تحولات المشهد الداخلي الإيراني ما بعد الحرب
تشير معطيات الحرب الأخيرة إلى تراجع صورة النظام الإيراني نتيجة التقويض الاستراتيجي ومخاطر الحراك الداخلي، ما قد يؤدي إلى تحول في بنية النظام وهو ما يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات، من بينها شلل سياسي بسبب تعذر الحسم بين الإصلاحيين والمتشددين، أو توافق مرحلي لإدارة الأزمة، إلى جانب احتمالات دراماتيكية مثل تصاعد اضطرابات انفصالية في مناطق الأقليات، وهو ما قد يفرض تحديات غير مسبوقة يصعب تجاوزها دون حلول جذرية.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٢٩/٠٦/٢٠٢٥

واجهت إيران سلسلة معقدة من المتغيرات الداخلية والخارجية، منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023 وحتى الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل في 24 يونيو 2025، إذ ترتَّب على سياق الحرب وتطورها تداعيات عميقة طالت القدرات العسكرية الإيرانية والعقيدة الدفاعية المُتبعة منذ نهايات الحرب الإيرانية العراقية أواخر ثمانينات القرن الماضي، بل ألقت بظلالها على الخطاب الديني والثوري الذي يمثل الركيزة الأساسية للنظام. وبشكلٍ يدفع إلى الاعتقاد بتأثير تلك التداعيات على بُنية النظام وسياساته المحلية والخارجية. وأن تؤدي إلى إعادة تشكيل موازين القوى داخل النظام السياسي والمجتمع الإيراني على حد سواء.
ركائز النظام السياسي في إيران
عمل النظام الإيراني منذ قيام الثورة عام 1979، على تحصين بُنيته السياسية في مُواجهة أشكال التهديد الداخلية والخارجية، وبما ضمن له استمراريته لعقود في مُواجهة مُختلف الظروف، حتى أقساها. لا سيما بعد خوضه الحرب الطويلة مع العراق (1980–1988)، التي اندلعت في ظل نظام سياسي ناشئ لم يمر على تأسيسه سوى عام واحد بعد ثورة 1979، ثُم تكيفه مع التحولات الجيوسياسية والاستراتيجية مع بروز نظام القطبية الأحادية بقيادة الولايات المتحدة، ومواجهته الضغوط والعقوبات الأمريكية ما قبل الاتفاق النووي عام 2015، وبعد انسحاب واشنطن منه عام 2018، وكذلك صموده في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثُم سلسلة اضطرابات "الربيع العربي". بل على العكس استطاعت إيران في كثير من الأحيان أن تستفيد من الدروس والفُرص التي أتاحتها تلك الأزمات، فقد طورت بعد الحرب مع العراق عقيدة دفاعية مُتقدمة، توسعت إثر أحداث "الربيع العربي" إلى ما عُرف بـ "محور المُقاومة"، مُستفيدةً من الغزو الأمريكي للعراق، ثمَّ مِنْ بروز دول هشة تعاني نزاعات محلية، وتطورت لاحقاً لاستراتيجيتها المعروفة بـ "وحدة الساحات". فيما استطاع النظام السياسي داخلياً إحكام قبضته على السُلطة والمجتمع، بل وعزز من أدوار وأدوات المحافظين والمتشددين على حساب الإصلاحيين، الذين انحصرت مُشاركتهم بالمناصب المُنتخبة، بعيداً عن مراكز صُنع القرار الفعلية، مثل مكتب المُرشد والحرس الثوري ومجلس الأمن القومي ومجلس صيانة الدستور.
تقوم استراتيجية بقاء النظام الإيراني على أربعة مرتكزات أساسية مترابطة تُشكّل معًا الإطار الحاكم لتوجهاته الداخلية والخارجية، وهي: وهي: (1) عقيدة "الدفاع الأمامي"؛ (2) السياسة الأمنية الداخلية؛ (3) القدرات العسكرية، لاسيما الصاروخية والبرنامج النووي؛ (4) المرجعية الأيديولوجية التي تستند إلى العقيدة الدينية والثورية. وقد أُديرت هذه المستويات الأربعة في سياق هيكلي متشابك، يجعل الفصل صعبًا بين العقيدة السياسية للنظام وسلوكه العسكري وأدائه الدبلوماسي، حيث يُجسّد كل منها الآخر بصورة عضوية.
وقد رسخ النظام تلك المرتكزات دستورياً إذ نص على عقيدته الثورية والدينية في بنية الدولة ومؤسسات الحكم، مما مهّد الطريق لتوسيع نطاق دور المؤسسة العسكرية في السياسة الخارجية، لا سيما بعد عام 2003. وتجلى ذلك في دمج ساحات الصراع الإقليمي ضمن استراتيجيته لمُواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل. وبالتوازي مع تكثيفها استثماراتها في مجالي القدرات الصاروخية والنووية. أما على الصعيد الداخلي، فقد اتجه النظام إلى تعزيز مسار الأمننة، حيث أُنيطت بالمؤسسات الأمنية -وعلى رأسها قوات الباسيج (تعبئة الفقراء والمستضعفين) - مهامٌ رئيسية تتضمن قمع الحركات الاحتجاجية، واحتواء محاولات التمرد والانقلاب. وقد أسهم هذا التماسك بين المستويات الأربعة في تمكين النظام من امتصاص الصدمات والمواجهات الخارجية، والحد من تداعيات التوترات الداخلية، بما في ذلك التململ الشعبي المتكرر الذي تراوح بين الاحتجاجات الميدانية وأعمال العنف محدودة النطاق.
تصدع الركائز وظهور الاختراقات
أدت الحرب في قطاع غزة وتطوراتها وصولاً إلى المواجهة المُباشرة مع إسرائيل في 13 يونيو 2025، إلى تصدع تدريجي في ركائز ومقومات النظام السياسي الإيراني وتحديداً في:
عقيدة الدفاع الأمامي
القدرات العسكرية الصاروخية والبرنامج النووي
المرجعية الأيديولوجية المُستندة على التعبئة الثورية في مُواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.
من جهة عقيدة الدفاع الأمامي، التي تعتمد فيها طهران على دعم وتسليح شبكة واسعة من الوكلاء العسكريين، فقد تعرضت لضربات بالغة، تجلت في تراجع فعالية ونفوذ أذرعها الإقليمية، خاصة حزب الله اللبناني (الذراع الأهم) الذي يبدو أنه خرج – فعليًا أو وظيفيًا- من معادلة "وحدة الساحات"، ولم يعد الفاعل المحوري الذي كان عليه سابقًا. وفي سياق متصل، فقدت إيران إحدى ساحاتها الاستراتيجية الرئيسية، والمتمثلة في سوريا، التي كانت قناة لوجستية حيوية لدعم حزب الله وتطويق إسرائيل. بعد تغيّر المعادلات الميدانية مع سقوط النظام السوري وصعود قوى محلية مناوئة لإيران، وقد ترافق ذلك مع سلسلة من الضربات النوعية التي استهدفت كبار قادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري، خاصة أولئك المنخرطين في إدارة العمليات في كل من سوريا ولبنان. وفي ضوء هذه المعطيات، انتقلت الحرب إلى الأراضي الإيرانية في انهيار واسع لمفهوم الدفاع الأمامي، بدت قدرة طهران في إدارتها لمشهد الحرب ضد إسرائيل محدودة، ومقيدة في المبادرة بشكل واضح.
وعلى نطاقٍ أوسع من ذلك، لم تقتصر أهداف الاستراتيجية على الدفاع الأمامي أو المتقدم تحقيق الردع العملياتي ضد خصومها وفي مقدمتهم إسرائيل فحسب، بل شملت أيضًا وضعها كقوةٍ إقليمية فاعلة، استطاعت من خلالها السيطرة وكسب النفوذ في أربع دول عربية (العراق ولبنان وسوريا واليمن) والتأثير في محيطها الإقليمي، عبر ممارسة الضغط والإكراه السياسي والعسكري متعدد الأوجه والهجين، ومع تآكل مقومات هذه الاستراتيجية، ضمن تداعيات الحرب في قطاع غزة، وقبل مواجهتها المباشرة مع إسرائيل، أخذت تشهد تراجعًا متسارعًا في دورها الإقليمي وأدواتها وعودة إلى ما وراء حدودها.
أما من جهة برنامجها النووي والصاروخي، -الذي طورته إيران كتجسيد للبعد القومي ورمز للاستقلالية- فإن كلا البرنامجين الصاروخي والنووي، يتكاملان نظرياً في تحقيق هدفين أساسيين: تشكيل أداة ردع استراتيجية من جهة، وتمهيد الطريق لاستخدام الصواريخ كحاملات للأسلحة النووية في حال تطويرها من جهة أخرى. غير أن الحرب في قطاع غزة، وكشف محدودية قدرات الردع الإيرانية -المتمثلة في شبكة الوكلاء التي كانت طهران تتباهى بها كأداة ضغط في حالات التصعيد العسكري أو كورقة تفاوضية- أجبرت إيران على خوض المواجهة الأخيرة مع إسرائيل بشكل شبه منفرد. وقد اعتمدت في ذلك بشكل رئيسي على ترسانتها الصاروخية البالستية، التي فشلت في ردع إسرائيل عن مواصلة ضرباتها في العمق الإيراني، بالرغم من التأثيرات المادية والنفسية التي أحدثتها صواريخها في داخل العمق الإسرائيلي، وقد أدى تآكل أدوات الردع الإيرانية إلى انتقال إسرائيل من سياسة استهداف القدرات البشرية والبنى التحتية النووية الإيرانية من ضربات سرية إلى الهجمات العلنية المباشرة ، حيث شملت ضرباتها خلال الأيام الأولى علماء نوويين بارزين، ومنشآت بحثية حساسة ذات صلة بالبرنامج النووي، وصولاً إلى استهداف الولايات المتحدة منشآت إيران النووية الرئيسية في نطنز وأصفهان وفوردو. ووفقًا للتقديرات المتضاربة بين واشنطن وطهران، أسفرت هذه الضربات عن تدمير جزئي أو كلي لبنية البرنامج النووي الإيراني، ونكوص كبير في القدرات التحصينية، وتقويض الجدوى الاستراتيجية للمنشآت النووية المتبقية.
وعلى نطاقٍ أوسع من ذلك، لم يكن برنامج إيران النووي مجرد مشروع تقني، بل شكَّلَ استراتيجية ردع خارجية وشرعية داخلية للنظام الإيراني، وكان يُمثل أداة سياسية قادرة على وضع إيران في مكانة دولية، بعد أن كانت تتمتع بمكانة إقليمية عبر شبكة وكلائها. وبذلك خسرت إيران آخر أوراقها الاستراتيجية القادرة على منحها توازناً أمام القوى الإقليمية والكبرى.
وفيما يتعلق بخطاب النظام العقدي والثوري، فقد مثلت الحرب منذ السابع من أكتوبر، لحظة اختبار فاصلة للنموذج العقائدي الإيراني، والذي استند إلى ثلاث ركائز وهي: 1) دعم قوى "المقاومة"، 2) العداء للولايات المتحدة وإسرائيل، 3) تصدير الثورة العابرة للحدود. إلّا أن التطورات الأخيرة كشفت هشاشة هذا الخطاب عمليًا. فمن ناحية، تخلت إيران عن وكلائها من القوى الشيعية المسلحة في الإقليم (العراق، سوريا، لبنان، اليمن) وأبرزها حزب الله اللبناني الذي تركته يواجه مصيره. في حين اختارت طهران تبني موقف دفاعي حذر، بل وطالبت من حزب الله تجنب التصعيد وقبول وقف إطلاق النار الذي تم في 27 نوفمبر 2024، ما أدى إلى تفكك نموذج وحدة ساحات "محور المقاومة" نتيجة لكل من الهزيمة العسكرية، وغياب الدعم والتدخل المباشر من مركز القرار في طهران.
ومن ناحية أخرى، أوضحت الحرب حالة التناقض بين العداء لأمريكا وإسرائيل على مستوى الخطاب والشعارات وما بين استعداد النظام لتقديم التنازلات التي بدأت بغرض تخفيف العقوبات للحصول على مكاسب اقتصادية، وانتهت على شكل تنازلات تهدف إلى الحفاظ على النظام السياسي، خاصة بعد الضربات الأمريكية على منشآتها النووية، وهذا التناقض بين الخطاب الثوري والممارسة البراغماتية يضعف من مصداقية وشرعية النظام داخليًا، بما أظهره من فشل في الرد النوعي على الضربات الإسرائيلية، أو حتى الدفاع الفعال عن مواقعها وبرامجها السيادية. أضف إلى ذلك، أن الخطاب الثوري يواجه بالأصل بعض المعارضة داخل البنية الإيرانية وأجنحة وتيارات النظام نفسه؛ حيث هناك انقسام ما بين من يتمسك بخطاب الثورة، وبين تيارات إصلاحية تراه خطابًا أيديولوجيًا يهدد تماسك الدولة وأولوياتها الوطنية، وكذلك فإن هناك شريحة واسعة من المجتمع وخاصة من الشباب والفئة المثقفة، ترى أن هذا الخطاب لا يحقق تقدمًا ويعرقل مواكبتها للتطور، وهو ما عبرت عنه في عدة احتجاجات وتظاهرات شعبية في الشارع الإيراني. وبفعل الحرب، من المرجح أن الشكوك قد تصاعدت داخل القاعدة الاجتماعية الداعمة للنظام، وتحديدًا حول قُدرته على الاستمرار بنهج المقاومة الثوري، في ظل الخيبات التي مُنيت بها البلاد جراء تجربتها المباشرة وغير المباشرة في الحرب، وذلك نراه ملحوظاً في خطاب الإعلام الرسمي أثناء تغطيته للحرب، والذي بدا مُنفصلاً عن الواقع، ويُشير إلى نجاحات افتراضية مُوجهة على ما يبدو لتلك القاعدة الشعبية.
إيران ما بعد وقف إطلاق النار
تُشير التجارب في دول الشرق الأوسط بشكل خاص، والدول غير الديمقراطية بشكل عام، إلى أن التحولات التي تحدث في بُنيتها أو سياستها الخارجية أو خطابها تنعكس بصورة أو بأخرى في مستوى تماسك النظام وفي العلاقة بين الدولة والمجتمع في ذلك البلد. وقد تمتد آثارها لتشهد تلك النماذج تحولات جوهرية في شكل نظام الحُكم، أو اضطرابات سياسية، أو مراجعات عميقة في البنية السياسية والأيديولوجية للنظام. وفي الحالة الإيرانية التي فقدت ثلاثًا من أربع ركائز، إلى جانب العديد من قُدرات الحرس الثوري الداخلية والخارجية. فإن ذلك يفتح الباب أمام تحوّل عميق في معادلة النظام، ويضعه أمام احتمالات متعددة، تبدأ من إعادة التكيف الجزئي، ولا تنتهي باحتمال التغيير البنيوي أو الانتقال السياسي. وبشكل عام يمكن ذكر مجموعة من الاحتمالات التي قد يُفضي بعضها إلى الآخر.
فعلى صعيد النظام السياسي، يحتمل أن يشهد النظام السياسي الإيراني احتمالين رئيسيين: الأول يتمثل في إجراء مُراجعة عميقة تدفع النظام نحو الخطاب الإصلاحي، وقد يرافق ذلك صعود الإصلاحيين إلى مفاصل السًلطة في مُقابل تراجع نفوذ التيار المحافظ والمتشدد، أما الاحتمال الثاني فيتمثل في تمسك المحافظين وفي مقدمتهم المرشد علي خامنئي بهيمنة المتشددين على السلطة، ما النظام إلى الاعتماد المتزايد على الركيزة المُتبقية القائمة على القوة الصلبة.
في حالة الاحتمال الأول، المدفوع بتداعيات وتكاليف الحرب على الداخل الإيراني، والذي قد يُفضي إلى زيادة قُوة الإصلاحيين داخل الدولة، وما يُعزز من هذا الاحتمال:
1- إن تداعيات الحرب تشكل نتيجة مباشرة للخطاب الثوري والسياسات التوسعية التي انتهجها النظام ودعمها المحافظين، وهي سياسات واجهت رفضاً صريحًا أو ضمنياً من التيارات الإصلاحية.
2- قد تُسهم التطورات الراهنة في تعزيز دعوات الحركات الإصلاحية والاجتماعية والنخبوية، التي دعت باستمرار إلى إعادة توجيه أولويات الدولة نحو الداخل، والتركيز على التنمية والعدالة الاجتماعية، بدلاً من استنزاف الموارد الوطنية في صراعات إقليمية ذات كُلفة استراتيجية باهظة، تبدو آثارها جلية الآن في المشهد الإيراني الحالي.
3- أضعفت الهجمات الإسرائيلية العديد من القُدرات التابعة للحرس الثوري الإيراني، التي أكسبته على مدى عقود قُوته ونفوذه في البلاد وخارجها، بما في ذلك شبكة الوكلاء التي كان يُشرف عليها فيلق القُدس التابع للحرس الثوري، والقدرات الصاروخية، فضلًا عن اغتيال إسرائيل للعديد من كبار قادة المؤسسة منذ 13 يونيو.
أما الاحتمال الثاني، المدفوع بقُدرة النظام على الصمود في مواجهة التهديدات الحقيقية التي واجهها، ويُعزز هذا الاحتمال:
1- تركيز النظام على الأولويات ما بعد الحرب، وفي مقدمتها ترتيبات خلافة المُرشد التي اكتسبت أهمية متزايدة مع التهديدات الأمريكية والإسرائيلية باغتيال المرشد الحالي، ما يفرض على النظام الحفاظ على بُنيته المتشددة لضمان اختيار خليفة للمرشد يحظى بقبول المتشددين والمتدينين والحوزة في قم.
2- قد يدفع حجم الاختراق الذي شهدته البلاد إلى مزيد من التوجه نحو الحل الأمني وتعزيز نفوذ القوات الأمنية في مختلف مفاصل الدولة، وعدم التمييز بين المتعاون مع إسرائيل والمعارض السياسي، ما قد يُعيد البلاد إلى مرحلة ما بعد الثورة حين تزايدت عمليات الاعتقال والاغتيال في صفوف قادة الثورة والمسؤولين الحكوميين.
3- قد يدفع خوف النظام من الاحتجاجات الجماهيرية إلى تعزيز قبضته الأمنية، وتأهيل قوات الأمن والباسيج لسد الفراغ الناتج عن الضربات التي تعرض لها الحرس الثوري، خاصة في المناطق الأكثر هشاشة واضطراباً في البلاد.
من شأن توجه النظام السياسي إلى الاحتمال الأول، أن يترتب عنه تحولات متوازية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وعلى مُستوى السياسة الخارجية، فقد يشير إلى نهاية مرحلة التصدير العقائدي للثورة الإسلامية عملياً وخطابيًا، كما تظهر تداعيات المواجهة الأخيرة تراجعًا في الخطاب التهديدي والتركيز على السيادة والقانون الدولي وحق إيران في الدفاع عن نفسها، وهي مصطلحات تعكس انتقالًا من الهجومية إلى الدفاعية. ورغم كونه تحولًا مؤقتًا إلا أنه يدل على الإضعاف الأيديولوجي والسردي الذي لحق بالنظام، وتراجع قدرته على الإقناع والتأثير على الداخل وحتى في أوساطه القريبة، التي أظهرت الحرب حجماً غير مسبوق من الاختراقات الإسرائيلية له.
وفي هذا السياق، قد تنتقل البلاد في المرحلة المُقبلة من مرحلة التفاوض مع الولايات المتحدة حول تخفيف العقوبات إلى مستوى استراتيجي أعلى، وذلك عبر الانفتاح على الغرب وتقليل الاعتماد المتزايد على المحور الشرقي الذي لم يُقدم دعمًا كافيًا لإيران خلال الحرب الأخيرة. وتبدو أهمية ذلك جلية عند النظر إلى آثاره المحتملة محلياً، من حيث حاجة النظام إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الأمريكية، كوسيلة لاحتواء أي بوادر تحرك شعبي ضد النظام ، وقد يتطور هذا السيناريو (الاحتمال الأول) بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، ليشمل محاولات دمج عناصر من المعارضة الداخلية والخارجية في عملية التحول الإصلاح ، وقد يتعزز هذا التوجه إذا تبنت الحكومة الإصلاحية الجديدة سياسات اقتصادية جديدة من خلال تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة والغرب، واعتماد سياسات خارجية جديدة تجاه دول المنطقة، خاصة دول الخليج وسوريا ومصر.
الذهاب نحو الاحتمال الثاني، فينطوي على تداعيات اقتصادية ويُفاقم الضغوط الاجتماعية، ويحفز نشوء احتجاجات ورُبما أعمال عُنف وتمرد في مناطق متفرقة من البلاد. فقد شهدت إيران موجات من احتجاجية متتالية بين عامي 2009 - 2022، لأسباب سياسية وأيديولوجية كـالحركة الخضراء عام 2009، ولعوامل اقتصادية مثل احتجاجات الوقود عام 2019، واحتجاجات ثقافية ودينية كتلك التي أعقبت مقتل مهسا أميني عام 2022 ما يدل على وجود بيئة خصبة للحراك المعارض لطبيعة النظام، وقد تتعزز هذه البيئة بعد الحرب لتشمل في مضمونها توجيه نقد صريح وأساسي لدور إيران الإقليمي وتدخلات الحرس الثوري في الخارج، كمظهر للتناقض بين تطلعات المجتمع وخيارات الدولة الثورية وسلوكها، كما قد تتوسع لتشمل شرائح تعرف بأنها من قواعد النظام والحاضنة التقليدية للسلطة، وخاصة في المناطق ذات الثقل الاجتماعي والعقائدي.
في ظل هذا السيناريو يُتوقع أن تتبنى الدولة مقاربة أمنية صارمة ضد أي محاولة للتحرك أو التمرد، إلا أن ذلك يفرض عليها تحديًا أساسيًا يتمثل في قُدرتها على ضبط الأمن في البلاد، فمن ناحية، تعرضت العاصمة طهران، خاصة قطاعها الشمالي، لعدد كبير من الضربات الإسرائيلية، والذي شهد أحداث الثورة الخضراء، ويعد مركز الثقل الثقافي والاجتماعي للمعارضة المدنية، ويقطنه أبناء الطبقة الوسطى العليا، والنخب الأكاديمية، وقطاعات واسعة من المجتمع المدني ذي التوجه المنفتح.
كما قد يؤدي اعتماد النظام المتزايد على الأمن إلى تفجير ردود فعل مسلحة ضده، خاصة في المناطق الحدودية والبؤر الهشة، ويزيد من تعقيد المشهد الداخلي الإيراني العامل العرقي–المذهبي، الذي يتجلّى بوضوح في التوزيع الجغرافي غير المتوازن للأقليات. حيث لا تتوزع هذه الجماعات على امتداد البلاد بشكل متساو جغرافيًا، بل يتركز وجودها في مناطق بعينها، معظمها يقع في الأطراف والأقاليم الحدودية، مثل الكرد في الغرب، والبلوش في الجنوب الشرقي، والعرب في الجنوب الغربي، والتركمان في الشمال الشرقي. ويُضفي هذا التوزيع بُعدًا إضافيًا من الهشاشة على البنية الداخلية، نظراً لأن هذه المناطق غالباً ما تكون مهمّشة تنموياً، وتشهد توترات مزمنة مع المركز، ما يرفع احتمالية تحولها إلى بؤر احتجاجية أو تمردية.
وقد يتصاعد الاحتمال الثاني ليؤدي إلى اضطرابات داخلية التي قد تصل إلى فقدان سيطرة النظام، خاصة إذا تفاقمت الخلافات بين مراكز القوى بعد وفاة المرشد، وحدثت انشقاقات في المؤسسة الدبلوماسية (السفارات والقنصليات والتمثيل الدولي)، ما قد يمهد لتغيير جذري في النظام على المدى المتوسط.
وأخيراً، تشير نتائج الحرب الأخيرة إلى تراجع هيبة النظام الإيراني ينبع من تقويضه استراتيجيًا، ومخاطر حدوث حراك داخلي معارض؛ فقد يسهم ما تعرضت له مقدرات النظام في بداية حدوث تحول في بنية النظام نفسه؛ إذ قد يؤدي ضعف الشرعية الثورية وفقدان النفوذ الخارجي إلى تحول تدريجي في النظام من قوة إقليمية وتوسعية إلى نظام تدفعه تناقضاته الداخلية نحو مواجهة تحديات داخلية قد تكون غير مسبوقة يصعب احتواءها بلا حلول جذرية، إضافة إلى احتمالات أخرى مؤكدة بعد ، كالشلل المؤسسي الناتج عن تعادل القوى بين الإصلاحيين والمتشددين، وتوافق الفريقين على إدارة الأزمة على قاعدة الحلول الوسط وتحقيق مصالح الطرفين في البقاء. أو تطورات مفاجئة، كعجز المرشد الأعلى عن أداء مهامه بسبب المرض أو كبر السنّ، واندلاع اضطرابات انفصالية في بعض مناطق الأقليات المهمشة، خاصة تلك التي تشهد مواجهات شبه يومية مع الحرس الثوري وقوات الأمن الإيرانية.

ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات