"مناورة هيمليك": تغيير الواقع الأمني الإقليمي

يشهد الشرق الأوسط تحولًا جذريًا بعد نجاح إسرائيل في تفكيك الطوق الإيراني حولها عبر "مناورة هيمليك"، التي نقلت المواجهة من حدودها إلى عمق إيران. هذه العملية أعادت رسم موازين القوى، وفتحت الباب أمام واقع إقليمي جديد يقوم على الردع الفعّال وخيارات بين التصعيد والتسوية.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٠‏/٠٧‏/٢٠٢٥

يشهد الشرق الأوسط تحوّلاً جذرياً في موازين القوى، في أعقاب تراجع النفوذ الإيراني وتآكل أدوات وكلائها، وانهيار استراتيجيتها المعروفة بـ "وحدة الساحات"، التي سعت من خلالها إلى تطويق إسرائيل ضمن طوق استراتيجي متعدد الجبهات. وقد استندت هذه الاستراتيجية إلى شبكة معقدة من الأنشطة المركبة والهجينة، والتي شكلت تهديداً مباشراً لأمن الدول وجيوشها النظامية على حد سواء. في المقابل، جاء الرد الإسرائيلي على درجة عالية من التعقيد والابتكار، مُرسياً مفاهيم عسكرية وعملياتية جديدة تتجاوز البيئة الإقليمية إلى الأطر الدولية. وهو ما يستدعي اهتماماً خاصاً بتحليل الفعل الاستراتيجي الإسرائيلي الذي تمكَّن من تفكيك الطوق الإيراني حول حدوده، وهو نقاش ضروري يأتي في توقيت مرتفع الأهمية، بعد أن ظلّ نقاش المسائل الإسرائيلية محاطاً بحساسية شديدة في العقلية والخطاب العربي.

كيف فكرت إسرائيل في وجود إيران حولها لسنوات؟

لطالما سعت إيران إلى إنشاء وتثبيت "حبل خانق" حول إسرائيل، وهو مفهوم غير رسمي تحوّل إلى واقع أمني معقّد لإسرائيل، وجدت نفسها -بموجبه- محاطة بوكلاء موالين لإيران ينتشرون على حدودها من الشمال والجنوب والشرق، بينما ظلّت إيران نفسها — صاحبة المبادرة والتمويل والتوجيه — بعيدة عن أي تهديد مباشر وملموس من قبل إسرائيل.

وعملياً، فرض هذا الواقع الأمني وضعاً أصبحت فيه لإيران حدودٌ فعلية مع إسرائيل، دون أن يكون لإسرائيل حدود مماثلة مع إيران. وقد أتاح هذا المنطق لإيران حريةَ حركةٍ واسعةً دون أن تتحمل التكاليف المعتادة للمواجهة المباشرة. وفي حين كانت أنشطة وكلائها وحلفائها — مثل حزب الله، حماس، الجهاد الإسلامي، والميليشيات في العراق وسوريا — تعزز مصالحها وترسخ نفوذها، حافظت إيران لنفسها على صورة سياسية تبدو أكثر اعتدالًا نسبياً.

لطالما حاولت الاستعارات والتشبيهات المختلفة تصوير المأزق الإسرائيلي: فمثلها البعض برأس قطة تستخدم مخالبها للهجوم بينما تبقى هي بمنأى عن الخطر ، ورآها آخرون كرأس أخطبوط يمد مجساته عبر الساحات الإسرائيلية، بينما تصورها غيرهم بحبل خنق إيراني يطوق إسرائيل. وفي كل هذه التشبيهات ، ظهرت إسرائيل كطرف مستهدف، ينفرد بردود الأفعال. مقيدًا بفعل البعد الجغرافي الكبير وطبقات الدفاع المتتالية تفصله عن إيران.

ويمكن الجزم، بأن العمليات العسكرية الإسرائيلية اللاحقة  لحرب غزة، بما شملته من تطورات في لبنان وسوريا، وانعكاساتها على إيران بعد عملية "الأسد الصاعد"، قد أعادت تشكيل الخريطة الأمنية الإقليمية، فلم يعد الوضع كما كان، إذ أصبح لإسرائيل الآن حدود مع إيران، بينما لم تعد لإيران حدود مع إسرائيل.

مناورة-هيمليخ-تغيير-الواقع-الأمني-الإقليمي-in11.jpg

"مناورة هيمليك": إزالة الطوق الإيراني

على مدار العامين ونصف الماضيين نفّذت إسرائيل "مناورة هيمليك" إقليمية لإزالة "الحبل الخانق" من حولها، وفتح طريقٍ جويٍ يسمح لها ولمختلف الدول المتضررة من إيران بالتنفس بحرية مرةً أخرى.

فقد أدّت ضرباتها إلى تعرّض أذرع إيران الرئيسية لضرر بالغ: خسر حزب الله بنيةً تحكُّمه وهيبته على حدٍ سواء؛ وتلقَّت الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية ضرباتٍ قويةً؛ وأصبحت سوريا "ساحةً مفتوحةً" للنشاط الإسرائيلي الموجّه؛ بينما تُركت الساحة العراقية —التي كانت بمثابة جسر إيران الاستراتيجي— مضطربةً وغير قادرةٍ على التركيز. لقد أصبح "المحور" الذي عرفناه "محورًا مكسورًا".

وفي ضوء هذه التحولات، جاءت العملية العسكرية الإسرائيلية "الأسد الصاعد"، التي فتحت خلالها ممرًا جويًا مباشرًا، وحقّقت تفوقًا جويًا سواء في طريقها إلى إيران أو في عمق أراضيها.

وفي الوقت الذي كانت فيه إيران تُحكِم الطوقَ حول إسرائيل، كانت الأخيرة ترسِّخ وجودَها الاستخباراتي الفاعل داخل العمق الإيراني، متوغّلةً في البنية السياسية والعسكرية للدولة.

وتلك التحركات الإسرائيلية ليست مؤقتةً أو لحظيةً: إذ تريد إسرائيل أن تحافظ على تفوّقها الجوي في سماء سوريا والعراق، وإذا ما حاولت إيران إعادةَ بناء منظوماتها الدفاعية الجوية داخل أراضيها، فإن التحرك الإسرائيلي سيكون سريعًا ومباشرًا ولن يستمع لأي نصحٍ يمنعها من ذلك.

التوظيف المفاهيمي والعملياتي في الحرب

تمثل التطورات اللاحقة للحرب في قطاع غزة ووصولاً إلى ضرب القدرات العسكرية والنووية الإيرانية، ثورةً على المستويين المفاهيمي والعملياتي. فقد انتقلت إسرائيل من كونها "هدفاً" إلى "فاعل إقليمي". من خلال التوظيف الفعّال للاستخبارات وقوة المعلومات المتراكمة واللحظية، مع المرونة العملياتية في تنفيذ الأهداف. وبهذه الطريقة استطاعت إسرائيل—وربما للمرة الأولى—إلحاق هزيمةٍ حقيقيةٍ بالفصائل المسلحة غير النظامية، واختراق بنيتها التنظيمية وكشف أسلوب عملها، وتمكّنت من القضاء على قادة حزب الله وفيلق القدس وغيرهم من الفصائل الأخرى، والإضرار بترسانتهم العسكرية وأنشطتهم المُدارة في الظل. وفي الوقت ذاته تجنّبت الانزلاق إلى مواجهةٍ شاملةٍ أو خوضها لأنماط حرب العصابات المعروفة بـ Guerrilla warfare، وهو ما يُعد تحولاً نوعياً في مقاربة التعامل مع التهديدات غير التقليدية والهجينة واللا متماثلة حول العالم.

بالنسبة لإسرائيل، فإن ما تحقق لا يُعدُّ مجرد إنجازٍ عسكري وأمني، بل يُمثّل لحظةً مفصليةً تتيح لها إعادة تشكيل وهندسة المشهد الإقليمي بأسره، وفقاً لرؤيتها لموازين القوى ولترتيبات ما بعد الحرب وتداعياتها، والتي خلّفت فراغاً واسعاً ناتجاً عن انكفاء إيران عن مناطق نفوذها السابق والذي امتدّ عبر دولٍ عربيةٍ عدّة، من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن، حيث تغلغل وكلاؤها وبسطوا نفوذهم العميق على القرار السياسي والأمني لتلك الدول. وقد ألحق هذا التمدد أضرارًا فادحةً بالمنظومة الأمنية الإقليمية، من خلال أنشطةٍ عسكريةٍ وإجراميةٍ متشابكةٍ، كان من بينها تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود ومحاولة بناء خلايا إرهابية في الدول المستهدفة.

أما اليوم، فقد استعاد لبنان موقعه ضمن الحاضنة الوطنية والعربية، بينما تمرّ سوريا بمرحلةٍ انتقاليةٍ تتخللها حالةٌ من الفراغ الأمني الواسع والسيولة. وفي المقابل، يقف العراق في قلب صدمة التحوّلات الإقليمية، وقد آثر النأي بنفسه عن الحرب قدر ما استطاع.

وجاءت عملية "الأسد الصاعد" لتوجِّه ضربةً موجعةً لقدرات الحرس الثوري، سواءٌ في الداخل أو الخارج، وعلى رأسها ترسانة الصواريخ الباليستية. فيما وجّهت العملية العسكرية الأمريكية ضربةً قويةً لطموحات إيران النووية، بعدما استهدفت قاذفات (B2) منشآتها النووية الثلاث الأبرز: نطنز، وأصفهان، وفُرودو، منهيةً بذلك مرحلةً طويلةً من التهديد الاستراتيجي الذي مثّلته تلك المنشآت لأمن المنطقة وللسلام العالمي والإقليمي.

مناورة-هيمليخ-تغيير-الواقع-الأمني-الإقليمي-in-2.jpg

المنطقة ضمن خيارين: الحرب أو السلام

لا تزال سيناريوهات المواجهة قائمةً، وهناك من يواصل تحريك الأحجار وافتعال الصراعات، ساعيًا لإبقاء مشهد الحرب مهيمنًا على واقع الشرق الأوسط. ففي واشنطن، برز تباينٌ حادٌ بشأن تقييم حجم الضرر الذي لحق بالمنشآت النووية الإيرانية جرّاء الضربة الأمريكية، وهو تباينٌ لا يقتصر على قراءة الأثر المباشر، بل يتعدّاه إلى رسم ملامح الخيارات المطروحة أمام المنطقة.

فالشرق الأوسط يقف اليوم أمام مفترق طرقٍ حاسمٍ: إما الانزلاق مجددًا نحو صراعٍ محتدمٍ حول البرنامج النووي الإيراني، بما يعيد المنطقة إلى مربع الأزمات التقليدية؛ أو الانخراطُ في مسارٍ جديدٍ قائمٍ على نزع التهديدات، وكبح سباق التسلح، وتغليب مسارات التكامل الاقتصادي والتنمية المستدامة.

وتتضاعف حساسيةُ هذا المشهد بفعل موقع الشرق الأوسط كساحةٍ استراتيجيةٍ متشابكةٍ مع بؤر التوتر والصراع حول العالم. فاحتمالُ دخول لاعبين جدد إلى الميدان يتزايد، والتفاعلاتُ الجيوسياسية في أوكرانيا وتايوان قد يتردد صداها إلى طهران، ما يجعل المنطقة عرضةً لأن تتحول إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات والصراعات الدولية الكبرى.

لكن، وسط هذا التعقيد، يمكن القول إن الأوان قد حان لخفض صوت طبول الحرب التي اجتاحت المنطقة خلال العامين الماضيين، وفتح الباب أمام مرحلة من التهدئة والتوازن. فعلى إسرائيل أن تدرك أدوات القوة الصلبة التي دفعت إيران ووكلاءها للتراجع، لا يمكنها وحدها رسم المشهد الإقليمي المُقبل. بل قد تدفع إلى التصادم مع دول المنطقة وإطلاق تنافس جيوسياسي جديد وبؤر صراعاتٍ جديدةٍ، بدأت معالمها بالفعل تتضح في الساحة السورية.

من جهة أخرى فإن التفوّق الإسرائيلي يستند إلى مسارٍ أحادي من القدرات العسكرية والاستخباراتية كما برز بوضوح خلال الحرب، وهناك شكوكٌ حول قُدرة المسار العسكري فحسب على تشكيل وهندسة المشهد الإقليمي القادم، بمعزلٍ عن الأدوات الأكثر أهميةً مثل السياسية والاقتصادية. ومن دون هذا التكامل بين تلك الأدوات فإن المشهد الإقليمي سيكون هشاً ومعقداً ولا يتسم بالاستقرار.

المشهد المُقبل: الصراع أم التعاون

عادت آفاق توسيع اتفاقيات السلام العربي/الإسرائيلي إلى الواجهة من جديد، لاسيما عقب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، وهو الصراعُ الذي كان يُنذر، في -حال استمراره- بزعزعة الاستقرار الإقليمي برمّته. ومع ذلك وبالرغم من اتساع رقعة الحرب وتعدّد أطرافها وتنوّع أهدافها، بقيت الدول العربية – إلى حد كبير – بمنأى عن تداعياتها المباشرة، وتجنّبت الانخراط المباشر سواءً على صعيد التصريحات السياسية أو التحركات العسكرية. كما امتنعت كلٌّ من الأردن ومصر ودول الخليج عن السماح باستخدام أجوائها في العمليات العسكرية الأمريكية أو الإسرائيلية، وهو موقفٌ تفهمته كلٌ من واشنطن وتل أبيب.

يأتي هذا رغم أنَّ التهديد الإيراني يمسُّ الأمن القومي العربي بشكل مباشر، وقد امتدت تداعياته لعقود، كما دأبت إيران على انتهاك السيادة الجوية العربية في هجماتها المتكررة ضد إسرائيل. وصحيحٌ أنَّ إسرائيل سعت لتحقيق مصالحها الذاتية في المقام الأول، إلا أنه ومن منظور استراتيجي، فإنّ عمليةَ "الأسد الصاعد" وما سبقَها من عمليات إسرائيلية ضدّ المحور الإيراني، قادتْ إلى تغيير موازين القُوى التي مالت لصالح إيران بعد عام 2011، وفتحت المجال أمام تشكيل منظومة إقليمية جديدة.

من ناحية أخرى، أدّت التهديدات الإيرانية والمخاطر الأمنية المرتبطة بها إلى دفع دول المنطقة نحو تأسيس ترتيبات دفاعية مشتركة بالتعاون مع الولايات المتحدة، وهو ما أسهم بفعالية في تمكين الدول العربية من حماية سيادتها والتصدي للاعتداءات الإيرانية، بما في ذلك الصواريخ والطائرات دون طيار التي اخترقت أجواءَها. وقد برز أثرُ هذا التنسيق الإقليمي في أكثر من مناسبة، كان أبرزُها التصدي للأجسام الطائرة الإيرانية المتجهة نحو إسرائيلَ عبرَ الأجواءِ العربية في 14 أبريل 2024، وتكرّر المشهدُ في هجمات مطلع أكتوبر من العام ذاته، وكذلك خلالَ الهجمات الأخيرة التي تلت تاريخ 13 يونيو 2025.

وفي المحصلة، فإن ما حقّقته إسرائيل لم يكن محض جهد أحاديّ، بل جاء نتيجة تقييمٍ مشتركٍ للتهديدات بينها وبين الولايات المتحدة، وانبثق جزئياً عن مسارٍ إقليميٍ آخذٍ بالتبلور منذ عدة سنوات. وقد تعزّز هذا المسار تحديداً خلال الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب (2017–2021)، التي شهدتْ ترسيخ دور الولايات المتحدة كحلقة تنسيقٍ مركزيةٍ في القضايا الدفاعية الإقليمية، وساهمتْ في تعزيز التنسيق بين دول المنطقة لمواجهة التهديدات المشتركة.

وهذا يعني أنَّ النتائج الاستراتيجية للحرب ينبغي أن تُبنى على أساس تشاركي، لا أن تُفرض من قبل دولة واحدة على بقية الأطراف، وهو نهج أثبتت التجربةُ التاريخيةُ فشله وعدم جدواه. فالمطلوب اليوم هو استثمارُ هذه المرحلة لتأسيس منظومة أمن إقليمي متكاملة تستوعب الجميع، وتُعزز الازدهار الاقتصادي، وتُكرس التعاون في المجالات السياسية والأمنية والتكنولوجية والتجارية، بما يتيح جذب تدفقات استثمارية كبرى، وتحقيق تنميةٍ شاملةٍ تقوم على استغلال أمثل لموارد الطاقة في المنطقة.

"مناورة هيمليك": سميت المناورة على اسم الطبيب الأمريكي هنري هيمليك (Henry Heimlich) وهي إجراء إسعافي طارئ يُستخدم لعلاج انسداد مجرى الهواء الناجم عن دخول جسم غريب.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات