حرب غزة: حظر الأونروا وتحديات الحوكمة العالمية
يفرض حظر "الأونروا"، تحديات إنسانية على المستفيدين من خدماتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويعتبر تجاوزاً سياسياً وقانونياً بالنظر إلى تفويض الوكالة وتاريخها وأدوارها، ويُسلط الضوء على مسألة الحوكمة العالمية ومدى قدرتها على تحقيق الاستجابة المناسبة في عالم شديد التوتر خاصة على مستويات الإغاثة والمساعدات الإنسانية.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٢٠/١١/٢٠٢٤
وافق الكنيست الإسرائيلي في 28 أكتوبر 2024 بشكل نهائي على قانونٍ يحظر أنشطة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في الأراضي الخاضعة لسيطرتها، بتأييد الغالبية من أعضاء الكنيست (92 صوتاً مقابل 10)، بالإضافة إلى تبني قرار ثان ينص على حظر اتصال وتعامل المسؤولين الإسرائيليين مع الأونروا وموظفيها بتصويت (89 صوت مقابل 7)، على أن يدخل التشريعان إلى حيز التنفيذ خلال ثلاثة أشهر، وبما يُنهي من الاتفاق الموقع بين إسرائيل والأونروا منذ عام 1967 حول أنشطة الوكالة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويُهدد من قُدرة الوكالة على تقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين عملاً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1949. يأتي هذا القرار ضمن حملة إسرائيلية ضد الأونروا تصاعدت منذ بدايات الحرب الجارية، وقد يترتب عنه تداعيات سياسية وإنسانية وأمنية تسعى هذه الورقة للوقوف عليها.
الأونروا ودور الدولة الموازية في الأراضي الفلسطينية
تعمل الأونروا في خمس مناطق من بينها الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وفي الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان، وبالمجمل يعمل فيها أكثر من 30 ألف موظف، ويبلغ مجموع اللاجئين المسجلين فيها قُرابة 6 مليون لاجئ فلسطيني. وبشكل خاص تلعب الأونروا في الأراضي الفلسطينية دور "الدولة الموازية"، إذ أن دورها تجاه اللاجئين سابق حتى لتأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994، ولما تُقدمه من خدمات لأكثر من مليون ونصف لاجئ في قطاع غزة، وحوالي 900 ألف في الضفة الغربية، موزعين على أكثر تسعة عشر مخيماً في الضفة الغربية، وثمان مخيمات في قطاع غزة.
وتنشط الأونروا بشكل رئيس في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية وفي قطاعات الأمان الاجتماعي والإغاثة والتشغيل والبنية التحتية. فعلى مستوى الخدمات الصحية؛ تقدم الأونروا خدماتها عبر 65 مركز صحي في كل من الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، وبما نسبته 9% من مراكز الرعاية الصحية في الأراضي الفلسطينية. أما على مستوى الخدمات التعليمية؛ تخدم الوكالة حوالي 335 ألف طالب وطالبة، مسجلين في حوالي 280 مدرسة، بالإضافة لتوفيرها معاهد تعليم عال تمنح درجات تعليمية متوسطة وبكالوريوس وتدريب مهني. كما تمتلك الأونروا برنامجاً خاصاً بالأمان الاجتماعي يستفيد منه أكثر من 135 ألف لاجئ في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وتقدم خدمات نسوية في أكثر من 25 مركز متخصص، بالإضافة إلى برنامج القروض التمويلية الذي منح قروضاً بسيطة لأكثر من 250 ألف لاجئ بشكل تراكمي. فضلاً عن دور الوكالة باعتبارها إلى جانب الغوث تُعنى بالتشغيل، فهي توظف في الضفة الغربية وقطاع غزة حوالي 18 ألف موظف، منهم ما يقارب 13 ألف عامل في قطاع التعليم و1500 في قطاع الصحة.
وبذلك؛ يُهدد القرار الإسرائيلي حوالي 2.3 مليون لاجئ فلسطيني ممن يتلقون خدمات ومساعدات الأونروا، ومن شأن تنفيذ قرار إسرائيل أن يؤدي إلى حرمان هذه الفئات من هذه الخدمات الأساسية أو بالحدّ الأدنى عرقلة تلقي نسبة كبيرة منهم للخدمات، وبالتالي تدهور الوضع الإنساني وزيادة معاناتهم الإنسانية بشكل كبير، حيث يعيش عدد كبير من الفلسطينيين في ظل ظروف اقتصادية صعبة، ويعتمدون على هذه الخدمات بشكل أساس خاصة في قطاع غزة الذي يعاني أزمة إنسانية غير مسبوقة منذ 7 أكتوبر 2023، إذ تعتبر الأونروا الوكالة الأممية الرئيسة التي تنقل المساعدات إلى القطاع، وينزح في المنشآت والملاجئ التابعة لها حوالي مليون شخص من أهالي القطاع.
سياق التصعيد الإسرائيلي ضد الأونروا وخلفياته
أصبح قانون حظر أنشطة الأونروا في إسرائيل والقدس الشرقية واقعاً مع مُصادقة الكنيست عليه بالقراءتين الثانية والثالثة، إذ ينص على "ألا تقوم الأونروا بتشغيل أي مكتب تمثيلي، ولن تقدم أي خدمة، ولن تقوم بأي نشاط، بشكل مباشر أو غير مباشر في إسرائيل". كما صادق الكنيست في جلسة أخرى على قانون ثان يمنع على إسرائيل والكيانات والأشخاص ممن يتولون مناصب عامة من إقامة علاقات مع الأونروا، ويُلغي التسهيلات الضريبية والحصانة الدبلوماسية التي تتمتع بها الوكالة. وتأتي هذه القرارات بعد أن صادق الكنيست في 22 مايو بالقراءة الأولى على تلك القوانين، مع إلغاء تصنيف الوكالة منظمة "إرهابية".
في الواقع؛ سبق قانون حظر أنشطة الأونروا سلسلة من حلقات التصعيد في علاقة إسرائيل مع الوكالة في المراحل اللاحقة للحرب في قطاع غزة، إذ ادعى تقرير استخباراتي قدمته الحكومة الإسرائيلية في أواخر يناير 2024، بضلوع ما لا يقل عن 12 من موظفي الأونروا في هجمات أكتوبر، وبأن 10% من موظفي الوكالة البالغ عددهم 12000 موظفاً في قطاع غزة، لهم صلّة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، ما أدى إلى تعليق الولايات المتحدة ودول غربية من بينها (المملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا، وإيطاليا، وفرنسا، واليابان، وألمانيا، وهولندا، وفنلندا، ونيوزيلندا، وسويسرا، والنمسا، ورومانيا، والسويد، وأستونيا) تمويلها للوكالة، قبل أن تستأنف ذلك التمويل لعدم تقديم إسرائيل دلائل على ادعاءاتها، باستثناء الولايات المتحدة التي جمدت مساهمتها حتى مارس 2025 على الأقل. وقد سبق تلك الادعاءات تقرير نشرته صحيفة (تايمز أوف إسرائيل) ونقلته القناة 12 الإسرائيلية في ديسمبر 2023، كشف عن مخطط لوزارة الخارجية الإسرائيلية لإنهاء عمل الأونروا عبر ثلاث مراحل؛ تنص الأولى على تجريم الأونروا عبر تقارير شاملة تربطها بالإرهاب باتهام تعاونها مع حركة حماس، وترتبط الثانية بتقليص خدماتها من خلال البحث عن منظمات دولية بديلة عنها، وتتعلق الثالثة بنقل مهمات الأونروا للإدارة أو الهيئة التي ستتولى القطاع بعد انتهاء الحرب، وفي فبراير 2024؛ جمد بنك "لئومي" الإسرائيلي حساب الأونروا، وذلك بزعم الاشتباه بتحويل أموال إلى حركة حماس.
علاوة على ذلك؛ طالت التُهم الإسرائيلية المنشآت التابعة للوكالة، إذ تدعي إسرائيل تسهيل الأونروا لحركة حماس بحفر الأنفاق تحت المدارس التابعة لها، وعن استخدامها تلك المرافق لتخزين الأسلحة أو غرف قيادة وسيطرة، وتُشير الأونروا إلى أن إسرائيل استهدفت حوالي 70% من المدارس التابعة لها في قطاع غزة منذ بداية الحرب وحتى يوليو 2024.
القرار الإسرائيلي والموقف من القانون الدولي
أثار القرار الإسرائيلي موجة دولية وإقليمية من الإدانات، سواء من الدول أو المنظمات والمؤسسات الأممية، إذ سبق أن حذر مجلس الأمن في 10 و 30 أكتوبر 2024 من محاولات تفكيك أو تقليل "عمليات وكالة الأونروا وتقويضها"، باعتبارها مقياساً لامتثال إسرائيل بالتزاماتها الدولية. عملياً؛ تُنهي القرارات الاتفاق الموقع منذ عام 1967 بين إسرائيل والأونروا، حول أنشطة الوكالة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتقطع العلاقات الرسمية بينهما، ويترتب عنها إلغاء امتيازات موظفي الوكالة الدولية والحصانة التي يتمتعون بها داخل إسرائيل، من بينها الإعفاء من الملاحقة القضائية والضرائب، وقد أخطرت إسرائيل الأمم المتحدة رسمياً بقرارها في 4 نوفمبر 2024.
من الناحية القانونية؛ يعتبر القرار انتهاكاً للقانون الدولي، وذلك ما أكد عليه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي دعا إسرائيل إلى "التصرف بما يتفق مع التزاماتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي" وأنه "لا يمكن للتشريعات الوطنية أن تغير هذه الالتزامات"، وفي 31 أكتوبر 2024، اعتمدت جامعة الدول العربية قراراً قدمه الأردن يعتبر القرارات الإسرائيلية "غير شرعية" وانتهاكاً للقانون ولالتزامات إسرائيل بوصفها القوة القائمة بالاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيما أعلنت النرويج في 29 أكتوبر بأنها ستتقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة بمشروع قرار تطلب فيه رأي محكمة العدل الدولية في الإجابة عن سؤال هو: "هل تنتهك إسرائيل القانون الدولي عندما تمنع الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية والدول من تقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين تحت الاحتلال؟". وفي الواقع؛ يُعتبر القرار الإسرائيلي من الناحية القانونية جدلياً، لاعتقاد مخالفته الإجراءات المؤقتة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في يناير 2024، وفي مارس 2024 بشأن تسهيل إسرائيل توفير المساعدات الإنسانية والإغاثية الأساسية لقطاع غزّة، وكذلك لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2730 الصادر في مايو 2024 الملزم لإسرائيل باحترام وحماية المؤسسات الأممية والعاملين فيها، ولاتفاقية عام 1946 بشأن امتيازات وحصانات الأمم المتحدة التي تعد الأونروا إحدى مؤسساتها؛ لاستقلالية أعضائها وموظفيها للقيام بمهامهم المنوطة، وهو ما أكّد عليه الأمين العام للأمم المتحدة في حال تم تنفيذ القانون الإسرائيلي.
فيما يترتب على إسرائيل عواقب قانونية إذا ما حاولت تطبيق ذلك القانون في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، إذ لا سيادة قانونية إسرائيلية في الأراضي التي تعتبرها الأمم المتحدة والتي صنفها القانون الدولي بأنها أراضي محتلة من قبل إسرائيل، كما أن القانون الدولي يُلزم القوى المُحتلة بالموافقة على البرامج الإغاثية وتسهيل حصول مستحقيها عليها بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة. بل إن الفتوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية في 19 يوليو 2024، أشارت إلى عدم قانونية الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، ووجوب إنهائها لذلك الوجود بأسرع وقت ممكن.
مدى نفاذ القرار الإسرائيلي في الضفة وغزة
يُمكن لإسرائيل بحكم الأمر الواقع؛ التأثير على آليات عمل ونشاط الأونروا في الأراضي الفلسطينية، وذلك من خلال:
أولاً: إصدار أوامر عسكرية على غرار الأوامر العسكرية المُطبقة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 والتي يزيد عددها عن 1700 أمر عسكري، وذلك وفق الأمر العسكري رقم 2 لسنة 1967، والذي نص على إلغاء أية قوانين سارية المفعول في المناطق المحتلة في حال تعارضها مع الأوامر الصادرة عن إدارة الاحتلال.
ثانياً: لا تحظى السلطة الفلسطينية بصفة الدولة ذات السيادة في الجانب السياسي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ أن مجال سيطرتها القانوني (النظري) في الضفة الغربية حسب اتفاقيات أوسلو محدود. إذ تمارس سلطتها المدنية والعسكرية على المناطق المصنفة (أ) والتي تشكل 11% من مساحة الضفة، في حين تقتصر سلطتها على الجوانب المدنية في المنطقة المصنفة (ب)، مع سيادة إسرائيل القانونية والعسكرية عليها، فيما المناطق المصنفة (ج) والتي تبلغ حوالي 61% من مساحة الضفة الغربية، فإن السيادية القانونية والمدنية والعسكرية فيها كاملة لإسرائيل. في حين أن لا وجود للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة، وترفض إسرائيل ذلك الوجود في اليوم التالي من الحرب.
ثالثاً: إن المصادقة على قانون حظر اتصال وتعامل المؤسسات والمسؤولين الإسرائيليين مع ممثلي وموظفي الأونروا والغاء امتيازات موظفيها، يعني أنّ إسرائيل لن تصدر تصاريح عمل وتأشيرات دخول لموظفيها، ووقف تنسيق الجيش الإسرائيلي مع الوكالة، مما يعني تقييد أنشطة الوكالة ووقف إدخال مساعداتها لقطاع غزة تحديداً بحكم سيطرتها على كافة منافذ ومعابر القطاع، أما في الضفة الغربية فإن وقف التنسيق بين الحكومة الإسرائيلية والأونروا يعني التأثير سلباً في العمليات التشغيلية للوكالة، وتقويض قدراتها على تشغيل مكاتبها في كافة مناطق عملياتها نتيجة اعتمادها على التنسيق مع الحكومة أو السلطات الإسرائيلية، وذلك يعرقل وصول احتياجات الأونروا إلى الأراضي الفلسطينية، والتي تصل أولاً عبر الموانئ الإسرائيلية قبل ذهابها إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
رابعاً: التضييق على عمل الأونروا حيث لم تعد إسرائيل مُجبرة بتسهيل عملها أو حماية مقراتها أو ضمان حرية تنقل موظفيها، ولم يعد طاقمها يحظى بالحصانة الدبلوماسية. وفي خطوة استباقية أعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي في 10 أكتوبر 2024 عن وجود أمر بمصادرة الأراضي المقام عليها مركز رئاسة عمليات الأونروا في الضفة الغربية والواقع في القدس الشرقية وتخصيصها لبناء وحدات استيطانية.
حظر الأونروا واليوم التالي للحرب
إن حظر الأونروا لا يحدث فجوة في دورها الأساس بتأمين الحماية والرعاية للاجئين الفلسطينيين المسجلين بها في مختلف نطاقات وأماكن تواجدها فحسب، بل يتعداه بالذهاب نحو تداعيات مُباشرة وغير مباشرة، وفرض ترتيبات عاجلة وأخرى آجلة.
فمن جهة؛ قد يؤدي التضييق على دور الأونروا في الضفة الغربية تحديداً، إلى مفاقمة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المفروضة على السلطة الفلسطينية، تبعاً لمسؤوليتها في ملئ الفراغ الناشئ حال توقفت الأونروا عن تقديم خدماتها، خاصة دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما قد يُرسخ من حالة الهشاشة لدى السلطة خاصة مع عدم قدرتها على مواجهة التحديات المضافة عليها جراء الحرب في قطاع غزة، والإجراءات الإسرائيلية ضدها، لا سيما احتجازها مليارات الدولارات من أموال المقاصة، في وقت الذي تحتاج فيه إلى ميزانية إضافية لتغطية الخدمات الصحية والتعليمية والمظلة الاجتماعية التي تشغلها الأونروا أو الاستعداد لذلك الاحتمال على الأقل، والتعامل مع الآلاف من موظفي الوكالة المُهددة وظائفهم بتوقف عمل الأونروا أو خوفاً من المُطاردة الإسرائيلية أو أي إجراءات أخرى مثل حرمانهم من السفر أو الدخول إلى إسرائيل باعتبار أن ما ينطبق على الوكالة يطال موظفيها.
من جهة أخرى؛ يرتبط حظر الأونروا بالرؤية الإسرائيلية لليوم التالي من الحرب في قطاع غزة، إذ تسعى إسرائيل للسيطرة على عمليات توزيع المساعدات في القطاع، وقد انخرطت الحكومة الإسرائيلية في نقاشات مع شركة Global Delivery Company (GDC)، لإيصال المساعدات وتوزيعها في مناطق شمال قطاع غزة، وقد سبق ذلك مناقشات مع شركات أمنية أمريكية في مايو 2024 لإدارة معبر رفح. إذ تهدف إسرائيل من وراء ذلك لتطبيق خطوات عملية تحقيقاً لرؤيتها لليوم التالي من الحرب، وفق ما جاء في "وثيقة اليوم التالي ما بعد حركة حماس-مبادئ-" التي صادق عليها المجلس الوزراء المصغر في 22 فبراير، والتي تتطرق إلى حل الأونروا واستبدال دورها الخدماتي بوكالات وجهات أخرى، وتطال كذلك أدوارها في المجال التعليمي، حيث تتهم إسرائيل مناهجها بالحث على التطرف والكراهية، في حين تنص الوثيقة على برامج تثقيفية لجميع المؤسسات الدينية والتعليمية والاجتماعية لمنع التطرف.
الأكثر خطورة، يرتبط بتداعيات الحظر على المدى البعيد وفي التبعات غير المباشرة، خاصة في توجهات الحكومة الإسرائيلية لحسم الصراع بدلاً من إدارته، وتجد في لحظة الحرب هذه الفرصة لها للمضي بمخططاتها من حيث:
أولاً: ما يتصل عملياً بالإجراءات الإسرائيلية الساعية لحسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية، إذ وبحظر الأونروا يتكامل المشهد الذي تُخطط إسرائيل لرسمه، بتحويل تدريجي لنظام الحكم والسيادة في الضفة الغربية كما يتضح من إعلان هيئة البث الإسرائيلية في 11 نوفمبر 2024 أن نتنياهو سيطرح فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية فور تسلم ترامب الرئاسة، وتصريح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بالإعداد إلى ذلك. وعليه سبق ذلك عدة إجراءات تصعيدية من قبل الحكومة الإسرائيلية الرامية إلى تقويض حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، إذ شهدت فترة الحرب أكبر عمليات مصادرة الأراضي في غور الأردن منذ اتفاقية أوسلو عام 1991، وكذلك نقل الجيش الإسرائيلي لعدد من صلاحياته القانونية في الضفة الغربية إلى الإدارة المدنية التي يرأسها وزير المالية، وتم للمرة الأولى في مايو تعيين مدني في منصب نائب رئيس الإدارة المدنية، وفي يونيو منح الجيش للحكومة سلطات هدم منازل الفلسطينيين، وكذلك تتضح معالم الرؤية الإسرائيلية في تصويت الكنيست بأغلبية كبيرة على رفض الاعتراف أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية في 22 فبراير، والتصويت على مشروع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية في 17 يوليو، ورفضها توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت إدارة السلطة الفلسطينية.
وثانياً: يُعبر القرار عن إنكار إسرائيلي للمسؤولية السياسية والقانونية التي أسست عليها الوكالة، تبعاً للقرار (302) الناتج عن قرار (194) الدولي الذي ينص في الفقرة (11) بشكل واضح على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر". وهناك مخاوف جدية على دور الوكالة الأممية في الأراضي الفلسطينية ودور الجوار مستقبلاً، خاصة مع فوز دونالد ترامب بفترة رئاسية ثانية، إذ سبق أن جمد تمويل الولايات المتحدة للأونروا في أغسطس 2018، قبل أنّ يعاد استئنافه مع وصول بايدن للرئاسة عام 2021. وحينذاك رحبت إسرائيل بقرار إدارة ترامب باتهام الأونروا "بإطالة أمد النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني" من خلال إدامة مبدأ "حق العودة" للاجئين، وهو ما انسجم مع الأسباب الثلاثة التي قدمتها إدارة ترامب لذلك، والتي تمثلت في أن استمرار عمل الأونروا يسهم في استمرار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من خلال "حق العودة" الذي يعطل عملية السلام، ثم بسبب مبالغة الوكالة في تحديد أعداد اللاجئين باستمرار تسجيلها لأبناء وأحفاد الجيل الذي عايش النكبة عام 1948، وأخيراً لأن الإدارة ترى أنّ عمل الوكالة المالي يعاني من "عطب لا يمكن إصلاحه".
حظر الأونروا وجوانب الحوكمة العالمية
يعكس القرار الإسرائيلي، الضعف الحاصل في مؤسسات الحوكمة العالمية، وفي تراجع قدرتها على إدارة الأزمات الإنسانية والصراعات ومتابعة تنفيذ القرارات الدولية، لا سيما ما يتعلق منها بحماية حقوق الإنسان، وهذا ما ينطبق على عمل "الأونروا" التي تقدم خدماتها بموجب تفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبذلك يُمثل القرار الإسرائيلي تحدياً لمنظومة الحوكمة العالمية، وضربة للاتجاه العالمي الداعي لإصلاح الحوكمة وليس تفاديها أو البحث عن أدوات مغايرة. ففيما يتعلق بالأونروا، كان يُمكن دعمها وتمكينها في إنجاز إصلاحات داخلية ومؤسسية إن ثبت أنها تعاني من إشكالية معينة في منشآتها أو خلفية بعض العاملين فيها، من خلال تكثيف عمليات المراقبة والمتابعة في هذه الجوانب، بما ينعكس إيجاباً على مختلف مؤسسات الحوكمة العالمية الأخرى، باعتبارها نموذجاً لإصلاح غيرها من المؤسسات الأخرى. كما يُمثل ذلك فُرصة للعمل متعدد الأطراف على مُستوى الدول المستضيفة للأونروا والدول الداعمة والممولة لها. لكن القرار الإسرائيلي بحظرها بدواعي حاجتها إلى الإصلاح، ينعكس سلباً على مساعي الدول في إصلاح غيرها من المؤسسات الأممية، ويُعرقل في الوقت نفسه تلك المؤسسات من القيام بوظائفها ومهامها خاصة على المُستوى الإنساني، إذ يُظهر قدرة الدول على الانسحاب من الاتفاقيات الأممية وسهولة وضع فرض قيود على عمل موظفيها وسلبهم امتيازاتهم وحصانتهم الدبلوماسية، وفي ظل تعدد مناطق الصراع حول العالم، وفاعلية تلك المؤسسات في تقديم خدماتها الإنسانية والإغاثية، فذلك يعتبر مؤشراً بالغ الخطورة يُمكن الدول أو الفاعلين الآخرين استخدامه لأغراض الضغط على خصومهم السياسيين، خاصة مع عدم توفر بديل متفق عليه أو قادر على العمل بالصيغة ذاتها.
وفي الواقع؛ يعتبر القرار الإسرائيلي بحظر الأونروا، المثال الأحدث الذي يُوضح انعكاس الصراعات والمصالح والتنافسات الجيوسياسية على المؤسسات الأممية، إذ يُسعى خلف حسابات إسرائيلية وبغطاء من الحلفاء الفاعلين لا سيما الولايات المتحدة، لتحويل القضية الفلسطينية من مسألة أممية إلى قضية مُحاصرة بتصورات الحكومة اليمينية الإسرائيلية، وفي حين يتطلب من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي حث إسرائيل على توسيع الأفق تجاه العلاقة مع الأونروا، فإن التغيرات التي جاءت بها الانتخابات الأمريكية بعودة دونالد ترامب رئيساً منتخباً، تجعل من تداعيات حظر الوكالة ومن ثُم الحوكمة العالمية برمتها أكثر قتامة، بحكم أنّ مواقف الرئيس الأمريكي الجديد من الأمم المتحدة ووكالاتها، خاصة الأونروا، سلبية في الغالب، ومن المتوقع بعد عودته للبيت الأبيض دعم قرارات إسرائيل بشأن حظر الأونروا، بل والسعي لحلها واستبدالها بوكالات دولية أخرى ليست ذات ثقل قانوني وسياسي وخدماتي.
وأخيراً؛ يأتي القرار الإسرائيلي بحظر الأونروا بوصفه جزءً لا يتجزأ من إجراءات الحكومة الإسرائيلية، في فرض تصوراتها فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومحاولة لحسم ذلك الصراع بدلاً من تسويته، وقد أعقب ذلك القرار تصريحات مسؤولين إسرائيليين بالتوجه نحو "فرض السيادة الإسرائيلية" على الضفة الغربية، وهي المسألة التي عادت إلى دائرة الاهتمام الإسرائيلي مع فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية، مع توقعاتهم أن يفسح ذلك الفوز المجال واسعاً للحكومة الإسرائيلية فرض سيطرتها على الضفة الغربية.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات