إسرائيل والجنوب السوري: حدود القوة ومحددات التسوية في السويداء

شهدت محافظة السويداء تصعيداً أمنياً واسعاً بعد اشتباكات بين فصائل درزية وعشائر بدوية، أعقبها تدخل عسكري من الحكومة السورية المؤقتة، ما دفع إسرائيل إلى تنفيذ ضربات جوية اعتبرتها رداً على خرق مبدأ "المنطقة منزوعة السلاح" والتزاماتها تجاه الطائفة الدرزية. وأسفر ذلك عن انسحاب القوات السورية وتوقيع اتفاق تهدئة مع المرجعية الدينية في السويداء، تضمن ترتيبات أمنية وإدارية محلية. وكشفت هذه التطورات عن فجوة في فهم الحكومة المؤقتة للموقف الإسرائيلي، ما يضع تموضعها في الجنوب وعلاقاتها مع الدروز والأكراد أمام تحديات قد تعيد رسم التوازنات.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٧‏/٠٧‏/٢٠٢٥

شهدت الساحة السورية تطورات أمنية معقدة في الجنوب، وتحديداً في محافظة السويداء، على خلفية تداخل الحسابات الديناميكية بين الحكومة السورية المؤقتة وإسرائيل والطائفة الدرزية في الدولتين، ما أدى إلى تفاقم الأحداث التي بدأت باشتباكات محدودة بين مجموعات مسلحة محلية، وتحوّلها إلى تصعيد عسكري إسرائيلي هو الأوسع ضد قوات الجيش والأمن التابعة للحكومة المؤقتة. وقد كشف ذلك عن الفجوة الواضحة في قراءة الحكومة السورية المؤقتة للموقف الإسرائيلي، وفي مدى التزام إسرائيل بمنع دخول قوات السلطة الانتقالية إلى الجنوب السوري، الذي تهدف من خلاله إلى إبقاء المنطقة "منزوعة السلاح"، وبشكل يُعيد ضبط قواعد الاشتباك والتوازنات في المنطقة الحدودية بين البلدين. 

التوترات في السويداء وتطوراتها

بدأت التوترات في السويداء بعد عمليات اختطاف متبادلة بين فصائل مسلحة درزية وعشائر بدوية، تصاعدت حدتها في يومي 13 و14 يوليو 2025 إلى اشتباكات متواصلة أسفرت عن مقتل أكثر من 30 شخصاً وإصابة نحو 100 آخرين، بحسب وزارة الداخلية السورية. وقد دفعت هذه التطورات الحكومة السورية المؤقتة إلى إرسال قوات عسكرية تشمل دبابات ومدرعات إلى المنطقة الفاصلة بين درعا والسويداء، حيث تمكنت في 14 يوليو من السيطرة على قرية المزرعة الدرزية الواقعة على مشارف السويداء، مما أتاح لها التوغل في أحياء المحافظة ووضعها في مواجهة مباشرة مع الفصائل المسلحة التابعة للزعيم الروحي حكمت الهجري، الذي رفض دخول قوات السلطة الانتقالية، مطالباً بتدخل دولي لحماية المحافظة. إلا أن نقطة التحول تمثلت في تحول مهمة القوات السورية من فرض التهدئة إلى بسط السيطرة على كامل السويداء في 15 يوليو، وتمشيط أحيائها بحثاً عن المسلحين المعارضين لها، ما دفع إسرائيل إلى اعتبار تلك التطورات اختراقاً لمبدأ "المنطقة منزوعة السلاح" في الجنوب السوري، وانتهاكاً لالتزاماتها تجاه الدروز السوريين، حيث شنّت في 14 و15 يوليو ضربات استهدفت خلالها الدبابات والآليات التي كانت تتجه نحو محافظة السويداء، قبل أن تتوسع في 16 يوليو لتطال عدة مواقع عسكرية للنظام في دمشق ودرعا واللاذقية.

وعليه، دفع التدخل الإسرائيلي إلى انسحاب الجيش وقوات الأمن السورية من المناطق التي سيطرت عليها في السويداء ومحيطها، وتوقيع اتفاق تهدئة مع المرجعية الدينية الدرزية، من بينهم شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء يوسف جربوع ووجهاء المدينة، يقضي بوقف إطلاق النار بين جميع الأطراف، وتنظيم ملف السلاح الثقيل بالتعاون مع وزارتي الداخلية والدفاع، بما يضمن إنهاء مظاهر التسلح خارج إطار الدولة، مع احترام خصوصية المحافظة الاجتماعية والتاريخية. كما تضمّن الاتفاق التزام السويداء بالاندماج الكامل ضمن مؤسسات الدولة، وتفعيل جميع المؤسسات الرسمية، إلى جانب تشكيل لجنة للتحقيق في الجرائم والانتهاكات، وإطلاق سراح المعتقلين، وتشكيل لجنة مشتركة لمتابعة التنفيذ. 

إسرائيل-والجنوب-السوري-حدود-القوة-ومحددات-التسوية-في-السويداء‎-in-1.jpg

في الواقع، تُعدّ تلك التطورات الأوسع نطاقاً والأكثر تصعيداً مقارنةً بحالات التدخل الإسرائيلي السابقة في ترتيبات الجنوب السوري، لا سيما عند مقارنتها بالأحداث التي شهدتها منطقة صحنايا وجرمانا في 30 أبريل 2025، حين تدخلت إسرائيل في التوتر القائم هناك، ونفذت غارة تحذيرية ضد مجموعات مسلّحة مؤيدة للحكومة المؤقتة، أعقبتها ضربة تحذيرية أكثر وضوحاً في محيط قصر الشعب في 2 مايو. مع ذلك، تكشف التطورات الأخيرة عن جانب أوسع من المقاربة الإسرائيلية تجاه الجنوب السوري والحكومة المؤقتة، خاصةً وأنها تأتي بعد يومين فقط من المحادثات المباشرة التي عُقدت بين الطرفين في أذربيجان في 12 يوليو 2025.

قراءة في التحرك الإسرائيلي

يُظهر التحرك الإسرائيلي عقب التطورات الأمنية في مدينة السويداء درجة عالية من الدقة والانضباط المرحلي، واتّسم بتصعيد محكوم بجملة من المتغيرات والضغوط المتضاربة.

فأولاً، استند إلى توازن حساس بين الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة ومطالبها بعدم التورط المباشر في الداخل السوري، وبين ضرورة التدخل الإسرائيلي تأكيداً على التزاماتها تجاه الطائفة الدرزية، سواء داخل إسرائيل أو في سوريا، والتي عبر العشرات من أفرادها إلى الداخل السوري. 

وثانياً، جاء متدرجاً ومدروساً، حفاظاً على إطار مقاربتها الأمنية في الجنوب السوري، ومنعاً لأي محاولات لاختراقه من قِبل القوات السورية، من دون أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار النسبي، الهش بطبيعته، في البلاد.

وفي هذا السياق، حمل التحرك العسكري رسائل سياسية وعسكرية واضحة ومتعددة المستويات تجاه الحكومة السورية المؤقتة، تجلّت في تنفيذ ضربات خارج نطاق الجنوب السوري، من خلال استهداف مبنى وزارة الدفاع وهيئة الأركان بشكل مباشر، وهو ما أسفر عن أضرار مثّلت مؤشراً جدياً على اتساع نطاق الردع الإسرائيلي، مع ملاحظة تجنّب توجيه ضربات مباشرة إلى قصر الرئاسة، والاكتفاء بقصف محيطه للمرة الثانية على التوالي، بعد قصر الشعب في مايو، في الحالتين رداً على أحداث مرتبطة بالجنوب، كإشارة واضحة إلى أن حدود التدخل وأهدافه قد تتسع لتشمل الضغط باتجاه تغيير النظام. ومن جهة أخرى، أبرزت إسرائيل في ضرباتها قدرتها على تعقيد معادلة السيطرة بالنسبة للحكومة السورية المؤقتة، من خلال استهداف مقرّي اللواءين 107 و132 في ريف اللاذقية، في منطقة تتسم بتوازن دقيق وعلاقات بالغة الحساسية.

مع ذلك، ظلّت الضربات الإسرائيلية محدودة النطاق والأهداف على حد سواء، إذ لا ترغب إسرائيل في تحويل إجراءاتها الاحترازية إلى خطأ استراتيجي قد يؤدي إلى نتائج عكسية. فتوَسُّع الضربات المتواصلة على سوريا من شأنه أن يُقوّض الاستقرار الهش، وقد يُعيد البلاد إلى مربع الفوضى الذي تستفيد منه الميليشيات الإيرانية والتنظيمات الإرهابية، وهو ما تسعى إسرائيل إلى تجنّبه أو استبعاده أساساً. كما أن تقديم دعم حاسم للدروز ضد "الجيش السوري الجديد" قد يُقوّض مكانتهم مستقبلاً داخل النسيج الاجتماعي السوري، لا سيما وأن استقلالية الدروز أو انضمامهم إلى إسرائيل ليست خيارات قابلة للتطبيق. ويدرك ذلك قطاع واسع من الدروز، من بينهم ليث البلعوس ووليد جنبلاط في لبنان، الذين يقدّمون دعمهم العلني للحكومة السورية، في مواجهة تحالف موفق طريف وحكمت الهجري، الذي يرفض الاعتراف بها ويتقارب مع إسرائيل.

من جهة أخرى، تُريد إسرائيل بقاء الجيش السوري قوياً، ولكن على الحدود الغربية مع لبنان وليس الجنوبية، خاصةً وأن الطرفين يتفقان في عدائهما لإيران، وفي ضرورة إضعاف حزب الله اللبناني. وتُعدّ هذه المشتركات مرشحة للتعزيز في ضوء تزايد المؤشرات على احتمال تنفيذ إسرائيل عملاً عسكرياً ضد الحزب، نتيجة تعنّت حزب الله في مسألة تسليم ما تبقّى من سلاحه شمال نهر الليطاني. وهو ما قد يُعزز الحاجة إلى "الجيش السوري الجديد" لممارسة الضغط على حزب الله من الجانب السوري للحدود، خصوصاً وأن الطرفين شهدا سوابق من هذا النوع. ففي منتصف مارس 2025، نفّذ الجيش السوري عملية عسكرية في قرية حوش السيد، الواقعة على الحدود السورية–اللبنانية، لطرد مقاتلي حزب الله الذين كانوا ينتشرون فيها لتهريب المخدرات والبضائع. ثم في منتصف مايو 2025، قصف الجيش السوري قرى لبنانية خاضعة لسيطرة الحزب، بعد قيام الأخير باختطاف جنود سوريين واقتيادهم إلى لبنان وقتلهم.

مواقع "سوء الفهم" بين الطرفين

تكشف التطورات الأخيرة عن سوء تقدير وقراءة من جانب الحكومة السورية المؤقتة للمقاربة الإسرائيلية الأشمل تجاه المشهد السوري، وتحديداً في عدم تمييزها بين المستويين الدبلوماسي والعملياتي العسكري. فقد اعتقدت الحكومة أن جولات التفاوض، التي انطلقت بشكل غير مباشر في مايو 2025 وتطورت لاحقاً إلى لقاءات مباشرة عُقدت بين مسؤولين من الجانبين في أذربيجان بتاريخ 12 يوليو، تُشير إلى تحوّل جذري في الموقف الإسرائيلي، يتجه نحو اعتماد قنوات الاتصال الخلفية بديلاً عن العمل العسكري. غير أن هذا التقدير أغفل الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، ومقاربتها الثابتة تجاه الجنوب السوري؛ إذ رغم تغيّر نبرة الخطاب الإسرائيلي تجاه الحكومة السورية المؤقتة، ظلّ تحركها وخطابها يتّسمان بالتّصعيد والطابع العسكري في مواجهة أي محاولة لتغيير موازين القوى في الجنوب السوري.

في الواقع، تنتهج إسرائيل نهجاً مزدوجاً في تعاملها مع الملف السوري، حيث تُميّز بوضوح بين مستويين رئيسيين: يتمثل الأول في استعدادها للتواصل مع الحكومة السورية المؤقتة، لكنها في الوقت نفسه تُبقي على مخاوفها تجاه الجيش وقوات الأمن المُشكَّلة من فصائل المعارضة المسلحة سابقاً، والتي تضم في صفوفها عناصر متشددة. وبناءً على ذلك، تنظر إسرائيل إلى تحرّك هذه القوات نحو محافظة السويداء وعموم جنوب سوريا باعتباره "خطاً أحمر"، بهدف منع احتمالية وقوع تصرفات فردية غير منضبطة على طول الحدود مع إسرائيل، ما يُبقي المخاطر الأمنية قائمة، بل مرجّحة من وجهة النظر الإسرائيلية. وقد تأكد ذلك في سجلها القتالي خلال العمليات العسكرية التي جرت في الساحل السوري بين 6 و10 مارس 2025، وما تبعها من أحداث في السويداء، التي كشفت عن ضعف في الانضباط والتنسيق الميداني.

إسرائيل-والجنوب-السوري-حدود-القوة-ومحددات-التسوية-في-السويداء‎-in-3.jpg

من ناحية أخرى، لا تنفصل "الخطوط الحمراء" التي ترسمها إسرائيل تجاه تقدّم القوات السورية نحو الجنوب عن رؤيتها الاستراتيجية للمفاوضات الرسمية المحتملة مع الجانب السوري، إذ تعتبر إسرائيل أن الاعتراف بسيادتها الكاملة على هضبة الجولان يُمثّل شرطاً غير قابل للنقاش لأي اتفاق مستقبلي، وهو ما يعني عملياً إسقاط اتفاقية عام 1974، وقبول الحكومة السورية المؤقتة بالتنازل عن أراضٍ سورية.

وإلى حين بلوغ مثل هذا التفاهم النهائي، تُصرّ إسرائيل على إبقاء الجولان محصّناً عبر إقامة منطقة عازلة تمتد من الحدود وصولاً إلى ريف دمشق، وتشمل كامل الجنوب السوري، لتُشكّل بذلك حاجزاً أمنياً دائماً. كما تُوظّف إسرائيل هذه المنطقة العازلة كورقة ضغط في أي مفاوضات، سواء تعلّقت باتفاقيات أمنية محدودة أو بمسارات تطبيع أوسع، بحيث تُصبح استعادة الحكومة المؤقتة لسيادتها على جنوب البلاد هدفاً أكثر إلحاحاً وواقعية، مقارنةً بالمطالبة باسترجاع مناطق السيطرة الإسرائيلية في الجولان بعد تغيير النظام. وفي هذا السياق، يمكن للحكومة السورية عملياً أن تُقدّم أي اختراق تفاوضي على هذا الصعيد بوصفه إنجازاً ناتجاً عن العملية التفاوضية.

وأخيراً، جاءت النتائج الأخيرة للتطورات لتُشكّل بحد ذاتها حلاً وسطياً للطرفين؛ فقد انسحبت قوات الجيش والأمن السوري عقب العمليات العسكرية الإسرائيلية، مقابل التوافق على تكليف ضباط وعناصر شرطة من أبناء السويداء بمهام قيادية وتنفيذية في إدارة الملف الأمني. مع ذلك، وبالرغم من الاتفاق بين الطرفين، عادت الاشتباكات التي اندلعت في 14 يوليو بين المسلحين التابعين لحكمت الهجري والعشائر البدوية إلى الاندلاع من جديد في 17 يوليو، ما يضع الحكومة المؤقتة في موقف حرج يتمثل في الشكوك حول إمكانية تدخلها مجدداً ومواجهة ضربات إسرائيلية، أو بقائها على الحياد ومواجهة انتقادات بالضعف والتقصير في حماية السوريين. وعلى نحو أوسع، يُؤثر تعثّر الحكومة السورية المؤقتة في السويداء، وقبولها بحلول وخيارات لا ترقى إلى مستوى طموحاتها في بسط السيادة، على مستقبل محادثاتها مع قوات سوريا الديمقراطية، بل وقد يدفع إلى تشكيل تحالف درزي–كردي مستقبلاً في مواجهة الحكومة المؤقتة.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات