مسارات العملية العسكرية الإسرائيلية ضد القدرات الإيرانية
تضع الهجمات الإسرائيلية ضد منظومة القيادة العسكرية والقدرات الدفاعية والهجومية الإيرانية، التطورات القادمة، في سياق مجموعة من الاتجاهات والمسارات التي يمكن صياغتها بناءً على مجمل الأحداث التي شهدتها المنطقة ووكلاء إيران منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة. وكذلك بناءً على حجم الضربات نفسها، التي لا يبدو أنها جاءت كحدث عابر أو مجرد ورقة ضاغطة على إيران، وإنما تستهدف بالأساس ترسيخ المشهد والهندسة الإقليمية لما بعد الحرب.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٦/٠٦/٢٠٢٥

بدأت إسرائيل صبيحة 13 يونيو 2025، عملية عسكرية ضد القدرات الإيرانية، اشتملت على مجموعة من الضربات ضد المنظومة القيادية والعسكرية الإيرانية، والتي جاءت ضمن عدة موجات لا تزال مستمرة، وأدت إلى مقتل عدد من قادة الحرس الثوري والعُلماء النوويين، وتدمير منشآت عسكرية ونووية من بينها منشأة نطنز. وفي الواقع؛ أطلقت العملية جولة تصعيد جديدة بين إسرائيل وإيران، تختلف عن جولات التصعيد السابقة بين الطرفين سواء في الأهداف والاستراتيجيات والتكتيكات، أو في توصيفها باعتبارها جولة تصعيد أو حالة "حرب" متكاملة الأركان، باعتبارها حلقة من سلسلة ممتدة من الحرب السرية بين إسرائيل وإيران على مدار عقدين من الزمان على الأقل، وحلقة متقدمة من المواجهات بين الطرفين منذ 7 أكتوبر 2023. ما يطرح تساؤلات حول تطورات الأيام القادمة، والتي تضع المشهد أمام ثلاثة مسارات تتعلق أساسًا بطبيعة الهجمات الإسرائيلي والهدف منها وطرق الاستجابة الإيرانية المتصاعدة لها.
العملية العسكرية ضد القُدرات الإيرانية
نفذت إسرائيل سلسلة من الضربات العسكرية ضد منظومة القيادة العسكرية الإيرانية والمنشآت النووية وأهداف عدة أخرى، إذ وخلال الموجة الأولى من الهجمات، قتلت إسرائيل عددًا من أعضاء الرأس الثلاثي للجسم العسكري: الحرس الثوري، هيئة الأركان، خاتم الأنبياء، من بينهم قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، ورئيس هيئة الأركان الإيراني محمد باقري، ونائب رئيس الهيئة العامة للقوات المسلحة غلام رشيد، وعدد آخر من كبار قادة سلاح الجو، منهم قائد القوات الجو-فضائية أمير علي حاجي زادة، قائد الطائرات المسيّرة طاهر بور، ورئيس الدفاع الجوي داود شيخيان. بالإضافة إلى علي شمخاني المستشار الأعلى للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. إلى جانب اغتيال تسعة علماء نوويين، من بينهم الرئيس السابق لهيئة الطاقة الذرية فريدون عباسي، والعالم النووي مهدي طهرنجي. بالإضافة لتدمير منشآت عسكرية من بينها منشأة نطنز النووية، ومطار تبريز. ثم تطوّرت تلك الضربات لاحقاً لتطال أهدافاً مدنية وبعض منشآت الطاقة، فيما يبدو أقرب إلى الاستهداف التكتيكي التحذيري منه للاستهداف الاستراتيجي.
من الناحية العملياتية، تُعتبر الهجمات الإسرائيلية استكمالاً لسلسلة متواصلة من الضربات المباشرة عبر استهداف قادة فيلق القدس المسؤولين عن توجيه عمليات إيران في الخارج خاصة في سوريا ولبنان والبنى التحتية العسكرية الإيرانية في الدولتين، أو غير مباشر من خلال الاستهداف المركب لأذرع إيران في المنطقة: حزب الله في لبنان، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، والحوثيين في اليمن، بالإضافة الى سوريا ذاتها قبل سقوط النظام. كما جاءت تلك الضربات في ظل استمرار المسار التفاوضي بين إيران والولايات المتحدة حول البرنامج النووي الإيراني، وبعد نهاية المهلة التي منحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإيران للموافقة على الشروط الأمريكية للاتفاق وهي ستون يومًا.
وعلى المنوال ذلك نفسه، تكشف العملية، عن اتساع حجم الاختراق الإسرائيلي لإيران، وبما يُشبه ذلك الاختراق الذي قضى سابقاً على قادة حزب الله وقدراته العسكرية. إذ تضمنت العملية العسكرية أنشطة مركبة ومعقدة، من بينها تواجد عملاء للمخابرات الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية، وتنفيذهم أنشطة عسكرية من بينها تهريب أسلحة متطورة إلى داخل إيران استخدمت في تدمير بطاريات الدفاع الجوي، وفي تنفيذ الاغتيالات ضد قادة الجيش والعلماء النوويين، وهجمات سيبرانية أدت إلى تعطيل العديد من منظومات الدفاع الجوي وشبكة الرادارات، إلى جانب الدور الذي قامت به حوالي 200 طائرة إسرائيلية استهدفت خلال الموجة الأولى حوالي 100 هدف وفقاً لبيانات الجيش الإسرائيلي من بينها المنشآت العسكرية الاستراتيجية، وهو ما يذكّر بما أشار إليه الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد في يونيو 2021 حول أنّ "رئيس الوحدة السرية المكلفة بتعقب عملاء الموساد الإسرائيلي داخل إيران، كان هو نفسه عميلاً للموساد، وأنّ الشخص المعني لم يكن يتحرك بمفرده، بل كان ينسق العمل مع نحو 20 عنصراً آخرين داخل نفس الوحدة، جميعهم يعملون لصالح جهاز الموساد الإسرائيلي".
وفي الواقع؛ يُشير ما سبق، أن الضربة الإسرائيلية لم تُصمم فحسب لتدمير أهداف مُحددة على اختلاف اتساع نطاق تلك الأهداف باعتبار أن العملية لا تزال مُستمرة، إلا أنها أيضاً جاءت بما يضمن حرمان إيران من القُدرة على الرد، إذ وضعت مؤسسات صنع القرار في حالة صدمة، وفي وضعية دفاعية في مُحاولة للحد من تأثير الهجمات التي وُقعت أو تلك القادمة بالفعل، بالإضافة إلى تدمير منصات الصواريخ البالستية و الفرط صوتية التي كانت مُعدة سابقاً للرد سريعاً على أي هجوم إسرائيلي، وهو ما يضع التحركات الإسرائيلية أمام مجموعة من المسارات التي قد تصل إلى هدفها بإسقاط النظام.
الاستجابة الإيرانية والخروج السريع من الصدمة
أظهرت الاستجابة الإيرانية في هذه الجولة التصعيدية العديد من جوانب الاختلاف عما سبقها من ردود، حيث أظهرت خطاباً متماسكاً في اليوم الأول من الضربات الإسرائيلية رغم شدة تلك الضربات وما تسببت فيه من خسائر ودمار، وتم الإعلان عن تعيينات جديدة للقادة العسكريين الكبار الذين تمت تصفيتهم، في نفس الوقت الذي بدأت فيه سلسلة الردود العسكرية الإيرانية متدرجة من الأسفل إلى الأعلى، أو من الأقل إلى الأكثر زخماً، وصولاً إلى استخدام أسلحة جديدة لأول مرة، كمسيرات آرش الانتحارية المتطورة التي يصل مداها الى 2000 كم، والصواريخ الفرط صوتية التي تتجاوز سرعتها خمسة أضعاف سرعة الصوت، على عكس الهجمات الإسرائيلية التي بدأت من الأعلى إلى الأسفل، أو من الأكثر زخماً إلى الأقل.
بموازاة ذلك كله ثمة العديد من المعطيات الداخلية الإيرانية والمتغيرات الإقليمية والدولية التي تلقي بظلالها على الحرب، وفي مقدمتها، على المستويات الداخلية الإيرانية، رسوخ فكرة (الشهادة والشهداء) في العقيدة الدينية المذهبية الشيعية لدى عموم الشعب الإيراني، كما في العقيدة العسكرية لقوى الأمن والجيش والحرس الثوري، بالإضافة الى القدرة المستوحاة من التاريخ على الصبر وتحمّل المعاناة وطول النفس، كما حصل خلال ثمانية أعوام من الحرب الإيرانية/العراقية، وهو ما يشكّل "معادلاً موضوعياً" كبيراً أمام خسارة كبار القادة، في نفس الوقت الذي يزيد فيه من القدرة الإيرانية على تعبئة الفراغات القيادية بسرعة وأجيال شابة جديدة تؤمن بذات العقيدة.
هذا فيما يتعلق بالقادة العسكريين، أما فيما يتعلق بالعلماء الفيزيائيين وخبراء البرنامج النووي، فرغم الخسارة الكبيرة في الخبرات التراكمية المترتبة على اغتيالهم، توجد ثمة "معادلات موضوعية" أخرى مهمة، على رأسها أن ما تم إنجازه من أبحاث تطويرية بات أمراً واقعاً ومحفوظاً ويمكن البناء عليه من ناحية، ووجود عدد كبير من العلماء والخبراء القادرين على استئناف تلك البحوث من ناحية أخرى، في ظل استعداد بعض الدول لتقديم المساعدة لايران في هذا المجال، خاصة من جهة كوريا الشمالية بشكل مباشر، والصين وروسيا، وحتى باكستان، بشكل غير مباشر.
وعلى المستوى الداخلي كذلك لا يمكن إغفال حقيقة أنّ العالم كله كان ينتظر الضربات الإسرائيلية لإيران ويتوقعها، وفي قلب ذلك العالم إيران ذاتها، وبالتالي كان من الطبيعي أن تقوم إيران باتخاذ كافة الإجراءات التي ترفع جاهزيتها لتلك الضربات، وفي مقدمة ذلك نقل كافة الأصول المهمة وتغيير أماكنها، وهو ما يساهم في تقليل الخسائر الإيرانية إلى حد كبير، وعدم خروج المنشآت الاستراتيجية من الخدمة، وهو الأمر الذي أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك في مقابلته مع القناة الثانية عشرة الإسرائيلية نهاية ديسمبر 2024 حول أنّ (إسرائيل لا تملك القدرة على القيام بهجومٍ جويٍّ جراحيٍّ من أجل تأجيل وصول إيران إلى النووي لأكثر من شهرين).
أما على مستوى المتغيرات الإقليمية والدولية، فيبدو واضحاً من ناحية أنّ إيران تخوض معركة وجودية بعد الضربات القاسية التي تلقتها من إسرائيل بعد السابع من أكتوبر 2023، بشكل مباشر أو غير مباشر، وانهيار محورها في الشرق الأوسط، وهو ما يرفع مستوى جاهزيتها لخوض المواجهة باعتبارها مواجهة مصيرية أو حاسمة، في نفس الوقت الذي تتغير فيه مواقف دول الإقليم والعالم بسرعة تجاه هذه المواجهة.
فعلى المستوى الإقليمي يظهر رفض الدول العربية الفاعلة للحرب، والخشية من تداعياتها، خاصة من دول الخليج، ويظهر موقف باكستان الذي عبّر عنه وزير دفاعها في 14 يونيو 2025 والذي أكد وقوف بلاده مع إيران بكل ما أوتيت من قوة، ودعوته للعالم الإسلامي لمواجهة إسرائيل، بالإضافة الى الخشية التركية من امتداد المواجهة القادمة اليها في حالة هزيمة إيران.
على المستوى الدولي فإنّ تداخلات الأدوار الروسية والصينية والكورية الشمالية مع الحالة الإيرانية اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجياً لا يمكن تجاهلها، حتى وإن لم تصل إلى درجة الدعم العسكري المباشر لإيران، بالإضافة إلى ما ظهر من "تراجع" في حدة المواقف الأمريكية بعد اليوم الأول من المواجهة، ربما بحكم السقف غير المتوقع الذي وصلته الردود الإيرانية على الهجمات الإسرائيلية، أو بحكم فشل المراهنة على إجبار إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة بعد تلقيها تلك الضربات كما روّج رئيس الحكومة الإسرائيلية.
مسارات العملية العسكرية الإسرائيلية
تضع الهجمات الإسرائيلية ضد منظومة القيادة العسكرية والقدرات الدفاعية والهجومية الإيرانية، التطورات القادمة، وسط مجموعة من الاتجاهات والمسارات، والتي يُمكن صياغتها بالنظر إلى مُجمل المُجريات التي شهدتها المنطقة ووكلاء إيران منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، وإلى حجم الضربات نفسها، والتي لا يبدو أنها جاءت كحدث عابر أو مجرد ورقة ضاغطة على إيران، وإنما تستهدف بالأساس ترسيخ المشهد والهندسة الإقليمية لما بعد الحرب، وذلك يضعها أمام مجموعة من المسارات التي يؤدي استكمال أحدها نحو البدء بالآخر، كالآتي:
المسار الأول: استمرار الضغوط لحث طهران على تقديم تنازلات استراتيجية
في الواقع تزامنت مسارات المفاوضات الإيرانية-الأمريكية ما قبل العام 2015، بمُمارسة الضغوط على إيران لحثها على تقديم تنازلات مُعينة، واستمرت تلك الضغوط حتى بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية العمل المشتركة عام 2018، والتي أعقبها فرض سياسة "الضغوط القصوى"، التي استندت على تصعيد الأزمات الاقتصادية ومفاقمتها في إيران. لكن بعد الحرب في قطاع غزة، مارست إسرائيل ضغطاً عسكرياً على إيران إما بشكل مُباشر أو عبر الضغط على حُلفائها، والذي انضمت إليه الولايات المتحدة بشكل غير مُباشر عبر تكامل الأهداف من خلال ممارسة إسرائيل أقصى ضغط عسكري لتُهندس واشنطن نتائج ذلك الضغط سياسياً. ومن المُحتمل أن الضربات الإسرائيلية الاستراتيجية ضد أهداف نووية وجوية وعسكرية إيرانية، وسعيها إلى إحداث شلل في المنظومة الدفاعية والهجومية الإيرانية، كفيل بأن يدفعها لتقديم تنازلات جوهرية واستراتيجية في عقيدتها العسكرية والنووية، وفي هذه الحالة؛ قد تتُرجم النتائج عند الذهاب للجولة القادمة من المحادثات الإيرانية/الأمريكية بمعزل عن إرجائها حتى موعد آخر، وهي أكثر استجابة مع المطالبات الأمريكية بالتوقف تماماً عن تخصيب اليورانيوم، وفي الواقع قادت -من قبل- الضربات العسكرية الإسرائيلية ضد المنظومة القيادية والعسكرية لحزب الله إلى دفعه للتنازل وقبوله باتفاق وقف إطلاق النار المُوقع في 27 نوفمبر 2024، والذي قبل خلاله الحزب فصل مشروعه عن المشروع الإيراني الأوسع "وحدة الساحات" والتخلي عن بُنيته التحتية العسكرية المتمركزة من الحدود وحتى نهر الليطاني.
مع ذلك؛ تسعى إيران لعرقلة المسار الإسرائيلي ذلك، إذ يظهر الاختلاف في مركزية "الجبهة الداخلية" الإسرائيلية كساحة حرب مباشرة في الردود الإيرانية الأخيرة، التي تركزت معظمها على منطقة المركز "تل أبيب الكبرى" التي يقطنها أكثر من نصف سكان إسرائيل، وهذا أمر لم يحدث في حروب إسرائيل السابقة التي كانت ساحات المواجهة فيها تعتمد على "الجبهات الخارجية"، ويُثير التساؤلات حول قُدرة إسرائيل على تحمل مُدة طويلة من تلقي الضربات الإيرانية المُتواصلة. وهي الميزة التي تتفوق بها إيران مع قدرتها الواسعة على الصمود وتحمل خسائر استراتيجية في أصولها وصفوف قادتها.
من جهة أخرى؛ قد لا تمتلك إسرائيل قُدرات متكاملة، لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، بقدر ما ستعمل على عرقلتها وتأخير استئناف عملية تخصيب اليورانيوم لعدة أشهر، فيما تتطلب عملية التدمير الكامل للمنشآت النووية انخراطاً أمريكياً مُباشراً بالعمليات، وهو الأمر الذي لم تظهر بوادره حتى الآن.
المسار الثاني: الذهاب نحو تدمير القدرات العسكرية والنووية الإيراني بشكل كُلي
في الواقع إن حجم الهجوم واستهداف القيادة العسكرية للبلاد، وعدد من القادة السياسيين ضمن مؤسسة المرشد، يُشير أن إسرائيل ذاهبة لتكرار هجماتها في سوريا بعد سقوط النظام، والتي قضت خلالها على حوالي 80% من المقدرات العسكرية الجوية والبرية والبحرية السورية، وذلك يعني أن الهجمات الإسرائيلية ستبقى مُستمرة وصولاً إلى تدمير القدرات العسكرية الإيرانية بشكل كُلي أو بما يكفي لمنع طهران من تشكيل أي تهديد حالي أو مستقبلي، بما يشمله ذلك من تدمير برنامجها النووي بشكل كامل. وعلى ما يبدو أن الأحداث والتطورات الأخيرة تسير في هذا الاتجاه، إذ إن الشلل داخل المنظومة وحالة الصدمة وتدمير الدفاعات الجوية وانفتاح الأجواء الإيرانية أمام الطيران العسكري الإسرائيلي، يفسح المجال واسعاً لتحقيق هذه الأهداف وحسم المشهد ضد إيران بشكل كُلي، ومن الواضح أن الأحداث تتجه نحو هذا المسار، وذلك يتطلب مُراقبة ومُتابعة نطاق الضربات الإسرائيلية القادمة، والتي يُفترض أن تستهدف ما تبقى من المنشآت النووية وفي مٌقدمتها مُنشأة فرودو لتخصيب اليورانيوم، بعد أن استهدفت في الموجة الأولى منشأة نطنز النووية، إلى جانب مواقع تصنيع وتخزين الصواريخ البالستية فوق الأرض وتحتها. ورُبما تنضم الولايات المتحدة في هذه المرحلة للضربات لامتلاكها قُدرات تدميرية أوسع لا سيما وأنها قد استعدت لذلك مُسبقاً بأسطولها من القاذفات الاستراتيجية من طراز B-52 وB2 المُتمركز في المنطقة وفي جزيرة دييغو غارسيا.
في المقابل، كشفت إيران خلال الأيام الماضية عن قُدرات عسكرية مؤثرة وبشكل قد يترتب عليها تداعيات كبيرة على إسرائيل خاصة إذا ما استهدفت بُنية استراتيجية أمنية أو سياسية أو اقتصادية إسرائيلية، خاصة وأنها استخدمت في هجماتها ليلة 15 يونيو، صواريخ فرط صوتية ذات قُدرة انفجارية كبيرة، أدت إلى مشاهد دمار غير مسبوقة في منطقة بات في تل أبيب، وإذا ما استخدمت مثل هذه الأسلحة ضد أصول اقتصادية أو قواعد عسكرية وجوية رئيسية، فقد يدفع ذلك إلى امتلاكها جانب من المُبادرة في التصعيد الجاري، ومُوازنة التفوق الإسرائيلي الأولي، وهو ما سوف ينعكس على شكل تراجع الأهداف الإسرائيلية والعودة إلى تغليب المسار التفاوضي، وقد كشفت الأحداث الأخيرة أن الولايات المتحدة قد دخلت على خط الأزمة، ليس كطرف في التصعيد بل كمفاوض يهدف إلى التهدئة.
المسار الثالث: الذهاب نحو إحداث فراغ واسع يفضي إلى تغيير النظام
إن تدمير كامل قدرات العسكرية الإيرانية الهجومية والدفاعية، قد يُوفر الفُرصة لإسرائيل بالسعي لتغيير النظام الإيراني، ويُعتبر هذا المسار شديد التعقيد والتركيب والحساسية، فمن جهة، فقد النظام الإيراني بالفعل مُجمل مُرتكزاته القُومية التي استند عليها طُوال عقود، فقد أفضت الضربات الإسرائيلية ضد إيران ووكلائها منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، إلى تقويض السردية القومية الإيرانية والتي لطالما شكلت مادة لتغذية توجهات المُرشد الإيراني والمتشددين من حوله. وفي حالة تضررت الأصول العسكرية والنووية بشكل كامل خلال الهجوم الحالي كما يُشير المسار الثاني، فذلك يعني أن قُدرة النظام على إحباط أي مُحاولة شعبية لإسقاطه واستبداله بقيادة من المعتدلين محدودة للغاية، خاصة وأنه قد عانى سابقاً في إخماد المظاهرات التي اشتعلت إثر مقتل الناشطة إميسا عام 2022. لكن يبقى مُستبعداً أن يتحرك الشعب ضد نظامه وهو في حالة حرب.
مع ذلك، فإن نجاح هذا المسار يرتبط بتعقيدات واسعة، حيث يترك إيران في حالة فراغ أمني وعسكري، حتى تنجلي الضربات والتعويل على استجابة الشعب الإيراني للظرف بالتحرك ضد النظام، وقد سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 12 ديسمبر 2024 أن وجه رسالة للشعب الإيراني يُطالبه فيها بالتحرك لتغيير النظام. ولكن قد يستغرق ذلك شهوراً ورُبما سنوات، وقد لا يحصل أساساً، حيث تمتلك إيران تاريخاً وموقفاً يمنعها من الذهاب نحو تغيير النظام بهندسة إسرائيلية، وقد لا تستطيع أي حركة الحصول على شرعية وطنية للقيام بذلك التحرك.
أما الاحتمال الثاني فهو من خلال تكرار تجربة الولايات المتحدة في إسقاط حُكم طالبان عام 2001، عندما دعمت تحرك المعارضة المُسلحة، وفي حالة إيران فإن تحرك المعارضة المُسلحة قد يبدأ بالسيطرة على المعابر الحدودية خاصة وأنها تتمركز في المناطق الحدودية، ثُم البدء في تطويق البلاد تدريجياً وصولاً إلى العاصمة طهران، لكن ما يبقي ذلك مُستبعداً أن المُعارضة المُسلحة تتشكل في مُعظمها من الأقليات وقد لا يلقى تحركها ترحيباً من قبل الشعب الإيراني ما قد يُخدم من زخم تحركها سريعاً.
ويمكن لإسقاط النظام في إيران، تكرار النموذج العراقي عام 2003، عن طريق دخول قُوات برية أمريكية وإسرائيلية إلى الأراضي الإيرانية، وصولاً للسيطرة على العاصمة طهران، ثُم المساهمة في إنشاء نظام سياسي بديل من قُوى المعارضة في الداخل والخارج، وهذا الخيار يعتبر مُستبعداً، فلم تعد الحروب التقليدية بهذا النمط مسألة مقبولة شعبياً في الولايات المتحدة أو مرغوبة بين نخبها السياسية، حيث باتت واشنطن تُركز على الانخراط غير المباشر في النزاعات كما في حالة دعمها لأوكرانيا في مواجهة روسيا ولإسرائيل حالياً. بالإضافة إلى حاجة هكذا خيار لتمويل ضخم، وقوات عسكرية من مئات الآلاف من الجنود، وسنوات ورُبما عقود للوصول إلى حالة هشة من الاستقرار، ورُبما مُواجهة مُقاومة مسلحة قد تؤدي إلى تكرار تجربة القوات الأمريكية في أفغانستان، والتي عادت حركة طالبان للحكم فيها عام 2021، بعد عقدين من إسقاطها أمريكياً.

ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات