كيف يمكن قراءة عملية "مخيمات الصيف" شمال الضفة الغربية؟
تعتبر الأهداف الإسرائيلية السياسية والأمنية، من العملية العسكرية في شمال الضفة الغربية وغور الأردن عديدة ومركبة وترتبط في توقيتها بمجريات المواجهة على الجبهات الأخرى، خاصة جبهتي قطاع غزة ولبنان، كما أن خطورة تطور الاوضاع في الضفة الغربية لا ترتبط بمجريات الساحة الفلسطينية فحسب، وإنما تؤثر على الداخل الأردني.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٢٩/٠٨/٢٠٢٤
بدأ الجيش الإسرائيلي صباح الثامن والعشرين من أغسطس 2024 عملية عسكرية واسعة في شمال الضفة الغربية وغور الأردن، أطلق عليها اسم "مخيمات الصيف"، ووصفها بأنها الأوسع منذ عملية "السور الواقي" في العام 2002، وتركزت بشكل رئيس في مناطق طولكرم وجنين وطوباس، بمشاركة مئات الجنود من الجيش وأجهزة المخابرات والقوات الخاصة، وبدعم من سلاح الجو، ومن المتوقع أن تستمر العملية لعدة أيام. وتأتي هذه العملية العسكرية بعد مجموعة من التصريحات، لرئيس الحكومة الإسرائيلية ووزراء الدفاع والمالية والأمن القومي في إسرائيل والتي تعتبر الضفة الغربية جبهة رئيسة من جبهات المواجهة السبعة، وتحديداً في مناطقها المتاخمة للخط الأخضر ومخيماتها، بالإضافة إلى أنّ العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية متواصلة من قبل أحداث السابع من أكتوبر 2023، وزادت وتيرتها بعد تلك الأحداث، كما أنها مرتبطة بتطور قدرات المجموعات الفلسطينية المسلحة في شمال الضفة الغربية، سواءً من خلال اشتباكاتها مع القوات الإسرائيلية، أو وسائل تصديها للاقتحامات والعمليات الإسرائيلية، أو في طرق تنفيذها لعمليات إطلاق النار ضد المستوطنين، أو محاولاتها إطلاق صواريخ تجاه الأراضي الإسرائيلية.
أهداف العملية وتوقيتها
إن الأهداف الإسرائيلية من العملية العسكرية عديدة ومركّبة (سياسية وأمنية وعسكرية)، وترتبط في توقيتها بمجريات المواجهة على الجبهات الأخرى، خاصة جبهتي قطاع غزة ولبنان، حيث تأتي العملية في ظل تراجع حدة العمليات العسكرية البرية الإسرائيلية في قطاع غزة من جانب، وبعد أيام من جولة المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله اللبناني في 25 أغسطس، والتي وجه خلالها الجيش الإسرائيلي ضربة استباقية أحبطت هجوم حزب الله المخطط له، والتعقيدات المُحيطة بحسابات إيران وسائر أطراف "محور المقاومة" نتيجة للتفوق المعلوماتي الإسرائيلي والوجود العسكري الأمريكي، وبشكل دفع المحور لإعادة ترتيب أولوياته.
أما من حيث الأهداف، فيمكن التوقف عند أهمها في التالي:
أولاً: السعي الإسرائيلي لإبراز الدور الإيراني وتضخيمه في دعم المجموعات الميدانية المسلحة الفلسطينية، وهو هدف يخدم سياسات إسرائيل المتعلقة بمواجهة "التهديد الإيراني" وساحات "محور المقاومة" على أمنها وأمن المنطقة، وفي هذا السياق جاء اغتيال إسرائيل للعميد خليل المقدح في لبنان في 21 أغسطس 2024، وهو قيادي في كتائب شهداء الأقصى المحسوبة على حركة فتح، وتتهمه إسرائيل بالمسؤولية عن تهريب أسلحة إيرانية الى المجموعات المسلحة في الضفة الغربية، وثُم إعلانها اغتيال القيادي في وحدة عمليات "الجهاد الإسلامي"، فراس قاسم في 28 أغسطس، في غارة على طريق دمشق-بيروت، حيث تتهمه إسرائيل بتجنيد فلسطينيين لتنفيذ عمليات مسلحة ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية، بالإضافة إلى إعلانات إسرائيل المتكررة عن إحباطها لعمليات تهريب أسلحة من لبنان إلى الضفة الغربية.
ثانياً: محاولة تقويض النشاط المتصاعد للمجموعات الميدانية المسلحة الناشطة في مناطق شمال الضفة الغربية، خاصة في ضوء بروز علاقات التعاون والتنسيق المشترك بين تلك الجماعات، ومشاركة "كتائب شهداء الأقصى" المحسوبة على حركة فتح مع تلك الجماعات إلى جانب كتائب القسام وسرايا القدس التابعتين لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، حيث يشكل هذا المستوى من التعاون والتنسيق والتسليح المشترك ظاهرة غير مسبوقة بالنسبة لإسرائيل، خاصة بعد الإعلان المشترك لحركتي حماس والجهاد الإسلامي عن تبنّي عملية التفجير في تل أبيب في 18 أغسطس، والتي أدت إلى مقتل منفذها وإصابة إسرائيلي.
ثالثاً: محاولة إظهار ضعف السلطة الفلسطينية أو عجزها عن السيطرة الأمنية على مناطق شمال الضفة الغربية، وذلك يخدم سرديات اليمين المتطرف الإسرائيلي الذي يتبنى رواية معارضة للسلطة ودورها، لا سيما من قبل وزراء "الصهيونية الدينية" في الحكومة الإسرائيلية، والذي يوظفون أدواتهم لتقويض قدرة السلطة عن ممارسة مهامها، إذ تحتجز إسرائيل نحو 1.5 مليار دولار، من أموال المقاصة حتى منتصف يونيو 2024، وتُشرعن مزيداً من البؤر الاستيطانية، وتخطط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة، وجزء من هذه الضغوط تأتي استجابة لمطالب المستوطنين وجمهور اليمين المتطرف لأسباب حزبية وانتخابية.
رابعاً: الضغط على حركة حماس والفصائل المسلحة الأخرى العاملة في ساحتي قطاع غزة والضفة الغربية لا سيما "الجهاد الإسلامي"، وذلك بهدف منع الفصائل من تصعيد المواجهة في الضفة الغربية للتخفيف عن الضغوط العسكرية عليها في قطاع غزة، أو التفكير بما أبعد من ذلك بتنفيذ عمليات خطف أو استهداف قد ترفع من أوراقها التفاوضية في محادثات وقف إطلاق النار الجارية في الدوحة والقاهرة أو أي مفاوضات قادمة.
توقعات الخطوة التالية
تزامنت العملية العسكرية الإسرائيلية في شمال الضفة الغربية مع تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس التي قال فيها إنّ "ما يجري في الضفة الغربية حرب بكل معنى الكلمة، وعلينا الانتصار فيها، وعلينا التعامل مع الضفة الغربية كما نتعامل مع غزة، بما في ذلك الإخلاء المؤقت للسكان"، وخطورة تصريحات كاتس تتمثل في صدورها عن المستوى السياسي الرسمي، وبما تحمله من مؤشرات حول طبيعة العملية وأبعادها، من حيث مشاركة 4 كتائب من حرس الحدود ووحدات من المستعربين إلى جانب وحدات خاصة وجهاز الشاباك، واستنفار آلاف الجنود من وحدات القوات الخاصة وفقاً للقناة 14 الإسرائيلية، والدفع بسلاح الجو من مروحيات ومقاتلات ومسيرات للمشاركة بها، وهو ما يعني أن العملية يُحتمل أن تتوسع في نطاقها وتمتد في مدتها، وقد يترتب عنها تداعيات إنسانية وسياسية، من بينها تجديد مخاوف أهالي الضفة من مخططات لتهجيرهم داخلياً تمهيداً لإقامة "مناطق عازلة" وفارغة من السكان في المناطق القريبة من الخط الأخضر والمستوطنات اليهودية داخل الضفة، كخطوة استكمال للجدار العازل الذي بدأت إسرائيل ببنائه في العام 2002. خاصة أن الجيش الإسرائيلي يُكرر ممارساته بالضفة كما في قطاع غزة، من قبيل إخطاره أهالي مخيم نور شمس بإخلاء من يريد منهم الخروج بشكل طوعي، وقطع خدمات المياه عن بعض مناطقه، وإلحاق دمار واسع بالبنى التحتية من شوارع وخطوط مياه وكهرباء. وتزداد مخاطر العملية العسكرية عند قراءتها بشكل أوسع بوصفها جزءاً من مقاربة اليمين المتطرف الساعية لضم الضفة الغربية وحسم الصراع.
لكن تلك التداعيات ليست مرتبطة بسياسات الحكومة الإسرائيلية وأهدافها السياسية والأمنية والعسكرية فقط، حيث أنّ احتمالات تطور مسار الأحداث بشكل عكسي، سواء من حيث تطور أداء المجموعات الميدانية المسلحة الفلسطينية وقدرتها على تكييف أساليب المواجهة، أو التمدد إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية، بالإضافة إلى مخاطر انعكاس توسع العملية العسكرية على مواقف الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي حافظت على اقتصار مهامها في حفظ الأمن سواء خلال الحرب في قطاع غزة، وفي جولات التصعيد السابقة في الضفة الغربية، إلا أن ذلك مُهدد إذا ما تفاقمت أو ساءت الأوضاع عما عليه اليوم، فقد سبق أن أقدم أحد عناصر الشرطة الفلسطينية على تنفيذ عملية فردية بإطلاق نار في 29 فبراير 2024 ضد أهداف إسرائيلية، ومن المحتمل أن يتوسع هذا السلوك أو يأخذ منحاً جماعياً، ناهيك عن احتمالات تطور ردود الأفعال الشعبية الفلسطينية وبشكل قد يُطلق انتفاضة ثالثة أو على شكل اشتباكات ما بين الفلسطينيين والمستوطنين. وعليه تدرك القوات الإسرائيلية أنها ستشتبك في واحدة من أخطر البيئات المعقدة في العالم؛ الأمر الذي يعني أنها تتوقع خسائر ليست بالقليلة.
التداعيات على الأردن
حذّر الأردن عند اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023 من تداعياتها على مجمل الشؤون الإقليمية بشكل عام، والضفة الغربية بشكل خاص، وأوضح معارضته من استغلال إسرائيل هجمات الفصائل الفلسطينية على مناطق وقواعد غلاف غزة، في فرض وقائع جديدة على قطاع غزة والضفة الغربية، وإدخال القضية الفلسطينية والمنطقة في منعطف يُلبي تطلعات اليمين المتطرف الإسرائيلي، ويتغاضى عن القرارات الأممية ذات الصلة؛ لا سيما ما يرتبط منها بمحاولات تغيير الوضع القائم في القدس والمقدسات، إذ أقدم وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير على اقتحام المسجد الأقصى خمس مرات منذ توليه منصبه أواخر 2022، كان آخرها في 18 يوليو 2024، كما أنه صرح طالب في 26 أغسطس بأنه ينوي بناء كنيس في المسجد الأقصى أو "جبل الهيكل" وفقاً له. بالإضافة إلى سلوك المستوطنين وعنفهم ضد الفلسطينيين، خاصة بعد توزيع السلاح عليهم من قبل بن غفير الذي صرح في 4 أغسطس أنه منح المستوطنين أكثر من 150 ألف رخصة سلاح، إلى جانب تسريع عمليات شرعنة المستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء وحدات استيطانية جديدة وفرض القانون الإسرائيلي على المناطق المصنفة (ب) في الضفة الغربية والتي تتبع إدارياً للسلطة الفلسطينية.
وفي الواقع، منذ أكتوبر يرى الأردن أن الحرب في قطاع غزة، والإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية، تأتي في سياق خطة أوسع تقضي بتصفية القضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي له انعكاسات مُباشرة على الأمن القومي الأردني، وتأثير على استقراره الأمني والاجتماعي. ولذلك تم تصعيد الخطاب الرسمي تجاه إسرائيل على مختلف المستويات، كما قرأ الأردن مبكراً نوايا إسرائيل بالتصعيد في الضفة، ومن المحتمل أن يكون ذلك سبباً في إرساله مستشفى ميداني إلى مدينة نابلس في الضفة الغربية في نوفمبر 2023.
وبالرغم من أن العملية العسكرية الإسرائيلية الجارية في الضفة الغربية ليست الأولى من نوعها، وقد لا تكون الأخيرة، إلا أنها تأتي في وقت تزداد فيه عوامل الانفجار في الضفة، مع الحرب في قطاع غزة وتداعياتها الإنسانية غير المسبوقة، وبوجود حكومة إسرائيلية تُخطط لتصفية القضية الفلسطينية، وفي ظل حالة احتقان أوساط المواطنين الفلسطينيين جراء العنف المتزايد للجيش الإسرائيلي والمستوطنين.
ومن هذا المنطلق حذر جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين في لقائه مع أعضاء من الكونغرس الأمريكي في عمان في 28 أغسطس، من "خطورة تطورات الأوضاع في الضفة الغربية"، والتي لا ترتبط فحسب بمجريات الساحة الفلسطينية، وإنما تؤثر على الداخل الأردني، خاصة في ضوء التصريحات الإسرائيلية التي تُشابه ما يجري في الضفة الغربية بقطاع غزة، ودعوة وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس لإخلاء قسري في الضفة، وسواء كانت تلك التصريحات عوامل ضغط أو خطط موضوعة فإنها تضيف عوامل توترات جديدة بالنسبة للأردن على حدوده الغربية، بالإضافة لحدوده الشمالية والشرقية مع سوريا والعراق.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات