كيف غيرت الحرب على غزة من ديناميكيات السياسة العربية تجاه الإقليم؟

تحليل سياسات يناقش التحولات التي تفرضها الحرب على غزة والتي قد تطال السياسات العربية تجاه الإقليم من جهة شكل التحالفات وتأثيراتها على مسارات المصالحة والسلام، وإعادة تباين الرؤى والأولويات والتصورات الإقليمية تجاه مستقبل المنطقة.

الكاتب عبد الملك حسين عامر
  • تاريخ النشر – ٢٨‏/١١‏/٢٠٢٣

انطلاقاً من العام 2020 وما بعده، شهدت المنطقة شيوعاً لثقافة إقليمية جديدة تجاه السلام، تضمنت اتفاقيات عربية-إسرائيلية جديدة، واستئناف العلاقات السعودية الإيرانية بما يضمن التهدئة في ساحات التنافس من اليمن إلى العراق وسوريا، وتقارب عربي-تركي، وآخر عربي-سوري، وقد كان الاتجاه السائد للمنطقة يسير نحو مبادرات السلام والشراكات الإقليمية، المُتشابكة أحياناً مع الجيوسياسية الدولية. حتى جاء السابع من أكتوبر، ليخلف آثاراً على الديناميكيات العربية في الشرق الأوسط، وأولويات سياساتها الخارجية، إذ وجدت الدول العربية نفسها في خضم اختلافات واضحة بين مواقفها والموقف الأمريكي الداعم للحرب، وفي اختلاف آخر بين مقاربتها السياسية والسلوك الإيراني الداعم للتحركات العسكرية، ووسط حرب رئيسية في قطاع غزة وحروب ثانوية على امتداد الإقليم، وهي الظروف التي أعادت إلى الأذهان ما عاشته المنطقة خلال العقد اللاحق لما يُعرف بـ"الربيع العربي" من صراعات ونزاعات، وفجوات كبيرة بين دول المنطقة، وتصادم في المصالح والأهداف.

فصل جديد من العلاقة مع إسرائيل

استندت العديد من التحركات الدبلوماسية النشطة التي شهدتها المنطقة منذ العام 2020، على اعتقاد بأن القضية الفلسطينية لم تعد ذات أهمية كبيرة، وأنه يتعين على دول الإقليم أن ترسخ نفوذها وتعزز من مصالحها وتدعم طموحاتها الاقتصادية عبر أطر السلام والمصالحات. لكن أعادت الحرب ترتيب الأوراق فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية من جديد، ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل والدولي أيضاً.

لقد أثبتت الحرب أن التهديد الأكثر خطورة على أمن المنطقة هو القادم من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبالرغم من أنه تهديد داخلي في نطاق الطرفين، إلا أنه يؤثر بشكل ملحوظ على الأمن والاستقرار، ويزكي التوترات والصراعات في المنطقة، وقد أعادت الحرب، القضية الفلسطينية إلى واجهة الأولويات خاصة بالنسبة للولايات المتحدة، التي حشدت بشكل غير مسبوق قواتها البحرية والجوية في شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، لمنع انزلاق الحرب إلى جبهات أخرى.

لكن وفي حين أن إسرائيل تُخطط لوقف سلسلة الهجمات القادمة من قطاع غزة والضفة الغربية، من خلال تدابير تمنحها قدرة الإشراف الأمني على المنطقتين، فإن ذلك لا يوفر الظروف الحقيقية لإرساء السلام بقدر ما يعمق من المعاناة الإنسانية للفلسطينيين، وقد يقابل بخطوات فلسطينية تصعيدية، خاصة وأن إسرائيل تهدف إلى القضاء على حركة حماس، ولم تعد مقتنعة بأهمية السلطة الفلسطينية، وهي بخطواتها تلك تُقوض أي أمل للفلسطينيين بوجود كيان سياسي يمثلهم، ما يعني القضاء نهائياً على خيار حل الدولتين.

 ستراتيجيكس-حرب-غزة-والسياسات-العربية-in-1.jpg

في غضون ذلك؛ فإن الشارع العربي بات فاعلاً في رفض التقارب والتعاون مع إسرائيل بعدما أبدى انفتاحاً نسبياً في فترة ما قبل الحرب، وبذلك فإن العرب لم يعودوا ينظرون إلى إسرائيل كواحدة من دول المنطقة، بقدر ما أصبحت تعبر عن دولة احتلال جديدة وبشكل مماثل لما كانت عليه بعد العام 1948 والعام 1967، خاصة إذا ما احتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة، وهذه الظروف تعقد من حسابات الدول العربية تجاه تقاربها وتعاونها مع إسرائيل.

اختلاف جديد في الأولويات والحسابات العربية الأمريكية

ارتكزت الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى التهدئة من أجل الحفاظ على تركيزها المتزايد في محور شرق آسيا والصين، وعملت على تشابك الحالة الجيوسياسية الإقليمية والدولية، والتي من أمثلتها "الممر الاقتصادي" الذي يعبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، قادماً من الهند إلى أوروبا. ومن منطلق التهدئة دعمت واشنطن دون رغبة منها، الخطوات العربية للتقارب مع سوريا، فيما عزز نهج إدارة الرئيس جو بايدن القائم على الدبلوماسية في حل الصراعات، خطوات التقارب العربي العربي أو العربي الإقليمي.

لكن الحرب على غزة أحدثت تغيرات جوهرية في السياسة الخارجية الأمريكية من عدة اتجاهات؛ أولها العودة إلى ممارسة السياسية التقليدية الأمنية في دعم إسرائيل سياسياً وأمنياً، في موقف لم تُظهره من قبل لغير إسرائيل من حلفائها في المنطقة، بالرغم من تماثل الأهمية الجيوسياسية نسبياً. وثانياً؛ أظهرت واشنطن نهجاً أحادياً في الحرب على غزة وبشكل مخالف لذلك الداعية له (التعددية الدبلوماسية)، ومغاير عن موقفها في جولات التصعيد السابقة التي كانت غالباً ما تُديرها وفق تصورات أطراف متعددة لا سيما مصر والأردن وقطر. إذ اكتفت في الحرب الحالية بالتنسيق الثنائي مع إسرائيل، فيما التنسيق المشترك الواسع مستمر للقضايا الثانوية فحسب، من إدخال مساعدات إنسانية أو مفاوضات لإطلاق الرهائن.

  ستراتيجيكس-حرب-غزة-والسياسات-العربية-in-2.jpg

وقد ظهر النهج الأحادي الأمريكي بوضوح في ضغوطها خلال الأيام الأولى من الحرب بقبول النازحين من قطاع غزة في سيناء المصرية، وهو ما نظرت إليه القاهرة وعمّان بمثابة تهجير وإفراغ غزة من سكانها، ولاحقاً من خلال محاولاتها طرح صيغة سياسية لإدارة قطاع غزة، دون موافقة من الدول العربية لمناقشة ذلك قبل وقف الحرب. وقد وجدت الدول العربية لمرة أخرى نفسها مضطرة للتعاطي مع أجندات أمريكية لا تُلبي مصالحها ورغباتها، وتشكل في الوقت نفسه خطر عليها.

وفي الواقع سيجد ذلك النهج تأثيره، في صورة واشنطن كوسيط محايد في القضية الفلسطينية، وبشكل أوسع في سلوك دول المنطقة، وفي شكل تحالفاتها وعلاقاتها، ولم تكتف الحرب في عرقلة اتفاقيات السلام الجديدة بين السعودية وإسرائيل فقط، لكنها أيضاً قوضت مساعي واشنطن في إنشاء تعاون أمني عربي-إسرائيلي، ودفعت بدول الطوق العربية (الأردن ومصر) إلى مراجعة علاقاتها مع إسرائيل، فقد رفضت القاهرة بشكل قاطع تهجير أهالي غزة إلى سيناء، حيث شكلت المخططات الإسرائيلية مصدر قلق كبير لمصر وتهديد لأمنها القومي، فيما أعلن الأردن عن طلبه مغادرة السفير الإسرائيلي في عمّان واستدعاء سفيره في تل أبيب لحين انتهاء الحرب، وأن جميع الخيارات مطروحة أمامه بما فيها الحرب.

هُوة كبيرة في الاستجابة بين العرب و "محور المقاومة"

اندفعت الدول العربية للتركيز على الحرب أكثر من تركيزها السابق على السلام، ومن الواضح أن القتال الدائر من المرجح أن يؤدي إلى انقسام جديد بين العرب و"محور المقاومة" أكثر مما تدفعهم نحو مزيد من التقارب. ففي الوقت الذي تسعى فيه الدول العربية لتوظيف الحلول السياسية عبر الدبلوماسية ونهج الضغوط المركبة لوقف الحرب، فإن إيران ترى أن تصعيد الهجمات العسكرية ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية هو السبيل لوقف الحرب، وأظهرت قدراً من التصعيد لا يستهان به، خاصة بعد قيام الحوثيين باختطاف سفينة تجارية في البحر الأحمر، ما يعني أن طهران لا تمانع جر المنطقة نحو صراع جديد، وإعادة تقديم الشرق الأوسط إلى العالم كمنطقة صراعات، فضلاً عن سلوك حلفائها تجاه القوات الأمريكية في سوريا والعراق.

وإن انعكاسات ذلك، لا تترتب على العلاقات العربية-الإيرانية فحسب، بل تطال أيضاً كلاً من سوريا والعراق. فقد تقاربت الدول العربية مع دمشق وفق قاعدة "خطوة مقابل خطوة"، والتي ترتكز أولى خطواتها على وقف إنتاج وتهريب المواد المخدرة المعروفة باسم الكبتاجون وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، لكن الحرب تطرح تحديات جديدة على المستوى الأمني والسياسي، من ضمنها قيام العديد من الجماعات المسلحة باستخدام الأراضي السورية في هجمات ضد إسرائيل، بالرغم من إظهار الحكومة السورية قدراً كبيراً من ضبط النفس تجاه الحرب، وتوافقها مع الدول العربية على أولوية الحلول السياسية، إلا أن ذلك لم يمنع إسرائيل من توجيه ضربات انتقامية للمنشآت السورية سواء ضد مطاري دمشق وحلب أو ضد قواعد الجيش السوري.

أما بالنسبة للعراق؛ وبشكل مماثل للحالة السورية، فإن مهاجمة مجموعات عراقية مسلحة للقوات الأمريكية في العراق وسوريا ينطوي على مخاطر جر المنطقة إلى صراع أوسع، وينعكس بشكل سلبي على الجدوى الاقتصادية من المشاريع الإقليمية المشتركة لا سيما مع مصر والأردن، لأسباب أمنية في المقام الأول، فقد بينت الأحداث أن العلاقات الرسمية الثنائية أو المشاريع الاقتصادية ستبقى رهينة لمواقف الجماعات المسلحة منها، وبالرغم من قِدم هذا التصور إلا أنه طُبق عملياً مؤخراً، خاصة بعد محاولة تلك الجماعات استهداف الأردن سواءً من خلال المظاهرات عند معبر طريبيل أو عرقلتها الجزئية لإمدادات النفط العراقي للأردن، أو تأثر الأراضي الأردنية بالهجمات ضد الأهداف الإسرائيلية، كما في سقوط ثلاث صواريخ حوثية في مناطق نائية جنوب الأردن.

الجماعات المسلحة تحاول فرض خيار العسكرة على المنطقة 

في وقت سابق من العام 2023، نجحت الصين بأن تكون ضامناً لاستئناف العلاقات السعودية-الإيرانية، والتي على إثرها أعيد النظر في طبيعة الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، وكان يعتقد أن تخفض من أنشطتها العسكرية مقابل تركيزها على الأبعاد المحلية سواء في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان، وتحديداً جماعة أنصار الله الحوثية، التي كان الغرب يرى فيها جماعة مسلحة تسعى لنيل الاعتراف الدولي بها كقوة شرعية فاعلة في الحكم والإدارة، خاصة وأنها لم تُلحق سابقاً أضرارا في المصالح الأمريكية والإسرائيلية.

لكن بعد الحرب؛ ترجم الحوثيون خطابهم المعادي للولايات المتحدة وإسرائيل على أرض الواقع، وانخرطت إلى جانب جماعات مُسلحة في هجمات ضد المصالح والمواقع الأمريكية والإسرائيلية. وقد أوضحت التحركات التي قامت بها أطراف ما يُعرف بـ"محور المقاومة" ضمن استراتيجية إيران المعروفة باسم "وحدة الساحات"، الإمكانية المُتوفرة للجماعات المسلحة دون الدول من التأثير على السلم والاستقرار الإقليمي. إذ انطلقت الهجمات من سوريا ولبنان واليمن والعراق، ومنها ما عبر أجواء بعض الدول العربية وسقط في أراضيها.

 ستراتيجيكس-الحرب-على-غزة-والسياسات-العربية-in-3.jpg

إن سلوك تلك الجماعات لا ينطوي عليه مخاطر وتهديدات إقليمية فحسب، بل دولية أيضاً، فمن شأن اختطاف الحوثيين لسفينة تجارية إسرائيلية في البحر الأحمر أن يُعرض الممرات البحرية الاستراتيجية مثل باب المندب للخطر، ويستدعي ذلك انخراط دول جديدة في مجريات الحرب لا سيما الصين التي تعتمد على البحار في إمداداتها من الطاقة، وبالتالي فإن هذه الجماعات لا تتردد في إعادة المنطقة إلى أجواء الصراع التي تؤثر بشكل كبير على مشاريع الدول العربية الاقتصادية الوطنية والمشتركة والعابرة للإقليم.

وبينما جميع تلك الجماعات هي جزء من الحكم والإدارة في دولهم، فإن ذلك يعني أنه من الصعب إرضاؤها وإغرائها بالحكم والمناصب والتسويات، فذلك لن يدفعها للتركيز على السلام والتنمية بقدر ما يعزز من تموضعهم في "محور المقاومة"، وخدمة المصالح الإيرانية، ومن المفترض أن تكون هذه الحقيقة قد اتضحت للولايات المتحدة والدول الغربية بعد أن مارسوا ضغوطهم لإنهاء الحملة العسكرية للتحالف العربي في اليمن والبحث عن حلول دبلوماسية للأزمة.

الأكثر خطورة أن تلك الجماعات تحاول المزايدة على الموقف العربي، وفي وقت تجد فيه الشعوب العربية أن تلك الجماعات تُقدم على أفعال تصعيدية وعسكرية، فإن ذلك يُشكل حرجاً للنظام العربي الرسمي الذي يعتمد الحلول السياسية، إلى جانب ذلك؛ فإن هذه الجماعات أظهرت حجم المخاطر المحدقة في الدول العربية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، ومن البر والبحر والجو، ويجب أن تُقرأ استراتيجية "وحدة الساحات" هذه بأنها تهديد لجميع دول المنطقة، وطالما أنها طبقتها ضمن عتبة منخفضة من الصراع مع الولايات المتحدة وضد أحد أوثق حلفائها إسرائيل، فمن المحتمل أن تمارسها غداً ضد دول أخرى.

وأخيراً؛ طرحت الحرب تحولات عدة على مستويات الدبلوماسية والتهديدات والأولويات، ومن المرجح أن تقوض الديناميكيات التي عملت عليها الدول العربية خلال الفترات السابقة وتحديداً تجاه رغبتها في السلام والتركيز على الشؤون الاقتصادية مقابل تحييد النزاعات السياسية لا سيما المعقدة منها، إلا أن هذه القضايا لا تزال تثبت حضورها وقدرتها على تغيير المسارات الإقليمية، ومن جهة أخرى؛ فإن الخطوات العربية جاءت مدعومة بنوايا جادة نحو السلام لكنها تصطدم بواقع إقليمي لا يزال يُعاني من بؤر صراع، وتنتشر فيه الجماعات المسلحة بشكل فاعل ونشط ومؤثر في سياق ومسارات المنطقة.

طوفان الأقصى | الصراع الفلسطيني الإسرائيلي | الحرب على غزة | وحدة الساحات

عبد الملك حسين عامر

باحث في معهد ستراتيجيكس