تعقيدات اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة

يتألف اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين حركة حماس وإسرائيل من ثلاث مراحل أساسية، من شأنها أن تُنهي الحرب المُستمرة منذ 7 أكتوبر 2023، عبر التدرج بوقف النار من المؤقت إلى المستدام خلال مراحل الاتفاق، ويأتي هذا الاتفاق في ضوء مجموعة من المُتغيرات الرئيسية الإقليمية والدولية، والتي قادت إلى نضوجه ودفع الأطراف بالموافقة عليه.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ٢٠‏/٠١‏/٢٠٢٥

دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، في خُطوة محورية لإنهاء الحرب التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023، بعد أن هاجمت حركة حماس قواعد ومستوطنات غُلاف غزة، وفي اختراق حققه الوسطاء (قطر ومصر والولايات المتحدة) بعد تعثر عشرات المُحاولات السابقة للتوصل إلى اتفاق بين الطرفين. وفي الواقع؛ يأتي الاتفاق بالتزامن مع تحولات وتغيرات إقليمية ودولية، لكنه يترافق أيضاً مع تعقيدات في تنفيذ بنوده وصعوبات ميدانية تضع وقف إطلاق النار المستدام وسط العديد من التحديات.

المشهد الإقليمي والدولي المرافق للاتفاق

جاء اتفاق الطرفان على وقف إطلاق النار، بعد شهور قضياها في التفاوض، وتحديداً في الفترة اللاحقة لوقف إطلاق النار المؤقت (الهدنة الإنسانية) في 22 نوفمبر 2023، إذ تعثر "اتفاق الإطار" الذي صاغه الوسطاء (مصر وقطر والولايات المتحدة) إلى جانب إسرائيل، في فرنسا في 28 يناير 2024، وفي مطلع مايو 2024 وصلت المفاوضات إلى مرحلة مُتقدمة، إذ وافقت حركة حماس على مُقترح لوقف إطلاق النار في 6 مايو 2024، قبل أن يتعثر نتيجة رفض إسرائيل له، وتحركها لإطلاق عملية برية في رفح، والسيطرة على معبرها في 7 مايو 2024، لكن ذلك لم يمنع الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن، من طرح خطة أشبه بـ "رؤية مرحلية للاستقرار في الشرق الأوسط" في 31 مايو 2024، تتضمن إنهاء الحرب في قطاع غزة، إلا أن شروط التفاوض لدى الطرفين والتفاصيل حالت دون نفاذها. وخلال تلك الفترة شهدت المفاوضات بين الجانبين جموداً حتى أعاد "البيان الثلاثي" للوسطاء إحياءها في 15 أغسطس 2024، دون توفر فُرص حقيقية لنجاحها حينذاك.

قراءة-في-اتفاق-وقف-إطلاق-النار-في-قطاع-غزة_-in-1.jpg

مع ذلك؛ يأتي الاتفاق الأخير على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، في سياق مجموعة من التحولات الإقليمية والدولية البارزة، التي ساهمت في تهيئة الظروف لنضوجه من جانب، ودفع الأطراف للموافقة عليه من جانب آخر. فمن جهة سبق الاتفاق بأقل من شهرين اتفاق على الجبهة اللبنانية في 27 نوفمبر 2024، أدى إلى خروج "حزب الله اللبناني" من المُشاركة في "وحدة الساحات"، بعد أن تكبد الحزب خسائر في بُنيته العسكرية وهيكله القيادي، انعكست بشكل سلبي على فعالية ما أطلقت عليه أطراف وحدة الساحات بـ"جبهات الاسناد"، وأبقت الحوثيين بشكل مُنفرد لا سيما بعد تراجع الهجمات من الفصائل المسلحة العراقية، وتزايد المخاطر المحيطة بإيران خاصة بعد الضربات الجوية الإسرائيلية في 26 أكتوبر 2024، ضد مواقع منشآت للصواريخ البالستية في إطار ردها على الهجمات الإيرانية الصاروخية مطلع أكتوبر. وفي السياق ذاته؛ شهدت سوريا التي كانت طرفاً في "محور المقاومة" وتلعب دوراً محورياً ولوجستياً في "وحدة الساحات"، تحولات دراماتيكية، بعدما تحركت عدة منظمات مُسلحة أطلقت على نفسها "إدارة العمليات العسكرية" من إدلب نحو جنوب وشرق سوريا، ضمن ما أطلقت عليه عملية "ردع العدوان"، والتي انتهت  بسيطرتها على العاصمة دمشق، وإنشائها إدارة انتقالية، وبشكل أدى إلى خروج سوريا مما يُعرف بـ"محور المُقاومة".

من جهة أخرى؛ يبدو أن التحولات في الولايات المتحدة لعبت دوراً رئيساً في التوجه نحو وقف إطلاق النار، وتحديداً في  فوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية مطلع نوفمبر 2023، إذ تعهد أثناء حملته الانتخابية بوقف الحرب في قطاع غزة والتصعيد الأوسع في المنطقة، وسبق أن هدد بـ"جحيم في الشرق الأوسط" إذا لم تطلق حماس سراح المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة قبل موعد تنصيبه في 20 يناير 2025، وأرسل مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، في 10 يناير لممارسة ضغوط من أجل التوصل لوقف إطلاق النار، وكشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن ترامب وجه عبر ويتكوف، رسالة جادة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن ضرورة اتخاذ قرار حول وقف إطلاق النار. وبالفعل جاء إعلان سريان وقف إطلاق النار قبل يوم واحد من تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب.

تعقيدات تنفيذ الاتفاق بين مراحله الثلاث

يتألف اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة من ثلاث مراحل أساسية، من شأنها أن تُنهي الحرب المُستمرة منذ 7 أكتوبر 2023، عبر التدرج بوقف النار من المؤقت إلى المستدام خلال مراحل الاتفاق، ففي المرحلة الأولى؛ التي تستمر لـ 42 يوماً، يوقف الطرفان إطلاق النار بشكل مؤقت، تنسحب خلالها القوات الإسرائيلية من المناطق السكنية، في المُقابل تطلق حركة حماس 33 محتجزاً إسرائيلياً من النساء (المجندات والمدنيات) والأطفال وكبار السن والمرضى، وتُفرج إسرائيل عن عدد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وفق أربع مُعادلات كالآتي:

1- يطلق سراح 110 محكوم فلسطيني بالمؤبد، مقابل 9 محتجزين إسرائيليين من المرضى والجرحى من قائمة الـ 33.

2- تطلق إسرائيل ألف معتقل من قطاع غزة من الذين اعتقلوا بعد السابع من أكتوبر، ممن لم يشاركوا في الهجمات.

3- سيتم الإفراج 3 من المحكومين بالمؤبد و27 من المحكومين بأحكام أخرى عن كل محتجز إسرائيلي من فئة كبار السن (فوق الـ 50 من الرجال).

4- سيتم الإفراج عن 30 أسير فلسطيني بالإضافة إلى 47 من الذين أعيد اعتقالهم بعد إطلاق سراحهم في صفقة شاليط عام 2011، مُقابل إطلاق حماس سراح أسيران لديها قبل السابع من أكتوبر وهما إفرا منغستو وهشام السيد.

إلى جانب ذلك؛ تُسهل دخول إسرائيل المساعدات الإنسانية إلى أهالي القطاع. وأثناء المرحلة الأولى سوف تستكمل حركة حماس وإسرائيل المفاوضات بشأن تفاصيل المرحلتين الثانية والثالثة.

أما المرحلة الثانية؛ والتي تُشكل وقفاً دائماً لإطلاق النار وفقاً لمقترح الاتفاق، فخلالها تُطلق حركة حماس كافة المحتجزين الإسرائيليين الأحياء لديها، مُقابل إفراج إسرائيل عن أسرى فلسطينيين من بينهم محكومين بالسجن لمدد تزيد عن 15 عاماً. وسوف تشهد هذه المرحلة انسحاباً كاملاً للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة. فيما تتضمن المرحلة الثالثة؛ إعادة الإعمار وتسليم حركة حماس رفات المحتجزين الإسرائيليين لديها الذين فقدوا حياتهم خلال الحرب.

قراءة-في-اتفاق-وقف-إطلاق-النار-في-قطاع-غزة_-in-2.jpg

وفي الواقع؛ تشكّل موافقة الطرفين تطوراً لمسار الحرب بعد شهور من تعثر المفاوضات، مع ذلك؛ وبالرغم من عدم تقديم الوسطاء مزيداً من التفاصيل بشأن المرحلتين الثانية والثالثة من ذلك الاتفاق، إلا أن الفروقات بين ثوابت الطرفين في التفاوض تبدو ظاهرة بعد الموافقة وسريان الاتفاق، فمن جهة ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل تتعامل مع وقف إطلاق النار على أنه "مؤقت"، وبأنها تحتفظ "بحقها في مواصلة القتال"، وفي المٌقابل؛ لطالما رفضت حركة حماس أي اتفاق مع إسرائيل لا يؤدي إلى وقف كامل ومستدام للحرب، وانسحاب القوات الإسرائيلية من مختلف مناطق قطاع غزة.

ومن جهة أخرى؛ هناك اختلاف لدى الطرفين في تفاصيل المرحلتين الثانية والثالثة؛ والتي لا تزال قيد التفاوض، حيث يستمر  المسؤولون الإسرائيليون بتأكيد رفضهم عودة حركة حماس لإدارة القطاع، لما يعنيه ذلك من تقويض للأهداف التي وضعتها إسرائيل للحرب، وباعتباره لا يُحقق حسماً استراتيجياً على غرار الاتفاق المُوقع لوقف الحرب في لبنان، والذي أبعد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وتضمن تنفيذاً عملياً لسحب سلاحه من المناطق الجنوبية والحدودية، وقد ذكر وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر عُقب الإعلان عن الاتفاق في 17 يناير 2025، أن إسرائيل "لن تقبل أن تحكم حركة حماس قطاع غزة بعد نهاية الحرب"، وذلك يطرح تساؤلات بشأن استمرارية الاتفاق والمراحل الممكن تنفيذها، وهل تبقى حركة حماس جزءاً من المرحلة الثالثة التي تتضمن ملفات مستقبلية مثل إعادة الإعمار؟ فذلك يعني أن الحركة مُستمرة في الحكم أو مشاركة به على عكس ما تدعيه الحكومة الإسرائيلية.

في المقابل، يتمايز الوضع اللبناني عن واقع المشهد في غزة، حيث يؤدي توزيع إطلاق سراح المحتجزين بين المرحلتين الأولى والثانية إلى دفع إسرائيل لمواصلة التفاوض المرحلة الثانية، التي تتضمن إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين. ويزداد هذا التحدي تعقيداً مع رفض الشارع الإسرائيلي لصفقة لا تضمن عودة كافة المحتجزين من القطاع.

علاوة على ذلك؛ يبدو أن سير الاتفاق لن يكون سلساً للغاية، لا سيما خلال المرحلة الأولى منه، إذ رفضت إسرائيل في اليوم الأول لسريانه الامتثال له قبل تسليم حركة حماس قائمة بالمحتجزين الذين ستطلق سراحهم، فقد تم تأجيل وقت تنفيذ الاتفاق من الساعة 8:30 صباحاً بالتوقيت المحلي في غزّة (6:30 بتوقيت غرينتش) حتى الساعة 11:15 صباحاً (15: 9 بتوقيت غرينتش)، فيما أشارت حركة حماس إلى أن التأخير في تسليم القوائم يعود لأسباب فنية وميدانية، وفي واقع ميداني مُعقد يُعاني منه القطاع، فمن المحتمل أن تشهد مختلف مجريات الاتفاق على الأرض ظروفاً صعبة وعمليات تأخير ومفاجآت قد تؤدي إلى تداعيات تهدد الاتفاق وتعرقل تنفيذه، خاصة وأن الرهائن المُتفق على إطلاق سراحهم خلال المرحلة الأولى من الاتفاق ليسوا جميعاً لدى حركة حماس، وهناك عدد منهم لدى الفصائل المسلحة الأخرى كحركة "الجهاد الإسلامي"، وبالرغم من أن ذلك لم يشكل عقبة خلال الهدنة في نوفمبر 2023، إلا أنه قد يعتبر كذلك حالياً.

المشهد الفلسطيني ما بعد الحرب

إن مستقبل المشهد الفلسطيني ما بعد الحرب مرتبط بشكل أساس بنتائج المفاوضات على المرحلتين الثانية والثالثة، وتحديداً بأدوار الفاعلين في ترتيبات إدارة قطاع غزة ما بعد الحرب، فمن شأن بقاء حركة حماس كجزء رئيس من إدارة القطاع ضمن توافقات إقليمية ودولية، أن يزيد من الفجوة في العلاقة مع السلطة الفلسطينية التي لم تُخف رغبتها في إدارة القطاع بعد الحرب، وإن كان ذلك ضمن صيغة تُشاركية مع حركة حماس. ومن جهة أخرى؛ فإن تكليف السلطة بإدارة القطاع بشكل رئيس وبمشاركة ثانوية من حركة حماس، من شأنه أن يقلل الهوة بين الطرفين، ويُعيد توحيد الأراضي الفلسطينية تحت قيادة السلطة، خاصة أن هناك دعوات وتوجهات لإدخال إصلاحات على هيكل السلطة الفلسطينية وقيادتها. وبذلك؛ فمن مصلحة السلطة الفلسطينية انتهاء الحرب بترتيبات سياسية تضمن عودتها لإدارة قطاع غزة، ومن المتحمل أن تنشط دبلوماسياً وسياسياً أثناء التفاوض على المرحلة الثانية لضمان ألا تبقى لاعباً هامشياً في ملف قطاع غزة، ولمنع حماس من الهيمنة على القطاع من جديد.

مع ذلك؛ يُواجه المشهد الفلسطيني تحدٍّ رئيس يتمثل في محاولات إسرائيل فرض جغرافيا جديدة وقيادة مقسمة للأراضي الفلسطينية، لا سيما في ضوء رؤية اليمين المُتطرف التي تسعى لإضعاف السلطة الفلسطينية وتهميش دورها بهدف السيطرة على الضفة الغربية، وقد استغلت الحكومة الإسرائيلية الحرب في قطاع غزة لفرض مزيد من التحديات على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وترفض أن يتوسع دورها ليشمل إدارة قطاع غزة، بالرغم من محاولات إدارة الرئيس جو بايدن تقديمها كبديل عن إدارة حركة حماس. إلا أن دور السلطة قد يُصبح أكثر وضوحاً في المستقبل كما يتضح في تصريحات المسؤولين العرب والدوليين، حيث يُعتبر بقاء السلطة ركيزة ومصلحة لمختلف الأطراف لكن مع ضرورة أن يكون ذلك الدور لسلطة جديدة ومتجددة، قادرة على إجراء إصلاحات سياسية ومالية وإدارة وأمنية، وهذا محل تساؤل.

قراءة-في-اتفاق-وقف-إطلاق-النار-في-قطاع-غزة_-in-3.jpg

بخلاف ذلك؛ قد يُواجه المشهد الفلسطيني تحديات خطيرة، من بينها توجه إسرائيل لضم المناطق المُصنفة (ج) التي تضم سمتوطنات إسرائيلية لسيادتها، وهي مُقايضة يُحتمل أن يقدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحكومة عوضاً عن استمرار الحرب في قطاع غزة، وكذلك يُحتمل أن يُقدمها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى أطراف اليمين الصهيوني المتطرف بهدف حثهم على عدم الاستقالة، وتحديداً وزير المالية بتسلئيل سموتريش الذي يبدو أن عدم تجاوبه مع دعوات وزير الأمن إيتمار بن غفير للاستقالة ناتج عن تطلعاته لتحقيق أهدافه في الضفة. فضلاً عن المشهد في قطاع غزة؛ والذي لا يُواجه فحسب مخاطر عودة الحرب، بل أيضاً بقاء المجتمع دون مُقومات للحياة ولا خدمات صحية وتعليمية وخدمية، خاصة إذا ما تعثرت الاتفاقية في مراحلها الثانية أو الثالثة.

وأخيراً؛ يبدو السياق المحيط باليوم الأول من وقف إطلاق النار معقداً ومركباً، وحيث لا يختلف الإطار العام للاتفاق عما سبقه، وبقاء الخوض في التفاصيل للمراحل المتقدمة، فإن احتمالات أن يُواجه التنفيذ تحديات جدية تُهدد سريانه يبقى أمراً محتملاً، مع الأخذ بعين الاعتبار حاجة أطراف الحرب ومختلف الفاعلين لوقفها بغض النظر عن التكاليف المترتبة على ذلك، من أجل النظر في ملفات لا تقل أهمية عن الحرب في قطاع غزة، وهي بالنسبة لإسرائيل تتمثل بإيران، وبالنسبة إلى ترامب تتمثل في الصين.

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات