التفوق الاستخباراتي يضع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله عند نقطة انعطاف
ساهم التفوق المعلوماتي والاستخباراتي الإسرائيلي في ضرب عدة أهداف استراتيجية لحزب الله سواء على مستوى القيادة أو في البنى التحتية، وعليه تسعى هذه الورقة لقراءة الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه الحزب قبل الحرب في قطاع غزة وبعدها، والتي ساهمت إلى حد كبير في إضعاف قُدرته وتقويضه عن الرد المتناسب والتصعيد المقابل.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٢٥/٠٩/٢٠٢٤
تدخل المواجهات بين إسرائيل و"حزب الله" مرحلة جديدة تتجاوز عتبة التصعيد المحدود أو أطر قواعد الاشتباك المُتبعة منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، وبما يُشير إلى أن الطرفين وسط تصعيد مُتدرج يُنذر بوصوله إلى عتبة "الحرب المفتوحة" التي ظلّت القوى والفاعلين الإقليميين والدوليين تُحذر من اندلاعها، وعُدت على مدار الشهور الـ 11 السابقة واحدة من أسوأ السيناريوهات التي قد تواجه المنطقة. إلا أن المواجهات والأحداث السابقة لها، كشفت عن جانب من معالم تلك المواجهات وتحديداً في تحقيق إسرائيل التفوق الاستخباراتي مُقابل تراجع استجابة "حزب الله" على الرد بالمثل على التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق منذ عام 2006، ما يُشير إلى اختلال في موازين الردع بين الطرفين، وبشكل يترك آثاراً على مسار التصعيد المُتدرج الحالي بينهما، وعلى مختلف أطراف محور "المقاومة" واستراتيجية "وحدة الساحات". إن قراءة المستجدات الأخيرة وتوسيع الفهم حولها، يستدعي العودة إلى الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه "حزب الله" وإيران ما قبل الحرب في قطاع غزة والتي ساهمت إلى حد كبير في إضعاف قدرات الحزب وانكشافه أمام إسرائيل، والتي في ضوئها يُمكن طرح مسارات التصعيد المتدرج بين الطرفين.
الحملة الإسرائيلية بين الحروب
بلورت إسرائيل بعد الحرب مع "حزب الله" عام 2006، استراتيجية دفاعية واستباقية ووقائية، أطلقت عليها "الحملة بين الحروب"، إذ شكلت تلك الحرب والخسائر التي لحقت بإسرائيل، والتهديد الذي أظهره "حزب الله" على مختلف المستويات، علامة فارقة في تفكير إسرائيل الاستراتيجي فيما يتعلق بطبيعة تعاطيها مع الحزب من جهة، وبالمخاطر المرتبطة بالنفوذ الإيراني سواء برنامجها النووي والصاروخي، أو شبكة وكلائها الذي باتوا يُشكلون بعد العام 2012 طوقاً استراتيجياً حولها، يمتد من العراق إلى سوريا ثُم لبنان ووصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب اليمن في البحر الأحمر، وقد فرض هذا الشكل الهجين من التهديدات على إسرائيل إجراء تغيير كبير في عقيدتها الدفاعية نقلها من التركيز الدائم على الجانب العملياتي إلى تحقيق التفوق في الجانب المعلوماتي والاستخباراتي والعمليات الاستخبارية المتقدمة على الأرض. والتي بُنيت على أساس نتائج لجنة فينوغراد للتحقيق في حرب عام 2006، والتي كشفت عن نقاط ضغط في الجيش من بينها عدم الاستعداد والتخطيط الاستراتيجي والعملياتي والاعتماد المتزايد على سلاح الجو وضعف القوات البرية في تحقيق أهداف الحرب حينذاك في بيئة عملياتية معقدة.
لقد جاءت "الحملة بين الحروب" بوصفها تطوراً في طرق مواجهة التحديات الهجينة على حدودها، وتعبيراً عملياً عن الاستعداد المُسبق للحرب ضد إيران ووكلائها وتحديداً "حزب الله"، وتعتمد أساساً على العمل المشترك بين وحدات الاستخبارات والقوات الجوية والجيش الإسرائيلي، إذ تقوم على تكثيف النشاط الاستخباراتي بهدف الحصول على معلومات دقيقة ثُم تحويلها إلى عمل عسكري جراحي إن لزم الأمر. وقد شمل ذلك استهداف كل ما تُصنفه إسرائيل كخطر استراتيجي، سواء ما يتعلق بالبرنامج النووي والصاروخي الإيراني، أو التموضع الإيراني في سوريا، وقد طال حتى الأسلحة الكيماوية والبيولوجية السورية، ومنذ العام 2015، أصبح هُناك تركيز واضح على "حزب الله" وخاصة في منع وصول أسلحة مُتطورة إليه من إيران عبر سوريا، وبشكل قد يُخل بميزان القوة بينه وبين إسرائيل، ويضيف تعقيدات عملياتية على إسرائيل أثناء حملات الحروب الكُبرى بين الطرفين، مثل حصول الحزب على منظومات دفاع جوي تٌقيد حركة الطيران الحربي الإسرائيلي في الأجواء اللبنانية، أو تعزيز ترسانته من الأسلحة والصواريخ الدقيقة القادرة على ضرب المنشآت الاستراتيجية المدنية والعسكرية. إذ اعتبرت إسرائيل حدوث ذلك بمثابة تغير كبير في قواعد اللعبة وتهديداً استراتيجياً.
وعلى العكس من تجربة إسرائيل في حرب عام 2006 مع "حزب الله"، جاءت الحملة بين الحروب بتنفيذ العمليات دون خسائر تذكر، واستمرت دون مخاطرة بالانجرار إلى حرب أو تلقي ضربات انتقامية، إذ لم يعتبر "حزب الله" الضربات الإسرائيلي ضد عناصره ومواقعه في سوريا، بمثابة تعد على خطوطه الحمراء الموضوعة في الساحة اللبنانية، فخلال العام 2023، شكلت الضربات الإسرائيلية ضد "حزب الله" في سوريا 24% من إجمالي الضربات، و5% استهدفت عمليات نقل الأسلحة، و24% ضد الأهداف الإيرانية، لم يرد الحزب على أياً منها. لكن قياس فعالية تلك الحملة لا يتجسد في تلك الجوانب التكتيكية فحسب، بقدر مساهمتها في إنشاء بنية تحتية استخباراتية عالية الجودة ضد "حزب الله" وإيران، فعلى ما يبدو زادت من قدرات إسرائيل على تجنيد عملاء رفيعي المستوى داخل شبكاتهما، ورفعت من مُستوى معرفتها بطبيعة العلاقة ما بين "حزب الله" وإيران من جهة، وكشف ومتابعة سلاسل التوريد الأسلحة والمعدات العسكرية إلى الحزب من جهة أخرى، هذا إلى جانب دور التكنولوجيا في دعم عمليات الاستخبارات الإسرائيلية في الجو والفضاء والتجسس واختراق المكالمات واعتراض الاتصالات وغيرها من القدرات.
تقويض عامل المُبادرة لحزب الله وإيران
ظلت العمليات المُشتركة بين وحدات الاستخبارات والجيش الإسرائيلي مُستمرة ضد "حزب الله" وإيران ما بعد اندلاع الحرب في قطاع غزة، وأصبحت شكلاً مألوفاً في عمليات إسرائيل ضد "حزب الله" ومختلف أطراف "محور المقاومة" منذ مشاركة الحزب الأولى في التصعيد في 8 أكتوبر 2023، فإلى جانب حفاظ إسرائيل على أهدافها بمنع "حزب الله" من الحصول على الأسلحة أو تعزيز إيران ووكلائها وجودهم في سوريا، إذ استهدفت في الفترة بين 14-22 أكتوبر مطاري حلب ودمشق ثلاث مرات. فقد أضافت إسرائيل طبقة جديدة على أهدافها، في منع تحول لبنان إلى جبهة حرب ثانية بموازاة جبهة الحرب الرئيسة في قطاع غزة، وهو ما دفعها لإرسال جزء من قوات الاحتياط على حدودها الشمالية، والرد بالمثل على هجمات "حزب الله"، والعمل على إضعاف قدراته ومنعه من تنفيذ خططه بما يحول دون تصعيد عسكري يقوم على مباغتة إسرائيل، من خلال تكثيف العمليات العسكرية الجراحية بالاستفادة من تراكم المعرفة والمعلومات التي حصلت عليها خلال عقود من اتباعها لاستراتيجية "الحملة بين الحروب"، ويُمكن ملاحظة التكتيكات الإسرائيلية خلال الشهور الأولى من الحرب والتي اعتمدت على الأهداف عالية القيمة لتحقيق ركيزتين أساسيتين وهما:
أولاً: الحد من العلاقة بين إيران و"حزب الله"، ومن قُدرة إيران على تقديم الدعم للحزب، وذلك من خلال ضرب القادة الإيرانيين المسؤولين عن التواصل والدعم اللوجستي والاستخباراتي بين إيران و"حزب الله" خاصة في سوريا، وقد أحصت منظمات محلية ما يزيد عن 100 هجوم إسرائيلي على سوريا، قُتل خلاله 27 قائداً في الحرس الثوري من بينهم 14 رفيعي المستوى، و51 من عناصر "حزب الله" اللبناني من بينهم؛
1- محمد علي عطايي شورجه، المستشار في "محور المقاومة" وبناه تقي زاده، المتخصص في وحدة الفضاء الجوي في الحرس الثوري، بهجوم صاروخي على منطقة السيدة زينت في 2 ديسمبر 2023.
2- رضي موسوي، المسؤول عن تنسيق وكلاء إيران في سوريا ونقل الأسلحة الإيرانية عبر سوريا إلى لبنان، الذي قتل في هجوم صاروخي بمنطقة السيدة زينب في 25 ديسمبر 2023.
3- حجت الله أميدوار المسؤول في استخبارات الحرس الثوري وفيلق القدس والذي قتل إلى جانب قادة أخرون وهم آقازاده، وحسين محمدي، وسعيد كريمي، ومحمد أمين صمدي في غارة استهدفت مبنى في دمشق 20 يناير 2024.
4- سعيد عليدادي، مسؤول وحدة الاتصالات في الحرس الثوري، والذي قتل في غارة جوية أثناء إشرافه على نقل شحنة أسلحة كان في طريقها إلى "حزب الله" وفق مصادر محلية، في 2 فبراير 2024.
5- بهروز واحدي، المسؤول في وحدة الاتصالات التابعة لفيلق القدس ومساعده، في 26 مارس 2024.
6- مقتل محمد رضا زاهدي، قائد الحرس الثوري الإيراني في سوريا ولبنان وفلسطين، إلى جانب 6 قادة آخرين، في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل 2024.
7- أحمد رضا أفشاري المستشار العسكري في القوات الجوية الفضائية للحرس الثوري، الذي قتل في غارة جوية بسوريا في 26 أغسطس 2024.
ثانياً: إحداث فجوة على مُستوى قادة الصف الأول للوحدات المُكلفة بالعمليات في جنوب لبنان، وهي وحدات (عزيز وبدر ونصر) والمسؤولة عن المحاور العسكرية الثلاثة في جنوب لبنان (الغربية والأوسطية والشرقية)، إذ اغتالت إسرائيل أغلب قادة الصف الأول لتلك الوحدات العسكرية في الحزب، من بينهم؛
1- اغتيال وسام الطويل، قائد وحدة الرضوان، والمسؤول عن العمليات العسكرية في جنوب لبنان، في 8 يناير 2024.
2- اغتيال سامي طالب، قائد وحدة النصر المسؤولة عن عمليات المنطقة الوسطى من الشريط الحدودي مع إسرائيل في الجنوب، في 12 يونيو 2024.
3- اغتيال محمد نعمة، قائد وحدة عزيز المسؤولة عن سلاح المدفعية والمسيرات في 3 يوليو 2024.
4- اغتيال مجموعة من القادة المسؤولين عن عمليات تأمين تقدم تلك الوحدات، وعمليات الضرب والاستهداف داخل إسرائيل من بينهم حسن فارس، قائد وحدة الصواريخ المضادة للدبابات في 7 أغسطس 2024.
تحقيق الصدمة على مختلف المستويات
تطورت معطيات التصعيد بين إسرائيل وحزب الله بشكل لافت بعد منتصف يونيو 2024، خاصة مع دخول الحرب في قطاع غزة مرحلة جديدة أقل كثافة، وفي ضوء الصعوبات المحيطة بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في القطاع، فقد تحولت أنظار إسرائيل إلى ضرورة حسم جبهة التصعيد في الشمال، وتحويل الجهد والثقل العسكري الإسرائيلي نحوها، حتى لا تجد نفسها وسط حرب استنزاف مفتوحة متعددة الجبهات، قد تستمر لسنوات. لكن الإجراءات الإسرائيلية اتخذت بٌعداً بالتزامن مع إعلانها انتهاء العمليات بشكل عام في قطاع غزة في 16 أغسطس 2024، إذ كشفت عن طرق وأهداف جديدة لحسم التصعيد مع لبنان، من خلال ضرب مختلف المستويات القيادية والعملياتية والتشغيلية في الحزب، وتحييد طرق الاتصال والتواصل داخله وشن حرب نفسية ضد الحزب وبيئته الحاضنة.
فعلى مُستوى القيادة: اغتالت إسرائيل في 31 يوليو 2024 فؤاد شكر رئيس غرفة العمليات في حزب الله أو قائد هيئة الأركان، في استهداف مبنى بالضاحية الجنوبية، ثُم اغتالت إبراهيم عقيل رئيس شعبة العمليات وقائد قوة الرضوان إلى جانب كامل القيادة العليا للقوة في غارة استهدفت اجتماعاً لهم بالضاحية في 20 سبتمبر 2024، فيما نجا الرجل الثالث في الحزب علي الكركي من غارة استهدفته في 23 سبتمبر، واغتالت إبراهيم قبيسي، قائد منظومة صواريخ في الحزب في 24 سبتمبر. ومن المحتمل أن سلسلة الاغتيالات تلك قد دفعت من تبقى من هيكل القيادة لا سيما الأمين العام للحزب، إلى اتباع ترتيبات أمنية مُشددة قد تحد من المتابعة والتنسيق مع كافة المعطيات الميدانية.
أما على المُستوى التشغيلي: فقد أدت انفجارات أجهزة النداء واللاسلكي التي كانت بأيدي عناصر حزب الله بتاريخي 17-18 سبتمبر 2024، أدت إلى إصابة ما يزيد عن 3500 شخص وبحسب وزير الصحة اللبناني أدت الحادثتان إلى مقتل 39 شخصاً، وبالتالي فإن أكثرية هؤلاء هم من عناصر حزب الله الذين تم تحييدهم عن المشاركة في التصعيد، ومعظمهم من المسؤولين الميدانيين وضباط الاتصال والتنسيق في الحزب، أدت إلى فقدان وسائل الاتصال ليس فحسب داخل الحزب وإنما بين عناصره وإيران.
أما على المُستوى النفسي: فقد أدت الضربة الاستباقية الإسرائيلية لمخططات حزب الله بالرد عن مقتل فؤاد شكر في 25 أغسطس، ومن ثُم الاختراق غير المسبوق للحزب بتفجيرات أجهزة النداء واللاسلكي، إلى إحداث صدمة داخل الحزب، وقد كشف الأمين العام حسن نصر الله عن ذلك البعد النفسي في خطاب 19 سبتمبر 2024، بأن "الحزب تلقّى ضربة قوية من إسرائيل".
وفي الواقع؛ فإن التكتيكات الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر ووصولاً إلى اليوم، اتبعت سلسلة من الإجراءات التي يقود بعضها إلى الآخر من خلال:
1- أدت الاغتيالات المتزايدة في صفوف القادة الميدانيين وقادة الوحدات إلى تقليل اعتماد الحزب على وسائل الاتصال الحديثة، والاعتماد على أجهزة تناظرية مثل البيجر والهاتف الأرضي، وبحسب مصادر أمنية وزع حزب الله أجهزة البيجر قبل ساعات من تفجيرها باعتبارها من التقنيات القديمة والآمنة من محاولات التجسس والتتبع والاختراق.
2- أدت اغتيالات قادة الوحدات الثلاثة في جنوب لبنان، إلى زيادة انخراط قادة العمليات في تنسيق المهام لتعويض فجوة القيادة، الأمر الذي زاد من تحركاتهم في الميدان واجتماعاتهم مع القادة الأصغر رتبة وهو ما سهل اختراقهم وقاد إلى اغتيالهم.
3- أدت تفجيرات البيجر واللاسلكي إلى تقويض ثقة حزب الله في التواصل باتباع أي أجهزة مستوردة أو إلكترونية، ما دفع قادة العمليات إلى الاجتماع بوحداتهم بشكل وجاهي، ويبدو أن هذا ما حدث في حالة استهداف الهيكل القيادي لوحدة الرضوان في اجتماع وُصف بأنه "نادر".
4- أدت تفجيرات البيجر وأجهزة اللاسلكي إلى كشف إسرائيل عن نشاط مختلف عناصر "حزب الله" وأماكن توزعهم وانتشارهم، وعدد من المواقع الاستراتيجية للحزب، ومن المتحمل أن ذلك كله أُضيف في بنك الأهداف الإسرائيلية ضد الحزب، وقد يكون من ضمنها ما أعلنته إسرائيل عن مهاجمة 1600 هدف للحزب في 200 منطقة بلبنان في 24 سبتمبر 2024 وحده.
التحول إلى التصعيد المتدرج
إن الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة هدفت بشكل أساس إلى توسيع مُستوى التصعيد بالنسبة لإسرائيل، وتضييق مساحة الرد وهامش المُناورة عند "حزب الله"، والدفع به إلى استثناء خيار الحرب منعاً للتدهور المتصاعد في قدراته الأمنية والعسكرية. وحتى اللحظة، لا يزال الحزب يتحفظ على إعلان الحرب. بالرغم من أن إسرائيل تتعامل مع لبنان باعتبارها جبهة حرب، وقد كثفت غاراتها الجوية ووسعت رقعتها الجغرافية من جنوب لبنان إلى البقاع والضاحية الجنوبية من بيروت منذ 22 سبتمبر 2024، واستهدافت الأماكن المفتوحة والأحياء السكنية والمدنية، أسفر عن سقوط أكثر من 600 قتيل وقرابة 3000 جريح، ووجهت ضربات إلى البنية التحتية لـ "حزب الله" من منصات إطلاق الصواريخ ومنشآت تخزين السلاح، مع التركيز الكثيف على منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت بوصفها معقل الحزب في لبنان. في المقابل ظل "حزب الله" يشتبك ضمن نطاق جغرافي محدود مع استثناءات محدودة، إذ كثف هجماته على مناطق الجولان ومناطق الجليل الأعلى، واكتفى باستهداف المنشآت العسكرية مثل قاعدة رامات ديفيد الجوية وشركة "رافائيل" في حيفا.
وأخيراً؛ فإن التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق ضد حزب الله، يضع المشهد أمام ثلاثة مسارات، كالآتي:
المسار الأول: إنشاء الحزام الأمني \ المنطقة العازلة
إن التصعيد الإسرائيلي يهدف أساساً إلى فصل جبهة لبنان عنها في قطاع غزة، ومن المحتمل أن تؤدي الضغوط العسكرية الإسرائيلية على حزب الله إلى تعاطيه بجدية مع الدعوات الأمريكية والفرنسية لتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 1701، وبشكل يقود إلى التهدئة. خاصة وأن الحملة الجوية الكثيفة لإسرائيل أضافت عبئاً جديداً على الحزب، يتمثل في حالة النزوح من مدن وقرى الجنوب إلى وسط وشمال لبنان، وتشير التقارير الصحفية أن أكثر من نصف مليون شخص غادروا منازلهم.
من جهة أخرى؛ هناك احتمال أن تنتقل العمليات الإسرائيلية إلى مرحلة جديدة، تشتمل على هجوم بري، في حالة تمسك حزب الله بموقفه، لإنشاء حزام أمني ومنطقة عازلة تبعد حزب الله عن الحدود الإسرائيلية، وتمكن المستوطنين من العودة إلى مستوطناتهم، ويتعزز ذلك في المسار مع نقل الفرقة 98 "الكوماندوز" من قطاع غزّة إلى القيادة في الجبهة الشمالية، وإعلان الجيش في 25 سبتمبر عن استدعاء لواءين من الاحتياط إلى الجبهة الشمالية.
لكن هكذا خُطوة إن لم تكن متبوعة بمسار دبلوماسي قد تُهدد بدخول إسرائيل في حرب استنزاف طويلة الأمد، لا سيما أن الضربات التي لحقت بحزب الله وقادته لن تمنع الحزب من مواصلة الاشتباك مع إسرائيل خاصة إذا أصبحت لها قوات في الداخل اللبناني.
المسار الثاني: استمرار الحرب حتى تحقيق الحسم ضد الحزب
إن استمرار التصعيد الإسرائيلي ضد حزب الله لما يزيد عن شهر وظهور بوادر حقيقية عن عجز حزب الله عن الرد بالمثل أو مواكبة التصعيد بالتصعيد وإلحاق الخسائر بإسرائيل أو النجاح في استهداف المنشآت والمواقع الاستراتيجية فيها، قد يدفع إسرائيل إلى مواصلة الحرب لتدمير بنك الأهداف لديها، وبما يقود إلى تحقيق حسم استراتيجي في لبنان، يقوض من قدرات حزب الله ويضر بعلاقاته مع إيران ويُنهي معادلات الردع التي كانت قائمة في السابق، وفي هذا المسار فإن الضربات الإسرائيلية ضد الحزب قد تستمر لأشهر، ولكن قد يقود هذا المسار في مرحلة ما إلى محاولة إيران ووكلائها توسيع انخراطهم في الحرب، لا سيما أن الفصائل المسلحة العراقية كثفت مؤخراً من استهدافها لإسرائيل، وقد أصابت بطائرة مسيرة قاعدة مراقبة تابعة للواء غولاني في 23 سبتمبر 2024.
المسار الثالث: استيعاب الصدمة واستعادة الحزب للردع
من المحتمل أن يُقدم حزب الله على تنفيذ عمليات عسكرية نوعية ضد أهداف استراتيجية في إسرائيل، إذ وبالرغم من الصعوبات اللوجستية والأمنية وغياب عدد من قادته، إلا أنه لا يزال يحتفظ بجزء كبير من مقدراته العسكرية، وقدرته على توجيه ضربات نوعية ضد أهداف عسكرية، إذ يُمكن لخلايا داخل الحزب من عناصر النخبة دون مستوى القيادة أن تُخطط وتوجه لعمليات سرية سواء باستخدام قدرات الحزب في لبنان أو خارجه، وقد تكون تلك العمليات باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ، أو الأسلحة الدقيقة، أو بأساليب مختلفة مثل زرع المتفجرات في إسرائيل كما حدث سابقاً في حادثة مفترق مجيدو أو العبوة التي زرعتها خلية للحزب في منتزه اليركون والتي كانت تستهدف اغتيال وزير الدفاع السابق موشيه يعالون وفق ما كشفه موقع والا العبري.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات