الولايات المتحدة بين مساعي التهدئة واحتمالات التصعيد في الشرق الأوسط

تحليل سياسات يناقش السياسة الأمريكية تجاه الحرب في قطاع غزة ومرتكزاتها، والموقف من ساحات التصعيد الثانوية، ويطرح فكرة جديدة حول بوادر استقلال تلك الساحات بأهدافها وغاياتها عن الساحة الرئيسية للحرب في قطاع غزة، ما يفرض على الولايات المتحدة تحديات جديدة في اتباع سياسات موحدة.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٨‏/٠١‏/٢٠٢٤

حددت الولايات المتحدة أولوياتها منذ اليوم الأول للحرب في قطاع غزة، بدعم إسرائيل عسكرياً ودبلوماسياً، ومنع تجاوز الحرب لجغرافيا غزة، وتصعيدها إقليمياً، وبحث قضية اليوم التالي بعد انتهاء الحرب من خلال توحيد الحُكم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد جاءت الحرب لتفرض تحديات أمام التحركات الأمريكية الرامية لترسيخ التهدئة في الشرق الأوسط، وفي فترة ابتعدت فيها واشنطن عن التدخلات العسكرية المباشرة في قضايا المنطقة وملفاتها، إلا أن الحرب أعادت الاتصال القوي للولايات المتحدة في المنطقة، ويرى معظم الخُبراء أن قرار وقف الحرب بيد واشنطن، وأن حشودها العسكرية وجولاتها الدبلوماسية هي الكابح الأول لمنع انزلاق الحرب نحو صراع إقليمي أوسع، وبذلك فإن مسارات السيطرة على الحرب واحتمالات التصعيد خلال عام 2024 مرهونة في ضوء المعطى الأمريكي ومتغيراته.

مرتكزات السياسة الأمريكية تجاه الحرب

شكلت الأزمة الأوكرانية المحدد الأهم في السياسات الخارجية الأمريكية خلال العام 2023، مع توجيه الدعم المالي والعسكري إلى كييف وانطلاق الهجوم المضاد ضد مناطق السيطرة الروسية شرقي أوكرانيا، حتى اندلعت الحرب في غزة في 7 أكتوبر، لتشكل انعطافة حادة في السياسات الأمريكية من القارة الأوروبية نحو الشرق الأوسط، وأصبح ميدان الحرب الرئيسي في قطاع غزة، وانعكاساته الفرعية في لبنان والعراق واليمن وسوريا، الحدث الأكثر حضوراً في السياسة الأمريكية، خاصة مع تأثيراته المحلية على الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل، وانعكس على شبكة المصالح السياسية والاقتصادية الأمريكية في المنطقة والعالم.

وقد تمحورت المواقف الأمريكية من الحرب في غزة بثلاثة ركائز استراتيجية، أولها رفض وقف إطلاق النار، حتى تحقيق إسرائيل أهدافها بالقضاء على حركة حماس، أو تقويض إدارتها ونفوذها في غزة، وقد قدمت واشنطن دعماً غير مشروط لإسرائيل لتحقيق تلك الأهداف. وثانيها رفض الإدارة الأمريكية التقارير والتصريحات الإسرائيلية بشأن تغيير خريطة قطاع غزة، من حيث اقتطاع أجزاء منها أو احتلالها أو إقامة منطقة عازلة، وكذلك تهجير أهلها، وبدلاً من ذلك قدمت رؤية لتحديث السلطة الفلسطينية، وتوحيد الحكم في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت إدارة تلك السلطة.

ثالثها؛ حرص الولايات المتحدة على منع توسع جغرافيا الحرب وامتدادها إلى الضفة الغربية ولبنان، ومنع انزلاق المنطقة نحو صراع إقليمي، فمن شأن التصعيد في الإقليم أن يُعرقل أي تسوية سياسية تحاول الولايات المتحدة تطبيقها لحل القضية الفلسطينية، وأن يعرض المكاسب السياسية وخطط التكامل الاقتصادية والتهدئة الإقليمية التي دعمتها الولايات المتحدة في المنطقة إلى الخطر. ولأن التصعيد الإقليمي حتى اللحظة لم يتم استبعاده وإنما تأجيله، فإن واشنطن تُبقي على وجود عسكري كبير لها في المنطقة حتى بعد إعلانها سحب حاملة الطائرات جيرالد فورد من شرق البحر الأبيض المتوسط مطلع العام الحالي، بعد أن ظلت على مقربة من الشواطئ المطلة على إسرائيل ولبنان، وتحرص على بقاء وفودها الدبلوماسية حاضرة في المنطقة عبر زيارات وزير الخارجية أنتوني بلينكن المستمرة لدول المنطقة.

مع ذلك؛ وبالنظر إلى طبيعة الحرب، والتكاليف الإنسانية الهائلة عنها، فإن الولايات المتحدة على ما يبدو، تدفع باتجاه تغيير خطط الجيش الإسرائيلي في الحرب واستثمار التفوق الاستخباراتي في تحقيق ضربات دقيقة ضد قادة الفصائل الفلسطينية، ومجمعات التصنيع العسكري التابعة لحركة حماس، وذلك بهدف تجنب الواقع الإنساني المرير، وتحقيق فوضى في الفصائل الفلسطينية تفقدها السيطرة على عناصرها المتواجدين في الميدان من جهة، والقدرة على إدارة قطاع غزة من جهة ثانية.

ويبدو أن اقتراب الانتخابات الأمريكية بات كمتغير في موقف واشنطن من الحرب، حيث شكلت زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى المنطقة في 8 يناير، إشارة لتأثيرات قرب موعد الانتخابات الأمريكية على موقفها من الحرب، إذ ركز بلينكن على الإنجازات والايجابيات، وتفادي تداعيات الحرب، عندما أعلن عن استعداد دول المنطقة للاستثمار في مستقبل غزة، وبحديثه عن إحياء التطبيع السعودي مع إسرائيل، وتبني خطاب إدماج إسرائيل في المنطقة، والتأكيد على موقف الولايات المتحدة الداعم لحل الدولتين. لكن بينما بدأت الإدارة الأمريكية بالعودة إلى خطاب ما قبل الحرب، إلا أن الجبهة الرئيسية والجبهات الثانوية، لا يُمكن التنبؤ بمساراتها، ولا تزال قابلة للتصعيد بشكل غير متوقع أو مسبوق.

الولايات-المتحدة-بين-مساعي-التهدئة-واحتمالات-التصعيد-في-الشرق-الأوسط-in2.jpg

مسارات السيطرة واحتمالات التصعيد

مع استمرار الحرب في غزة، فإن الولايات المتحدة تحافظ على مرتكزاتها الاستراتيجية الثلاث في الحرب، مع ذلك فإن تعدد ساحات الحرب بين ميدانها الرئيسي في قطاع غزة، وميادينها الفرعية في الضفة الغربية ولبنان واليمن والعراق وسوريا، يفرض على واشنطن صياغة سياساتها وهندسة ردودها وفق خصوصية كل ساحة من تلك الساحات، ولا يعني ذلك بالضرورة أن ضبط التصعيد في أي منها مضمون، ومن هذا المنطلق يمكن دراسة سياسية الولايات المتحدة في كل ساحة كما يلي:

أولاً: الساحة الرئيسية في قطاع غزة

تدرك الولايات المتحدة أن الحرب في قطاع غزة، هي حجر الزاوية والسبب الرئيسي في حالة التصعيد الإقليمي، وهي الساحة الأكثر تعقيداً بالنظر إلى الحملة العسكرية الإسرائيلية المتواصلة دون سقف زمني قريب لنهايتها، وثبات الفصائل الفلسطينية على وتيرة من النشاط العسكري في الميدان، ما يُشير إلى جهوزيتها المسبقة لمعركة طويلة الأمد.

وبينما تصر واشنطن على عدم وقف إطلاق النار، إلا أنها تضغط لتغيير طبيعة الحرب، والانتقال إلى مرحلة أقل حدة، وتأمل بعودة النازحين إلى مناطقهم وبزيادة المساعدات الإنسانية إلى أهالي غزة، فذلك يُحقق للإدارة الأمريكية مجموعة من المصالح منها تخفيف الضغوط الدولية والمحلية الرافضة للحرب، وتهدئ من التصعيد في الساحات الثانوية، والأهم أنه يُشجع الدول الفاعلة إقليمياً على الانخراط في نقاش اليوم التالي من الحرب. وتمنح في الوقت نفسه إسرائيل نطاقاً زمنياً لاستكمال أهدافها ولكن بهجمات أكثر دقة، وتبعات إنسانية أقل. إلا أن المسار الذي تريده الولايات المتحدة في غزة، يُدخلها في الحيثيات والتفاصيل الجزئية للحكومة الإسرائيلية واتجاهات أطرافها، ويُوسع من الفجوة بين الطرفين، وذلك يعني أنّ الحرب في غزة ستبقى في حالة تصعيد، حتى تعيد إسرائيل هندسة حكومتها بعيداً عن التيارات المتطرفة، بحيث تكون الحكومة أكثر انسجاماً مع رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لمستقبل المنطقة، وأكثر تقديراً لطبيعة وحدود العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب.

الولايات-المتحدة-بين-مساعي-التهدئة-واحتمالات-التصعيد-في-الشرق-الأوسط-in1.jpg

ثانياً: ساحة الضفة الغربية

تبدي الإدارة الأمريكية حرصاً أكبر على استمرار الهدوء في الضفة الغربية، وتظهر جدية في فرض رؤيتها حول تجديد السلطة الفلسطينية، لكنها تصطدم بمقاربات الحكومة الإسرائيلية والتي تستهدف بسياساتها إضعاف السلطة الفلسطينية ككيان سياسي وأمني، وفي الواقع منذ لحظة تشكيل الائتلاف الحكومي الحالي في أواخر ديسمبر 2022، تحفظت الإدارة الأمريكية على مكوناته ورفضت العديد من سياساته، وإلى جانب رفضها مخططات التهجير والاحتلال لقطاع غزة، فقد عارضت واشنطن ممارسات المستوطنين في الضفة الغربية، وترجمت معارضها بضغوط وعقوبات عندما أعلنت في يونيو 2023 عن إعادة الحظر على استخدام تمويل دافعي الضرائب الأمريكيين في أي مشاريع بحث وتطوير أو تعاون علمي تُجرى في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، والقدس الشرقية، ومرتفعات الجولان.

وذلك يعني أنّ الأحداث في الضفة الغربية ستبقى محافظة على تصعيدها الحذر، وقد تشهد انفراجات جزئية فيما يتعلق بالشأن المالي، حيث تصر واشنطن على تحويل أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية، وتدعو لتخفيف الإجراءات العسكرية على الحواجز وبعض مداخل المدن التي يسودها الهدوء.

ثالثاً: الساحة اللبنانية

تعد الساحة اللبنانية الأكثر قابلية للتصعيد، والأكثر خطورة بعد قطاع غزة، إذ تعتبر الساحة المُحددة لحالة الساحات الأخرى، فهي بوابة التهدئة والتصعيد الإقليمي، وقد حرصت الإدارة الأمريكية على ردع حزب الله عن تجاوز قواعد الاشتباك، والانجرار نحو اشتباك واسع منذ الأيام الأولى للحرب، فقد ظلت مجموعة حاملة (يو إس إس جيرالد آر فورد)، راسية في البحر الأبيض المتوسط لحماية إسرائيل حتى الإعلان عن عودتها في يناير 2024 إلى مينائها الأساسي في فرجينيا، وذلك يُشير أن واشنطن تبين لإيران وحلفائها عدم رغبتها بمزيد من التصعيد، وتعد دلالة على انخفاض المخاطر المرتبطة بالتصعيد الإقليمي عما كانت عليه خلال الأشهر الأولى من الحرب.

مع ذلك؛ فإن الساحة اللبنانية لا تزال مُرشحة لاشتباك أوسع، حيث تُكثف إسرائيل من استهداف قيادات الفصائل الفلسطينية والقادة الميدانيين في حزب الله، ففي 2 يناير 2024، اغتالت إسرائيل نائب رئيس المكتب السياسي لحماس صالح العاروري ومجموعة من قادة كتائب القسام في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي 8 يناير اغتالت إسرائيل وسام الطويل المسؤول في وحدة الرضوان التابعة لحزب الله، وفي 9 يناير أعلنت إسرائيل مقتل قائد منطقة جنوب لبنان في "الوحدة الجوية" لحزب الله علي حسين برجي، لكن الحزب نفى استهداف الأخير. وفي سوريا؛ قتلت إسرائيل القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي، وفي حادثة أخرى قُتل حسن عكاشة المسؤول في حماس عن إطلاق الصواريخ من الأراضي السورية، كما تتهم إيران إسرائيل بالوقوف وراء هجوم كرمان الذي وقع خلال مراسم إحياء ذكرى مقتل قاسم سليماني.

وتنظر الولايات المتحدة بقلق من تصريحات قادة إسرائيل تجاه التصعيد في لبنان، وإجراءاتها التي تستدعي رداً من حزب الله، وكشفت تقارير عن تحذير واشنطن للحكومة الإسرائيلية من أي تصعيد في لبنان، وأبدت تفضيلها للحلول الدبلوماسية لتهدئة التوتر على الحدود وإحداث اختراق جدي في المفاوضات الجارية حول تنفيذ القرار 1701، إذ تُدرك الإدارة الأمريكية أن تحول الاشتباك إلى حرب مماثلة للعام 2006، سيكون له تداعيات إنسانية واقتصادية وسياسية كبيرة على لبنان، وقد تُدخل البلاد في حالة انهيار، من جهة أخرى فإن الصراع الإقليمي مرتبط بحالة الجبهة اللبنانية. ولذلك نجد أن الإدارة الأمريكية تضغط لمنع تل أبيب من الانجرار نحو مغامرات عسكرية غير محسوبة.

رابعاً: الساحة اليمنية

تعتبر الساحة اليمنية ومنطقة باب المندب والبحر الأحمر، الأكثر جاهزية للتصعيد مُقارنة بغيرها من الساحات الثانوية، حيث يُوسع الحوثيون من هجماتهم بالرغم من تكرار الولايات المتحدة والغرب لتحذيرهم من مغبة مواصلة هجماتهم، وقد كشفت القيادة المركزية الأمريكية في 9 يناير، عن تصدي البحرية الأمريكية لهجوم معقد بـواسطة 18 طائرة مسيرة وصواريخ كروز المضادة للسفن وصاروخ باليستي مضاد للسفن في جنوب البحر الأحمر، حيث يُعد هذا الهجوم الـ 26 الذي تشنه الجماعة منذ 19 نوفمبر 2023، وفقاً للقيادة المركزية.

وعلى العكس من الساحات الأخرى؛ فإن التصعيد الحوثي، يرتبط بتبعات دولية تُهدد أحد طرق التجارة الحيوية ويعد مضيق باب المندب واحداً من أهم نقاط الخنق الاستراتيجي العالمية، ولذلك تسعى الولايات المتحدة لمواجهة التهديدات الحوثية من خلال اعتبارها تهديداً عالمياً، حيث أعلنت عن تشكيل تحالف من 20 دولة أطلق عليه "حارس الازدهار"، لحماية الممرات المائية في البحر الأحمر، وفي 3 يناير أصدرت 14 دولة بياناً يُحمّل الحوثيين عواقب تهديد الممرات المائية، وفي 10 يناير اعتمد مجلس الأمن الدولي قراراً أمريكياً يدعو الحوثيين إلى وقف هجماتهم على السفن في البحر الأحمر، وفي 18 يناير أعادت الولايات المتحدة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية.

وبعد يوم واحد من قرار مجلس الأمن، اختارت واشنطن ولندن في 11 يناير تنفيذ سلسلة من الضربات الدقيقة ضد أهداف حوثية في مدن يمنية يسيطر عليها الحوثيون من بينها العاصمة صنعاء والحديدية، وبينما فضلت كل من روسيا والصين الامتناع عن التصويت أو استخدام الفيتو، فقد تم تفسير ذلك بمثابة تفويض للولايات المتحدة بتنفيذ ضرباتها، والتي قدمتها واشنطن دفاعاً عن النفس، وبأنها استجابة لأزمة دولية، وسعت بعدم ربطها بالحرب في غزة، أو التصعيد الإقليمي، بهدف تجنب تكثيف الاشتباك.

لكن معالم تفاقم التصعيد حاضرة مع عدم إبداء الحوثيين النية بالتراجع عن هجماتهم، وإصرار الولايات المتحدة على تقويض قدرتهم في استهداف السفن، وحيث يستمر الحوثيين في استهداف السفن بالبحر الأحمر حتى بعد الضربات الأمريكية-البريطانية، والتي كان آخرها في 17 يناير، فإن الولايات المتحدة ردت بضربات جوية إضافية ضد الأصول العسكرية الحوثية، وبذلك فإن الولايات المتحدة تحاول تشديد ضغوطها العسكرية والسياسية على الحوثيين، والتي من المستبعد أن تأتي بأثر فوري، لكنها تحمل مخاطر الدفع ببيئة البحر الأحمر نحو الاضطراب.

الولايات-المتحدة-بين-مساعي-التهدئة-واحتمالات-التصعيد-في-الشرق-الأوسط-in3.jpg

خامساً: الساحتين العراقية والسورية

ترتبط الساحتين العراقية والسورية من حيث وحدة الجماعات المسلحة النشطة في مهاجمة القوات الأمريكية المتواجدة في الدولتين، وقد شهدت الساحتين منذ اندلاع الحرب في غزة عملية تصعيد مُتدرج، سرعان ما تطور إلى دورة من الضربة والضربة المقابلة، منذ أول هجوم معلن للقوات الأمريكية بطائرة (AC-130J) استهدفت منشأتين للجماعات المسلحة بالقرب من الأنبار وجرف الصخر في 22 نوفمبر 2023، وحتى مقتل القيادي في حركة النجباء وآمر اللواء 12 في الحشد الشعبي طالب السعيدي في غارة أمريكية استهدفت سيارته في بغداد.

وتُقدم الولايات المتحدة ضرباتها الانتقامية بأنها ضرورية "للدفاع عن النفس"، إلا أن الجماعات المسلحة في العراق ومن ورائها إيران، قد اتخذت من التصعيد الحالي هدفاً يتجاوز التضامن مع غزة، أو وقف إطلاق النار، نحو إخراج القوات الأمريكية من العراق، وقد ذكر الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله في 5 يناير أن "العراق أمام فرصة تاريخية للتخلص من القوات الأمريكية"، وقد أدى مقتل السعيدي في غارة أمريكية إلى إعلان الحكومة العراقية نيتها وضع جدول زمني لخروج القوات الأمريكية من العراق، حيث اعتبرت الضربة "تصعيداً خطيراً"، وتتعارض مع التفاهمات الرسمية بين العراق والتحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش.

ومن المحتمل أن تُكثف الجماعات المسلحة من هجماتها من أجل الضغط لمغادرة القوات الأمريكية، عبر خلق بيئة غير آمنة للجنود الأمريكيين، وهو ما يضع عراقيل أمام السياسة الأمريكية الأوسع في المنطقة وتجاه إيران، حيث تجنبت واشنطن منذ اندلاع الحرب مواجهة الجماعات المسلحة والنفوذ الإيراني على الأراضي العراقية وركزته في سوريا، إلا أن عملياتها الانتقامية وغاراتها الجوية وضعت العلاقة مع الحكومة العراقية في موضع اختبار ستظهر نتائجه في الساحات الدبلوماسية أكثر منها في الهجمات والردود العسكرية.

وأخيراً؛ تبدو التحولات في ساحات الحرب الثانوية، أكثر دراماتيكية واستقلالية عنها في ساحتها الرئيسية في قطاع غزة، حيث أنه ومع مرور الوقت تحررت أهداف الساحات الثانوية من التضامن مع غزة والمطالبة بوقف إطلاق النار، واتجهت نحو أهدافها المستقلة سواء بالهجمات الدفاعية أو الانتقامية أو الهجومية، وهذا يعقد قدرة الولايات المتحدة على السير بسياسات متوازنة ودقيقة في مختلف الساحات، ولذلك غالباً ما تتجه إلى إرسال رسائل تهدئة لإيران، التي لا تنفك تؤكد أن حلفائها يتبعون خطواتهم الخاصة دون صلة مركزية بإيران، وهو ما يتم تسويقه للمجتمع الدولي.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات