استئناف الحرب في غزة: معادلة جديدة للمخاطر والأهداف

يأتي استئناف إسرائيل للعمليات العسكرية في قطاع غزة بعد تعثّر المفاوضات وبما يعكس أهدافًا استراتيجية تتجاوز الرد على الجمود التفاوضي، نحو إعادة رسم الأهداف وإعادة تشكيل البنية الجغرافية والديموغرافية للقطاع من خلال سياسات التهجير والاحتلال وفرض الحكم العسكري.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٠‏/٠٤‏/٢٠٢٥

استأنف الجيش الإسرائيلي القتال في قطاع غزة في 17 مارس 2025، بعد أن كان طرفاها قد توصلا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في 19 يناير 2025، وتبادلا خلالها عدد من الأسرى والمحتجزين ضمن المرحلة الأولى التي شهدت مفاوضات مُتعثرة كان يُفترض أن تنقل الاتفاق إلى المرحلة الثانية. مع ذلك جاءت عودة الحرب في ضوء مُتغيرات وأسباب أخرى، لا تقتصر على المسائل الفنية والتفاوضية، في مُقدمتها انتقال خطاب التهجير من حيز التصورات إلى الخطوات والإجراءات العملية، ووسط واقع معقد تشهده جبهات الحرب في لبنان واليمن والعراق وإيران، وفي ظل توافق أمريكي إسرائيلي حول الأهداف والخطوات.

المشهد الإسرائيلي المرافق لعودة الحرب

جاء إعلان إسرائيل استئناف الحرب في قطاع غزة، بالتزامن مع جُملة من التغيرات التي شهدها المُستويان العسكري والسياسي، وفي ضوء قيادة جديدة للجيش الإسرائيلي بعد دخول استقالة رئيس هيئة الأركان السابق هرتسي هاليفي حيز التنفيذ في 21 يناير 2025، وتعيين إيال زمير خلفاً له في 1 فبراير 2025. في ثاني تغيير عالي المُستوى تشهده المؤسسة العسكرية في فترة الحرب، بعد إقالة وزير الدفاع السابق يوآف غالانت في 5 نوفمبر 2024، وتعيين يسرائيل كاتس 8 نوفمبر 2024.

وفي الواقع؛ تأتي تلك التغيرات داخل قيادة الجيش الإسرائيلي بالتوازي مع تغيرات يشهدها المستويان الأمني والسياسي، ففي فبراير 2025، قرر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تعيين وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر رئيسًا للوفد المفاوض بدلاً من رئيس الموساد دافيد برنيا، مع استبعاد رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رونين بار من فريق التفاوض، قبل أن تتم إقالته من منصبه كرئيس لجهاز الشاباك في 20 مارس 2025.

ومع عودة إيتمار بن غفير إلى منصبه وزيراً للأمن القومي في 19 مارس 2025 بعد استقالته في 21 يناير، يُمكن توقع أنّ الحرب التي استأنفت حديثاً قد دخلت مرحلة أكثر تعقيداً، وتهدف منها  إسرائيل لحسم العديد من الملفات التي نظر لها في وقت سابق باعتبارها مستحيلة، من بينها سحب سلاح حركة حماس وإبعاد أو سجن أو اغتيال مسؤوليها، أو الذهاب لما هو أبعد من ذلك: نحو تهجير أهالي قطاع غزة، فقد باتت الحُكومة وقيادة الجيش أكثر توافقاً بعد تلك التغيرات، ويتسم كلاهما بالتطرف في الأفكار والأهداف، فيما المُستوى الأمني الممثل في الموساد والشاباك قد تم استبعاد قادتهما من المفاوضات، وحيث كان ذلك المستوى أكثر ميلاً لإبرام اتفاق مع حركة حماس لوقف الحرب، ما أثار خلافات بينهم وبين أطراف من الحكومة، كان من نتائجها إقالة رونين بار. 

دخول الحرب مرحلة حاسمة وحساسة

كان توقع استئناف الحرب بالنسبة للعديد من المراقبين والمحللين مسألة مستبعدة، وسط تصورات بأنّ وقف اتفاق إطلاق النار الذي وقعه الطرفان جاء مدفوعاً بدعم أمريكي وفي ضوء حاجة جميع الأطراف إلى إنهاء الحرب التي دخلت عامها الثاني، بالرغم من أنّ مسار المفاوضات كان مُحاطاً بالعديد من التعقيدات التي تدفع لتوقع تعثره، إلّا أنّ الحرب وفقاً لمراقبين لم تعد وسيلة فعالة لتحقيق أهدافها، وحتى مع عودة الحرب؛ يسود انطباع في أوساط السياسيين والمحللين أنها تأتي لتكثيف الضغوط الإسرائيلية على حركة حماس، ودفعها لتقديم تنازلات رُبما تجاه إدارتها لقطاع غزة، أو التنازل عن سلاحها ونفي قادتها العسكريين منهم خاصة.

مع ذلك؛ كان واضحاً منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، أنها ذات مصفوفة متغيرة من الأهداف والمخاطر على طرفيها، وهي المُعادلة التي حكمت تقدير إسرائيل للحرب وتحديد حجم أهدافها منها،  وبالنظر إلى ذلك ظلت الحرب مستمرة بالرغم من التداعيات التي ترتبت عليها، من بينها الخلافات الإسرائيلية داخل المستويين العسكري والسياسي، وداخل المستوى السياسي ذاته والتي تفاقمت بعد استقالة بيني غانتس وغادي آيزنكوت  من مجلس الحرب في 9 يونيو 2024، وتواصل الاحتجاجات الدورية لأهالي المحتجزين، وتغيّر الموقف الدولي والأممي تجاه إسرائيل، والذي اتخذ مظاهر متعددة، من بينها؛ القرارات القضائية الأممية بشأن الإجراءات التدبيرية الطارئة لمحكمة العدل الدولية في إطار النظر في تُهمة ارتكاب إسرائيل "إبادة جماعية"، وكذلك إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال لكل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت. إضافة إلى تغيير الموقف الأوروبي تجاه الفلسطينيين مع اعتراف عدد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، وإصدار محكمة العدل الدولية في 19 يوليو 2024 قرار استشاري "بعدم قانونية الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967". بالإضافة إلى اشتمال ذلك على موقف الشارع الغربي من تظاهرات واحتجاجات، وحراك في الجامعات الأمريكية والأوروبية دعماً للموقف الفلسطيني وإنهاء الحرب.

استئناف-الحرب-في-قطاع-غزة-المتغيرات-والأهداف-n-1.jpg

وتلك القضايا التي كان يعتقد أن تكون عاملاً في وقف الحرب، لم تعد اليوم ماثلة بذات حجم التأثير على مجرياتها، بل على العكس، عادت الحرب من جديد في ظل مستوى سياسي أكثر تجانسًا وأكثر توافقًا مع المستوى العسكري، وفي ضوء دعم أمريكي لا مشروط ولا محدود، لا سيّما مع تبني الرئيس الأمريكي مقترح التهجير. وعلاوة على ذلك، تبدو الحكومة الإسرائيلية أكثر استقرارًا اليوم، خاصة بعد مصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون الميزانية لعام 2025 بأغلبية 66 صوتًا مقابل 52 في 25 مارس 2025،بما يعكس استقرار الحكومة ويُبعد مراهنات الانتخابات المبكرة وسيناريوهاتها.

المخاطر الجغرافية والديمغرافية في القطاع

جاء استئناف الحرب في قطاع غزة، وسط خطاب أمريكي- إسرائيلي يُركّز على تهجير أهالي قطاع غزة، هو المُقترح الذي كان حاضراً منذ اليوم الأول للحرب، ودخل مرحلة جديدة مع تجدد الحديث عنه من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع دخول المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 يناير 2025 ، ثُم تنصيبه في 20 يناير، والأخذ به من قبل إسرائيل باعتباره ضوءاً أخضر للتخطيط وتنفيذ التهجير على أرض الواقع، وبذلك فإن الحرب مع عودتها دخلت مرحلة جديدة تحمل أبعاداً أكثر خطورة ضمن مشروع إسرائيلي يهدف إلى إعادة رسم خريطة قطاع غزة وإعادة توزيع سكانه.

ومن مؤشرات ذلك؛ إنشاء إسرائيل في 23 مارس 2025 هيئة رسمية لإدارة تهجير الفلسطينيين من غزة لتسهيل "المغادرة الطوعية" للسكان، وبالتوازي مع ذلك، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية معلومات تفيد بأنّ استئناف العمليات العسكرية يهدف إلى فرض واقع جديد في غزة، يشمل تهجير السكان وإقامة حكومة عسكرية تدير شؤون القطاع بعد تفكيك أي حكم ذاتي فلسطيني. إضافة إلى الكشف عن محادثات إسرائيلية سرية أُجريت مع دول أفريقية وأوروبية لاستقبال مهجّرين من قطاع غزة.

كما أقر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 26 مارس 2025 بأن أحد أهداف الهجمات على غزة هو احتلال أجزاء من القطاع ما لم تفرج حماس عن الرهائن، وأعلن في 2 أبريل 2025 عن هدف السيطرة على ما سماه محور "موراج" الذي يفصل رفح عن خان يونس، بالقول بأن: "الجيش يحتل الأراضي .. ويسيطر على محور "موراج" الذي سيكون محور فيلادلفيا الثاني"، مشيرًا إلى تفكيك القطاع لزيادة الضغط على حركة حماس. ويأتي ذلك بالتزامن مع إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس عن توسيع الأنشطة العسكرية جنوب القطاع، في أعقاب إصدار الجيش الإسرائيلي في 31 مارس أوامر إخلاء لكامل مدينة رفح للمرة الأولى منذ بداية الحرب، بهدف إنشاء منطقة أمنية أوسع نطاقًا.

استئناف-الحرب-في-قطاع-غزة-المتغيرات-والأهداف-n-4.jpg

وفي الواقع؛ فإنّ الوضع الميداني والمعيشي في قطاع غزة يُعزز من مخاطر تهجير سكانه؛ خاصة مع مواصلة إسرائيل ضغوطها العسكرية الكثيفة في القطاع، واستمرار الحصار الخانق على أهالي القطاع بعد أن أعلنت في 2 مارس إغلاق معابر قطاع غزة ومنع إدخال البضائع والمساعدات إليه، وسط أزمة إنسانية غير مسبوقة، ويزداد ذلك الواقع تعقيداً مع عدم وجود خطة لليوم التالي من الحرب، وتعقيد مسائل إعادة الإعمار، والتحديات التي تُواجه الخطة العربية بشأنها، خاصة مع استئناف الحرب من جديد. ومن الناحية النظرية؛ يُمكن تحقيق التهجير بشكل قسري عبر المزيد من العمليات العسكرية، ومنع المجتمع في قطاع غزة من التعافي، ويُمكن أيضاً تحقيق ذلك "طوعياً"، من خلال تشجيع الدول الأخرى على استقبال أهالي قطاع غزة، خاصة وأنّ جميعهم يُلبي نظرياً "متطلبات الإقامة في بيئة أكثر أمناً واستقراراً"، وقد تبدأ بعض الدول بالتحرك بهذا الاتجاه. فمثلاً؛ تمنح كندا تأشيرات مؤقتة لأهالي من سكان قطاع غزة منذ يناير 2024. أضف إليه أنّ معيشة السكان في وضع اقتصادي خانق بعد تدمير البنى التحتية، يجعل من خروجهم من القطاع للعمل والتعليم والعلاج ضرورة ملحة وليس مجرد خيار، بعد ارتفاع معدلات البطالة والفقر لمستويات غير مسبوقة، وانهيار المؤسسات التعليمية والصحية، الذي قد يدفع بالسكان للخروج بحثًا عن فرص خارج حدود القطاع المدمر والمحاصر في بيئة تضمن لهم فرص معيشية ومستقبلية أفضل.

وأخيراً؛ يأتي استئناف إسرائيل للعمليات العسكرية في قطاع غزة بعد تعثّر المفاوضات وبما يعكس أهدافًا استراتيجية تتجاوز الرد على الجمود التفاوضي. نحو إعادة رسم الأهداف وإعادة تشكيل البنية الجغرافية والديموغرافية للقطاع من خلال سياسات التهجير والاحتلال وفرض الحكم العسكري.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات