عملية "الجدار الحديدي" وسياسات التأزيم الدائم

تأتي عملية "الجدار الحديدي" الإسرائيلية في شمال الضفة الغربية في ضوء العديد من التطورات المحلية والإقليمية والدولية، إذ جاءت بعد يومين من دخول وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ، وتطرح العملية في هذا التوقيت تساؤلات عدة من بينها إمكانية توسع نطاقاتها، وبما يشمل مختلف مناطق الضفة الغربية، لا سيما بعد وصفها من قبل المسؤولين الإسرائيليين بأنها تندرج ضمن تغيير مفهوم الأمن في الضفة الغربية.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ٠٩‏/٠٢‏/٢٠٢٥

بدأ الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال الضفة الغربية، انطلاقاً من مدينة جنين ومخيمها، وأطلق عليها اسم "الجدار الحديدي" في 21 يناير 2025، يُشارك فيها قوات كبيرة من الجيش والشاباك وحرس الحدود، بما يشمل أربع وحدات من لواء "كفير" ووحدة من الكوماندوز، مدعومة بغطاء جوي من المروحيات والطائرات المسيّرة، وأسفرت العملية حتى السادس من فبراير عن مقتل 44 فلسطينياً وإصابة واعتقال العشرات في مناطق جنين وطوباس وطولكرم، ونزوح آلاف الأسر من مخيمي جنين وطولكرم، وهدم عشرات المنازل والمنشآت، بالإضافة الى مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين في مخيم جنين وحاجز تياسير في الأغوار الشمالية، وقد جاءت العملية بناءً على قرار من المستوى السياسي عقب اجتماع الكابينت في 17 يناير. وفي الواقع؛ تطرح العملية في هذا التوقيت تساؤلات عدة من بينها إمكانية توسع نطاقها لمختلف مناطق الضفة الغربية، لا سيما أن وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش وصف العملية بأنها "تندرج ضمن تغيير مفهوم الأمن في الضفة الغربية".

توقيت العملية في السياق الإسرائيلي

تأتي العملية الإسرائيلية في ضوء العديد من التطورات المحلية والإقليمية والدولية، إذ جاءت بعد يومين من دخول وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، والذي أدى إلى تفاقم الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية، إذ رفضته أطراف اليمين المُتطرف، وقاد وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ووزراء حزبه إلى الاستقالة من الحكومة في 19 يناير، فيما فضل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش البقاء في الحكومة بعدما أكد حصوله على التزام "بتغيير طريقة الحرب".

مع ذلك؛ قادت استقالة بن غفير، إلى تعزيز نفوذ سموتريتش وحزبه في الحكومة، لا سيما وأن انسحاب حزب "القوة اليهودية" غير كاف لإسقاط الحكومة، طالما لم تترافق بانسحاب "الحزب الصهيوني الديني" الذي يتزعمه سموتريتش. وبالنسبة إلى الأخير؛ فإن سياساته ترتكز بشكل أساس على الضفة الغربية مُقارنة بقطاع غزة، إذ يتولى منصب المسؤول عن الإدارة المدنية بدرجة وزير في وزارة الدفاع، وبذلك ترتبط العملية العسكرية في شمال الضفة بتوجهات الحكومة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، وكانت هيئة البث الإسرائيلية قد ذكرت في منصف يناير أن نتنياهو عرض على سموتريتش وبن غفير، بناء المستوطنات في الضفة الغربية وتوسيعها، مقابل قبول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.

كما تأتي العملية في ضوء خطاب إسرائيلي متصاعد تجاه الضفة الغربية، لا سيما من قبل وزير المالية سموتريتش، إذ توعد في نوفمبر 2024 أن يكون 2025 عام "ضم الضفة الغربية"، وكشف في ديسمبر 2024 عن سلسلة من الإجراءات القاضية بضم 60% من الضفة إلى السيادة الإسرائيلية، من بينها فرض السيادة على المستوطنات أولاً، قبل إكمالها على بقية مناطق الضفة، وكذلك إغلاق وحدة "الإدارة المدنية" للاحتلال في الضفة.

الواقع الميداني المعقد في الضفة الغربية

حافظت الضفة الغربية منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، على حالة من "التصعيد المنضبط"، مُقارنة بوتيرة التصعيد التي شهدتها الساحات الثانوية الأخرى، وبالرغم من المُحاولات المتكررة من قبل حركتي حماس والجهاد الإسلامي لتصعيد حدة الاشتباكات فيها، إضافة إلى مساعي إيران وحزب الله دعم المجموعات المسلحة عسكرياً باعتبار الضفة ساحة نشاط "استراتيجية" في مُواجهة إسرائيل. وبقيت الاقتحامات والاشتباكات فيها دون المُستوى الذي يستدعي تحولها إلى "جبهة حرب" رئيسة، على غرار التحولات اللاحقة في الجبهة اللبنانية.

مع ذلك؛ تُعاني الضفة الغربية من واقع شديد التعقيد والتشابك والهشاشة الأمنية، إذ تأتي العملية الحالية عقب حملة أمنية تنفذها السلطة الفلسطينية في 5 ديسمبر 2024 في مخيم جنين تحت مسمى "حماية وطن" واستمرت 47 يوما، ووصفتها السلطة بأنها جزء من الجهود "لاستعادة النظام والقانون" في المخيم بعد أن شهد تصاعدًا في نشاط المجموعات المسلحة، خاصة "كتيبة جنين" التابعة لحركة الجهاد الإسلامي. كما تُعتبر عملية "الجدار الحديدي" استكمالاً لسلسلة من العمليات العسكرية الإسرائيلية السابقة، من بينها عملية "مخيمات الصيف" في أغسطس 2024، والتي استهدفت مناطق واسعة من شمال الضفة الغربية، وقد سبقها عملية "البيت والحديقة" في يوليو 2023، وعملية "كاسر الأمواج" ضد المجموعات المسلحة في الضفة الغربية عام 2022.

هل-تتوسع-عملية-الجدار-الحديدي-لما-بعد-جنين-in-(3).jpg

لكن بالنظر إلى سياق العملية الحالية وتوقيتها؛ فإن هُناك ما يدفع للاعتقاد بأنها مُختلفة عن سابقاتها، حيث تأتي بعد انتهاء الحرب في لبنان في 27 نوفمبر 2024، وبعد أيام من سريان اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وبدء عملية تبادل المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة، بعدد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وأخيراً؛ تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي يُكرر بعض مسؤولي إدارته دعمهم لضم الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، وقد تضمنت أولى قراراته التنفيذية، رفع الحظر على المستوطنين المتهمين بارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان.

وتلك الظروف تضع العملية الحالية أمام تقاطع للأهداف قصيرة ومُتوسطة المدى؛ فمن جهة هُناك تخوف إسرائيلي من أن تؤدي عملية إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين إلى تحفيز العمليات الفردية والأعمال المُسلحة لا سيما أن العدد الأكبر من الأسرى المقرر الإفراج عنهم هم من مناطق الضفة الغربية. ومن جهة أخرى؛ تتزامن العملية مع تصاعد الخطاب الإسرائيلي تجاه ضم المناطق المصنفة (ج) في الضفة الغربية، ومن المُحتمل أن العملية تهدف لردع أي عوامل قد تؤدي إلى انفجار الأوضاع في الضفة الغربية.

ما بعد "الجدار الحديدي"؟

يتضمن الخطاب الإسرائيلي مؤشرات ودلالات تُشير أن العملية العسكرية الجارية قد لا تقتصر على مناطق محددة في شمال الضفة، ومن المحتمل امتدادها إلى مختلف مناطق الضفة الغربية، إذ ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن هدف العملية "استئصال الإرهاب في المنطقة بأكملها"، وبأنها "واسعة ومُهمة"، وأعلن وزير الدفاع يسرائيل كاتس أن العملية "ستستمر لشهور"، ويُقابل ذلك الخطاب بإجراءات ميدانية تُعزز صحة اتساع وعمق العملية، من بينها:

أولاً: أن الجيش الإسرائيلي أطلق تسمية للعملية، وفي ذلك إشارة أن ما يحدث يتعدى مسألة الاقتحامات أو الغارات المُتكررة، وبأن هناك أهداف عسكرية يسعى الجيش لتحقيقها، على غرار ما حدث في قطاع غزة حيث أطلق على الحرب اسم "السيوف الحديدية"، وحملت العملية العسكرية في لبنان اسم "سهام الشمال"، ومن المحتمل أن إسرائيل تُخطط لتغيير الواقع الميداني في الضفة الغربية على غرار تجربتها في لبنان وقطاع غزة، والحد من عمليات التسلل إلى المستوطنات وداخل المدن الإسرائيلية وذلك ما يوحي به الاسم الذي أُطلق عليها.

ثانياُ: ترافقت العملية مع إجراءات ميدانية غير مسبوقة، من بينها إحكام الإغلاق لمختلف بلدات ومدن الضفة الغربية، ومضاعفة عدد البوابات الحديدية والسواتر الترابية على مداخل تلك البلدات والمدن، واستحداث حواجز ونقاط تفتيش جديدة على امتداد الضفة، وتُشير بيانات "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان" أن عدد الحواجز والبوابات التي نصبها الجيش في الضفة وصل إلى 898 حاجزاً عسكريا بالمجمل.

هل-تتوسع-عملية-الجدار-الحديدي-لما-بعد-جنين-in-(1).jpg

ثالثاً: يتبع الجيش الإسرائيلي استراتيجيات عسكرية مُختلفة عن تلك التي اتبعها خلال عملياته السابقة في جنين والضفة الغربية، وقد ذكر وزير الدفاع يسرائيل كاتس أن الجيش يُطبّق الدروس المستفادة من العمليات في قطاع غزة، وكشفت وكالة الأونروا أن إسرائيل تستخدم أسلحة مُتطورة في عمليتها في جنين.

وتشير عمليات فصل الضفة وتقسيمها إلى أن العملية العسكرية تتجه لتكون أكثر تركيزاً مقارنة بعملية "مخيمات الصيف" التي انطلقت في ثلاث مناطق رئيسية وهي طولكرم وجنين وطوباس، وذلك من خلال تكثيف وتركيز العمليات في حيز جغرافي محدد يتمثل في جنين وطوباس وطولكرم حالياً، قبل انتقالها وتوسعها إلى حيز آخر؛ وبشكل مماثل على ما يبدو لتكتيكات الجيش الإسرائيلي برياً في قطاع غزة.

رابعاً: تشهد مختلف مناطق الضفة الغربية حملات اعتقال واسعة وكثيفة، مع تنفيذ عمليات تحقيق ميدانية، وللمرة الأولى يستخدم الجيش الإسرائيلي اللباس الأبيض للمعتقلين في جنين ومخيمها، بشكل مماثل للذي استخدمه في قطاع غزة، في إشارة على ما يبدو للتصنيف ذاته للمعتقلين، وانتقال الحرب من قطاع غزة إلى الضفة الغربية.

خامساً: تزايد عدد الهجمات التي ينفذها المستوطنون ضد الفلسطينيين، وبحسب صحيفة "هآريتس"، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ترصد ارتفاعاً في هجمات المستوطنين بعد اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، كالهجمات على قريتي الفندق وجينصافوط شرق قلقيلية في الضفة، والتي أعقبها اقتحام أكثر من خمسين مستوطن للقريتين وإضرام النار في المباني والمركبات في 20 يناير 2025، ويربط البعض ما بين تزايد عنف المستوطنين وقرار وزير الدفاع الإسرائيلي إلغاء أوامر الاعتقال الإداري الصادرة بحق مستوطنين نفذوا اعتداءات في الضفة الغربية المحتلة في 17 يناير، باعتباره "ضوء أخضر" للمستوطنين.

وأخيراً؛ سواءً توقفت العملية العسكرية الحالية في حدودها الحالية أو توسعت لما بعد ذلك؛ فمن غير المُحتمل أن تُشكل حسماً أمنياً في الضفة الغربية، أو تغييراً للوقائع الميدانية هُناك، بقدر ما تبدو العملية كجزء من سياسات "التأزيم الدائم" للأوضاع الميدانية من جانب حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، باعتبار ذلك التأزيم ثمناً لبقاء تلك الحكومة، وضماناً لعدم انهيارها، ولا يبدو أن إسرائيل في وضع يسمح لها بالدخول في جبهة جديدة شاملة كما حدث قطاع غزة، لا سيما في ضوء حاجة المجتمع والاقتصاد والجيش فيها إلى التعافي من الحرب في القطاع.

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات