون تمكين إسرائيل من شرعنة تدخلاتها عبر الأقليات، بتكرار النموذج الإسرائيلي في لبنان خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

وبناءً عليه، فإن الملف السوري، وتحديدًا السويداء، سيشكل نموذجًا مصغرًا للمقاربة الإسرائيلية-العربية ما بعد الحرب في قطاع غزة، فإن رغبت إسرائيل في توسيع اتفاقيات التطبيع لتشمل السعودية وسوريا ولبنان، سيترتب عليها الانخراط في بيئة عربية قائمة على التعاون والتوازن، بضبط سلوكها الإقليمي، ليس فقط في غزة والضفة الغربية، بل أيضًا في كيفية تعاملها مع الأزمات السورية الداخلية، بما لا يُعيد إنتاج منطق الهيمنة، خاصة في ضوء اشتراطات عربية واضحة لمعادلة التطبيع. خلاف ذلك، فإن أي محاولة لفرض وقائع ميدانية أحادية ستقابلها ممانعة عربية تؤدي إلى استبعاد إسرائيل من منظومة الترتيبات الإقليمية الجديدة حتى وإن بقيت طرفًا قويًا عسكريًا، كما حدث مع إيران حينما وظفت الفوضى لتوسيع نفوذها على حساب الإجماع العربي وسيادة الدول.

وأخيراً؛ يواجه النظام الإقليمي اليوم منعطفًا حاسمًا قد يقود إلى اندماج إقليمي شامل، يضم إيران وإسرائيل أو أحدهما، في إطار ترتيبات سياسية وأمنية واقتصادية تعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة. ومع ذلك، يبقى احتمال تجدد التنافس والصراع على النفوذ قائمًا بالاستناد إلى تجارب ما بعد 2003 و2011. في هذا السياق، تتحدد المقاربة العربية تجاه كل من إيران وإسرائيل بناءً على سلوكهما وتموضعهما الإقليمي، فضلاً عن مسار التوازنات الإقليمية في مرحلة ما بعد الحرب، ما يجعل قدرة الفاعلين العرب على ضبط مصالحهم الاستراتيجية وتوجيه ديناميات المنطقة عاملاً حاسمًا في مستقبل الاستقرار الإقليمي.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات