ترامب بين إدارتين: التوجهات السياسية والمتغيرات الإقليمية
لا تختلف إدارة ترامب الثانية كثيراً في توجهاتها مُقارنة بإدارته الأولى، فيما يتعلق بالقضايا الرئيسة وهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والموقف من إيران، وتوسيع اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، ويميل المراقبون لقراءة المشهد من منطلق استكمال سياساته الأولى، والاتجاه لحسم الملفات الشائكة في المنطقة.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٠٥/١٢/٢٠٢٤
شكلت الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 مرحلة جديدة في المشهد السياسي الأمريكي، مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بولاية ثانية، وسط اهتمام دولي وأمريكي بمجريات الحرب في قطاع غزة ولبنان، ومشهد إقليمي شديدة التركيب وبالغ التعقيد يُعتقد أن يحتل سُلم أولويات الإدارة الأمريكية القادمة، في وقت مال فيه المحللون لتقييم فعالية ترامب بالنظر إلى فترة ولايته الأولى، مع استثناء فارق رئيس في ذلك التقدير من حيث؛ أولاً الاختلاف في الشخصيات المختارة للتشكيلة الجديدة لإدارة ترامب الثانية وأدوارها في اتخاذ القرارات، وثانياً المشهد الإقليمي والدولي المُتغير عن ذلك الذي عهده ترامب خلال إدارته الأولى، ما يُعزز من التساؤل حول اتجاه الإدارة الأمريكية في مقاربة الحرب في قطاع غزة ولبنان، وبشأن القضايا الرئيسة الأكثر أهمية: وهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والموقف من إيران، وتوسيع اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية.
افتتاحية الإدارة القادمة: الحرب في قطاع غزة ولبنان
جاء فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بالتزامن مع مجموعة مًُتغيرة من الأحداث في نطاق الحرب في قطاع غزة ولبنان، إذ تتجه الأولى نحو "حرب استنزاف" طويلة الأمد، مع عدم قُدرة أي من الأطراف على حسم ميدانها عسكرياً، ومع التعقيد الذي لا يزال مُحيطاً بمفاوضات وقف إطلاق النار بالرغم من تكثيف ضغوط إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن والوسطاء على الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس والمُستمرة حتى اللحظة. في المُقابل تتوجه الساحة اللبنانية لوقف إطلاق النار، بعد أن أنهكت الضربات الدقيقة حزب الله عن التمسك بـخيار "وحدة الساحات"، ووسط تعقيدات ميدانية واجهتها إسرائيل خلال المرحلتين الأولى والثانية من العملية العسكرية البرية في جنوب لبنان. ومن المُرجح أن تُواجه التسوية أو المسار السياسي في قطاع غزة صعوبات أكثر مُقارنة بالساحة اللبنانية التي أصبح فيها ذلك المسار أكثر تبلوراً.
يتعزز ذلك عند النظر في التغيرات الحكومية الإسرائيلية التي رافقت الانتخابات الأمريكية، مع إقالة نتنياهو لوزير دفاعه، يوآف جالانت، الذي كان يعتبر حلقة الوصل بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة جو بايدن والأكثر تقارباً مع استراتيجية تحقيق الأهداف الإسرائيلية من خلال استراتيجية إدارة الصراع التقليدية، وعين يسرائيل كاتس بدلاً منه، والمعروف بصلاته السابقة بإدارة ترامب حينما كان وزيراً للخارجية. وفي الواقع قُرأت هذه التغيرات باعتبارها استجابة واستعداداً لتولي ترامب منصبه رسمياً مطلع يناير 2025، إذ لاقى فوزه ترحيباً واسعاً من قبل أطراف الحكومة الإسرائيلية وخاصة المتطرفة فيها، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، وذلك بالنظر إلى ما حققته الخطوات التي اتخذها ترامب في فترة ولايته الأولى والتي تؤيد سياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف؛ من قبيل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها من تل أبيب عام 2017، ووقف تمويل وكالة الأونروا وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن في مارس 2019 ، كما الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة في مارس 2019 ، والتي تسيطر عليها إسرائيل منذ عام 1967 وضمتها بشكل غير قانوني عام 1981، ثم إعلانه في نوفمبر من العام 2019 عدم اعتباره للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة مخالفة للقانون الدولي. وبذلك أظهرت مواقف ترامب وقراراته، أنه يسير وفق نمط مُغاير عن السياسة التقليدية للولايات المتحدة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من جهة، وتجاه موقف المجتمع والقانون الدوليين من ذلك الصراع من جهة أخرى.
بالنظر إلى ذلك؛ ستبدأ إدارة ترامب افتتاحيتها في يناير القادم بمسألة وقف الحرب في جبهة قطاع غزة والتسوية السياسية ما بعد وقف إطلاق النار في لبنان؛ إذ أنه كرر طوال حملته الانتخابية تعهداته بإنهاء الحرب ووقفها في الساحتين، دون أن يوضح كيف سيختلف نهجه عن إدارة بايدن، وما الثمن الذي تدفعه الأطراف في سبيل القبول بصفقة سياسية توقف الحرب أو صفقة أكثر شمولاً؟ ومع ذلك يتطلب تحديد سياسته المتوقعة في هذا الجانب، النظر بشكلٍ أولي وأساس في تشكيلة مُرشحي ترامب للمناصب الرئيسة في إدارته وتحديداً المعنية منها بملفات الشرق الأوسط، حيث تعكس خلفية ومواقف الشخصيات المرشحة لشغل هذه المناصب ملامح توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة نحو الشرق الأوسط، ومن ثُم البحث في واقعية طروحاتها بالنظر إلى ما استجد على مشهد المنطقة في الفترة بين إدارتي ترامب الأولى والثانية، ومدى صلاحية تطبيق أجندته وتصوراته وطموحاته، خاصة بعدما أدت الحرب في قطاع غزة ولبنان إلى دمج قضايا الشرق الأوسط بعضها ببعض، سواءً ما يتعلق منها بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو المقاربة الأمريكية تجاه إيران أو استكمال اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية.
توجهات تشكيلة إدارة ترامب الثانية
اكتمل الفريق الإداري للرئيس المنتخب دونالد ترامب، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وتحديداً المعنيين منهم بملفات الشرق الأوسط، وهو ما يوفر قراءة التشكيلة الإدارية لتقديم نظرة فاحصة وأكثر وضوحاً تجاه الخطط والمواقف المُرجح اتباعها خلال إدارته الثانية، وتحديداً تجاه المنطقة. وفي الواقع؛ جاء فريق ترامب متوافقاً من حيث الخلفية والتوجهات تجاه ثلاث قضايا تتمثل في الموقف من السياسة الخارجية الإيرانية وبرنامجها النووي التسليحي، والعلاقات العربية-الإسرائيلية لا سيما في إطار التعاون الاقتصادي والعسكري، وأخيراً السياسات الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والمرتبطة بالحرب في قطاع غزة واليوم التالي لها.
ويبرز من بين المرشحين كل من (ماركو روبيو) وزيرًا للخارجية، و(مايكل والتز) مستشاراً للأمن القومي، و(مايك هاكابي) سفيرًا للولايات المتحدة في إسرائيل، و(إليز ستيفانيك) سفيرة لأمريكا في الأمم المتحدة، و(جون راتكليف) لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية، و(ستيفن ويتكوف) مبعوثا رئاسياً خاصاً للشرق الأوسط، و(مسعد بولس) في منصب كبير مستشاريه للشؤون العربية والشرق أوسطية، وباستثناء ويتكوف وبولس القادمين من خلفيات استثمارية، فإن المرشحين السياسيين لديهم وجهات النظر ذاتها تقريباً تجاه تأييد "الضغوط القصوى" ضد إيران، والتكامل الإقليمي العربي الإسرائيلي، والدعم المُطلق لسيادة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.
وعند النظر إلى مواقفهم نجد مثلاً؛ تقاربهم من جهة تجاه إيران؛ إذ سبق لروبيو أن قدم عام 2023 مشروعي قانونين ضد إيران، الأول هو "قانون وقف إيواء البترول الإيراني" والثاني "قانون إنهاء الإرهاب الإيراني"، فيما وصف ترامب مايكل والتز بأنه "خبير في التهديدات التي تشكلها الصين وروسيا وإيران والإرهاب العالمي"، وفي عام 2021، شارك والتز في رسالة قدمت إلى إدارة الرئيس جو بايدن تطالبه بـ"عدم التغاضي عن طموحات إيران النووية وصواريخها البالستية ودعمها للإرهاب"، ودعم توجيه إسرائيل ضربات للمنشآت النووية الإيرانية في إطار ردها على الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل مطلع أكتوبر. أما راتكليف فهو مؤيد للسياسات المناهضة لإيران، وسبق له أن اتهم إدارة بايدن بتحويل توجهات الاستخبارات الأمريكية الهامة بعيداً عن جماعات مثل حماس، ما أدى إلى الفشل في توقع أو عرقلة هجمات أكتوبر. وتتقارب مواقفهم كذلك تجاه الحرب في قطاع غزة والصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأوسع، فقد كان روبيو عضواً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ولعب دورًا رئيساً في الدفع باتجاه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وقد ذكر والتز بعد ترشيحه أن الإدارة الجديدة يجب أن "تدع إسرائيل تنهي المهمة سريعاً". فيما وصفت ستيفانيك الأمم المتحدة بالانحياز ضد إسرائيل وطالبت في خطاب ألقته في الكنيست الإسرائيلي في مايو 2024 بتوفير ما تحتاجه إسرائيل "بلا شروط لتحقق النصر المطلق على الشر"، أما هاكابي فيعتبر من مؤيدي التوسع الاستيطاني ورفض حل الدولتين، ففي تصريح له قال: "الضفة الغربية ليست أرضًا محتلة، إنها جزء من أرض إسرائيل التاريخية".
ترامب بين إدارتين: تغير في الوقائع والمعطيات
يُمكن القول إن إدارة ترامب الثانية لا تختلف كثيراً في توجهاتها مُقارنة بإدارته الأولى، فيما يتعلق بالقضايا الثلاثة الرئيسة المذكورة سابقاً، ويميل المراقبون لقراءة المشهد من منطلق استكمال سياساته الأولى، والاتجاه لحسم الملفات الشائكة في المنطقة وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. مع ذلك؛ فإن الانسياق وراء القول السائد بأن هذا الفريق سيمنح لإسرائيل ما يُريده اليمين المتطرف فيها، مسألة بالغة التعقيد، خاصة في ضوء الارتباط الشديد بين القضايا الثلاثة بعضها ببعض بفعل الحرب في قطاع غزة ولبنان.
فمن جهة؛ تُصور إسرائيل الحرب بأنها في مواجهة سبع جبهات تقودها إيران، وقد اتضحت خطواتها من بعد أن وسعت الحرب ضد حزب الله في لبنان وكثفت ضرباتها في سوريا بسعيها لتقويض الفصائل المُسلحة في محيطها، وبالتالي تقويض الاستراتيجية الإيرانية المعروفة بـ"وحدة الساحات" والمًتصلة بأدوات السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة، وقد كان ذلك هدفاً لإدارة ترامب الأولى، إذ اتبع مساراً أكثر تشدداً تجاه السلوك الإيراني الإقليمي، تجلى في فرض عقوبات اقتصادية صارمة استهدفت تصدير النفط لتقويض مصادر تمويل إيران وعليه انخفضت صادرات النفط الإيراني 90%، ومن ثُم اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في غارة أمريكية مطلع يناير 2020.
مع ذلك؛ ستواجه إدارة ترامب الثانية واقعاً إقليمياً مختلفاً عما كان عليه الحال خلال إدارته الأولى، من حيث انتهاء الصراع الأوسع بين السعودية وإيران، بعد استئناف الدولتين علاقاتهما في مارس 2023 برعاية صينية، إذ كان الخطر الإيراني يُشكل حجر الزاوية في استراتيجية ترامب تجاه المنطقة، وفي منطلقات دول المنطقة لصياغة علاقاتها وتحالفاتها. وبشكل عام؛ أثبت مسار المصالحات الذي انطلق منذ العام 2021، بأنه خيار استراتيجي ومسار راسخ لدول المنطقة، وقد قاد إلى تعزيز التنسيق بين تلك الدول لا سيما بين الفرقاء السابقين، من قبيل التعاون المصري-القطري في مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والتقارب في الموقفين السعودي والإيراني بخصوص الدعوة لوقف إطلاق النار.
من جهة أخرى؛ تُحاول إسرائيل استغلال الحرب في قطاع غزة للمضي في خطة "تصفية القضية الفلسطينية"، من خلال السيطرة الأمنية والاجتماعية على قطاع غزة، ومعارضة توحيد الإدارة في الضفة الغربية والقطاع تحت حُكم السلطة الفلسطينية، والاتجاه إلى الاعتماد على شركات الأمن الخاصة لفرض النظام ونفاذ القانون خاصة في مناطق شمال القطاع. بالتزامن مع تجدد الحديث بشأن فرض السيادة على الضفة الغربية، إذ أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريش في 11 نوفمبر، أن عام 2025 سيكون عام "بسط السيادة" الإسرائيلية على الضفة الغربية، ورجح السفير الأميركي المقبل لدى إسرائيل مايك هاكابي في 13 نوفمبر موافقة واشنطن على خطة الضم، وسبق ذلك تعيين المُستوطن يحيئيل ليتر سفيراً لإسرائيل في واشنطن. ومن الناحية النظرية تصاعد حديث الضم، بعد تصريح ترامب بشأن توسيع مساحة إسرائيل -أثناء حملته الانتخابية-، وينسجم مع رؤية إدارته الأولى عندما أطلق "صفقة القرن" عام 2021 بهدف حسم الصراع وتحييده عن الملفات الإقليمية الأخرى على اعتبار تراجع ثقل وتأثير القضية الفلسطينية إقليميا ودوليا، وهو ما ثبت عكسه لاحقاً.
لكن المضي بهذا التصور يصطدم مع قضايا أخرى لا تقل أهمية، من بينها مصير المفاوضات السعودية-الأمريكية-الإسرائيلية للسلام، إذ تلتزم الرياض اشتراطها قيام دولة فلسطينية وفق المبادرة العربية للسلام (2002)، والمرجعيات الأممية والدولية لإتمام اتفاق السلام مع إسرائيل، وقد أصبح اشتراطها ذلك التزاماً منها أمام الدول الإقليمية والمجتمع الدولي، خاصة بعد أن أطلقت "التحالف الدولي لحل الدولتين" في سبتمبر 2024، وهذه الرؤية الإقليمية المُوحدة تجاه منع إسرائيل من استغلال الحرب بحسم الصراع ستبقى عائقاً أمام إدارة ترامب من التوفيق بين أجندة إدارته والمتطلبات الإقليمية خاصة مع الدول الحليفة لواشنطن، لا سيما منها الدول التي تجمعها علاقات سلام مع إسرائيل.
ولكن السؤال المهم الآن، هل ما زال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته الحالية ينظران لما حدث منذ 7 أكتوبر بأنه فرصة استثنائية لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بشكل شامل؟ وفي ظل رفضه لدعوات التهدئة، هل يسعى نتنياهو للدفع نحو تحقيق ما يسميه "النصر الكامل" مهما كانت الأثمان؟
ذلك يعني أننا أمام سيناريو استمرار العمليات العسكرية في غزة، وتواجد أمني طويل الأمد شمال القطاع، وإعادة خلط الأوراق في لبنان – بالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار- مع الحفاظ على الصورة الكلية التي تريد تحييد وكلاء إيران في العراق وسوريا واليمن، وإنهاء مفهوم التهديد النووي والبرنامج الصاروخي الإيراني، وكل ذلك يتزامن مع رغبة شديدة في القضاء على "حل الدولتين" بشكل نهائي. علماً بأن التقييم العسكري والأمني يرى أن الحرب قد انتهت وحققت أهدافها، وعلى إسرائيل التراجع قليلاً لفتح المجال أمام تحقيق اتفاق سياسي.
النهج المُتغير للولايات المتحدة تجاه الحرب
حددت إدارة بايدن موقفها من الحرب منذ اندلاع في قطاع غزة موقفها استناداً إلى ثلاثة مرتكزات رئيسة، أولها رفض وقف إطلاق النار حتى القضاء على حركة حماس، وثانيها رفض الاحتلال الإسرائيلي للقطاع أو إجراء أي تغيرات جغرافية فيه، وثالثها منع توسع جغرافيا الحرب وامتدادها إلى لبنان والمخاطرة بصراع إقليمي شامل. وبالرغم من التحولات الدراماتيكية التي كانت حاضرة في جبهات الحرب الثانوية، ووضوح اتجاهها نحو الاستقلالية عن الجبهة الرئيسة في قطاع غزة، من حيث الأهداف والتطورات، خاصة في الجبهة اللبنانية، استمرت إدارة بايدن في دمج كافة الجبهات في مُقاربة واحدة، وإدارتها بحسابات موحدة تجاه كافة الجبهات، بالشكل الذي عبر عنه "البيان الثلاثي" في أغسطس 2024 لوقف الحرب في قطاع غزة، والذي جاء وسط المحاولات الأمريكية لثني حزب الله وإيران عن الرد على اغتيال كل من فؤاد شكر وإسماعيل هنية في 31 يوليو.
مع ذلك؛ فمن المُرجح أن تتمثل أولى التغييرات القادمة في إدارة ترامب الثانية، باتباع واشنطن مُقاربة تفصل بها جبهة غزة عن نتائج الحرب في لبنان، ليس فحسب في السياق العملياتي لـ"وحدة الساحات"، بل كذلك في استقلالية الاستراتيجية الأمريكية وأهدافها تجاه الساحتين. إذ يُحتمل أن تنظر إدارة ترامب إلى الحرب في قطاع غزة باعتبارها جزءاً من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فيما تُربط نتائج الحرب في لبنان بالموقف الأمريكي من إيران بوصفها جزءاً من مهام تقويضها وتحجيمها.
وتلك الاستقلالية لا تُؤثر فحسب في مسار كل من الحربين، بل كذلك في تداعياتهما وباليوم التالي لهما، وفيما توّعد ترامب بإنهاء الحرب في قطاع غزة، إلا أن كيفية تحقيق ذلك غير واضحة. فمن جهة تمضي إسرائيل برسم معالم اليوم التالي للحرب بشكل أحادي، ومن جهة أخرى لا يزال مسار المفاوضات مُعقداً بين تمسك الطرفين بموفقهما، خاصة في ضوء عدم قُدرة حركة حماس على اتخاذ قرار بوقف الحرب بالحرية ذاتها التي أطلقت بها هجمات أكتوبر، لا سيما بعدما لحق بالقطاع من أزمة إنسانية غير مسبوقة، تُحد بشكل كبير من قُدرة الحركة على التعاطي مع الموقف الإسرائيلي المُصر على بقاء قواته ومنشأته في القطاع، وتضعها في مُواجهة المسائلة الشعبية لأهالي غزة عن جدوى الهجمات والحرب. في المُقابل تُشير الإجراءات الإسرائيلية إلى خطط للبقاء طويل الأمد في القطاع، ومن غير المُحتمل أن تنسحب منه قبل تأمين بديل عن حركة حماس قادر على إدارته وضبط الأمن فيه. وفي غضون ذلك تزداد المطالب والضغوط داخل إسرائيل وخارجها بشأن جاهزية التوقيت لإبرام صفقة تطلق بموجبها المحتجزين الإسرائيليين، ما دفع الأطراف المُفاوضة للبحث عن صيغ مؤقتة لوقف إطلاق النار تحت إشراف من فريق ترامب، ووسط تهديدات أطلقها الرئيس المنتخب بتحويل "الشرق الأوسط لجحيم" حال عدم الإفراج عن المحتجزين، وهي رسالة على ما يبدو لحركة حماس والأطراف الداعمة لها لا سيما إيران، بأن فرص الاعتماد على التفاوض باتت محدودة بالجولات الأخيرة منها، وعدم نجاحها قد يُدخل أطراف جديدة من بينها الولايات المتحدة للعمل استخباراتياً وربما عسكرياً بشكل مباشر في قطاع غزة. وبشكل عام تبدو إدارة ترامب القادمة أكثر استجابة مع المطالب الإسرائيلية مُقارنة بإدارة بادين، وتحديداً تجاه بقاء السيطرة العملياتية والأمنية لإسرائيل في القطاع، والاتجاه لحسم مختلف الملفات الأخرى السياسة والاقتصادية ومن بينها إعادة الإعمار والحكم البديل بحكم الأمر الواقع. مع الحفاظ على نافذة تُبقي من حل الدولتين وعودة القطاع لحكم الفلسطينيين احتمالاً قائماً. والأمر ذاته ينطبق على الضفة الغربية؛ ففي حين يتزايد الحديث حول فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، فإن افتراض موافقة إدارة ترامب على تلك الخطط يعتبر سابق لأوانه، ليس لما يُمثله من عقبة في توسيع اتفاقيات السلام بين الدول العربية وإسرائيل فحسب، بل أيضاً لصعوبة حصول إسرائيل على شرعية دولية للضم، واحتمال تضررها قانونياً ودولياً جراء ذلك، ولعدم واقعية تأييد ترامب لحسم أحادي لا يلقى قبولاً عربياً أو مشاركة فلسطينية، وقد أبقى وصف أطراف في إدارة ترامب للضم بوصفه "قراراً إسرائيلياً"، الباب مُشرعاً أمام الإدارة الأمريكية القادمة لتوظيفها إما كورقة تفاوضية أو لكسب المرونة لشرعنة الضم أو رفضه أو تجزئته، إذ يبقى وارداً البحث عن توافقات جزئية كالاعتراف الأمريكي بدايةً بالسيادة الإسرائيلية على المناطق "ج" التي تشكّل أكثر من 60% من الضفة الغربية، وتعترف بها اتفاقية أسلو ضمن السيادة الأمنية والسياسية لإسرائيل، ولا تُقوض في الوقت نفسه من السلطة الفلسطينية، وتُبقي حل الدولتين خياراً مُحتملاً.
في حين؛ تتعدد المقاربات الأمريكية تجاه لبنان، منها ما يتصل بالشأن اللبناني المحلي، وآخر يُعنى بالمقاربة الأمريكية تجاه إيران. فمن الناحية اللبنانية وبعد ما لحق بحزب الله من ضعف، فمن المُحتمل أن تسعى واشنطن لإخراج لبنان من مُعادلة الساحات، ومن "محور المقاومة" بمعزل عن بقاء حزب الله عسكرياً أو سياسياً، ذلك بالضغط للتفاوض على حل نهائي للساحة اللبنانية وليس فحسب لإطلاق النار، بما يشمله ذلك من إعادة التفاوض على الحدود البرية المختلف عليها، والتي يُمكن للإدارة الأمريكية الاعتراف بالسيادة فيها لإسرائيل، بشكل يماثل الاعتراف بسيادتها على الجولان المُحتل، إلا أن حسم هذه القضية بالتفاوض يُعبر عن مسار متنامي من الاعترافات المتبادلة بين الدولتين بعد أن اتفقتا على ترسيم الحدود البحرية عام 2022، ما قد يتوسع ويفتح الباب واسعاً أمام خطوات أخرى مستقبلية، من بينها توقيع اتفاق -عدم اعتداء- تمهيداً لتطبيع العلاقات بين الدولتين، وهي صيغة تزداد احتمالاتها كُلما اقتربت التيارات اللبنانية الأخرى من التموضع في الفراغات التي خلفها تراجع حزب الله.
من جهة أخرى؛ يُعتبر حزب الله جزءاً رئيساً من شبكة إيران الإقليمية، وجاءت مُشاركته في الحرب بعد هجمات أكتوبر التي نفذتها حركة حماس ضد المستوطنات والقواعد في غلاف غزة كجزء من انخراط مختلف أطراف "وحدة الساحات" في التصعيد لا سيما في اليمن والعراق، ومن إيران ذاتها التي نفذت هجمتين مباشرتين ضد إسرائيل جاءت الأولى في منتصف أبريل، والثانية مطلع أكتوبر. وذلك يعني بالنسبة للمحافظين سبباً إضافياً لإحكام الطوق على إيران، إما بإعادة النظر في تطوير حملة "الضغوط القصوى" بما يتناسب مع الحالة الإيرانية الراهنة، أو استغلال الوضع الجيوسياسي المُتراجع لطهران لانتزاع تنازلات استراتيجية منها، سواءً في سياستها الإقليمية أو برامجها العسكرية والنووية، بالإضافة إلى تكثيف الضغوط على وكلائها، خاصة بعدما بينت الحرب في لبنان امكانية إلحاق الأضرار بأصول السياسة الخارجية الإيرانية إذ أضعفت الضربات الإسرائيلية في سوريا ولبنان ضد القادة العسكريين الإيرانيين وقادة حزب الله، ومن ضمنهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله من قوة الحزب وحضوره، ويُرجح أن تُشدد واشنطن من إجراءاتها ضد وكلاء طهران الآخرين، كإعادة تصنيف الحوثيين في اليمن باعتبارهم "منظمة إرهابية أجنبية"، ما يُهدد داعميها والمُتعاونين معها بعقوبات أمريكية، ويحول دون الاعتراف بها كقوة محلية يمنية، وقد تشهد الفترة المُقبلة تكثيف العمل باتجاه ترسيخ التغيرات التي طالت موازين القوى في سوريا، خاصة بعد الفجوة التي أحدثتها الضربات الإسرائيلية في التموضع الإيراني الاستراتيجي في وقت كانت تسعى فيه طهران لملئ الفراغ الناشئ عن التراجع النسبي في الوجود العسكري الروسي في سوريا، ونجد أن الدول العربية تسعى منذ اللحظة لتوظيف تلك المتغيرات باتجاه ترسيخ الحلول المستدامة في سوريا سواء التنموية أو السياسية وفصل الساحة السورية عن النفوذ الإيراني، إذ أفادت وكالة "رويترز" بأن الولايات المتحدة والإمارات تنخرطان في مباحثات بهدف رفع العقوبات عن سوريا مقابل تحييدها عن المحور الإيراني، ومنع الجغرافيا السورية من كونها طريقاً لتزويد "حزب الله" اللبناني بالأسلحة الإيرانية.
في المقابل؛ اتجهت التنظيمات المُسلحة لاستغلال تلك المتغيرات بإطلاق عملية "ردع العدوان" للسيطرة على مساحة جغرافية شملت مدينة حلب ووصلت إلى حدود حماة حتى تاريخ 2 ديسمبر 2024، في عملية مُستمرة وقابلة للتطور، والتي عزت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أسبابها برفض الرئيس السوري بشار الأسد التسوية السياسية. وبذلك يبقى العراق الساحة الوحيدة في "محور المقاومة" التي ترتبط مع إيران والساحات الأخرى في سوريا ولبنان، لم يلحق بها أضرار تذكر أو تغيرات مُعينة، ما يرجح تكثيف الضغوط العسكرية والضربات الانتقامية ضد الفصائل المسلحة في العراق.
وأخيراً؛ تبدو تصورات إدارة ترامب الثانية تجاه القضايا الإقليمية أكثر تقيداً بالمستجدات التي شهدتها المنطقة في الفترة بين ولايتيه، لا سيما تجاه ملفات رئيسة مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتوسعة اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، في المُقابل؛ تمنح ساحات الحرب في قطاع غزة ولبنان إدارة ترامب مساحة لإحداث تغيرات في سياقاتهما، خاصة على المُستوى السياسي، وفي القضايا الحاسمة فيهما، من قبيل مستقبل العلاقات اللبنانية الإسرائيلية أو مستقبل الحُكم والإدارة في قطاع غزة، وذلك يعني قُدرة إدارة ترامب الثانية على حسم ما يتصل بملفات الحرب لكن دون حسم القضايا الأكثر استراتيجية خلفهما.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات