سلاح حزب الله اللبناني في واقع ما بعد الحرب
يشهد لبنان تحولات عميقة ناتجة عن تداعيات الحرب في قطاع غزة، والتي ألحقت أضرارًا بمحور إيران في المنطقة، ومن ضمنه حزب الله، ويبدو أن هناك إدراكًا مشتركًا من قبل اللبنانيين والفاعلين الإقليميين والدوليين بضرورة استثمار اللحظة لنزع ما تبقى من سلاح حزب الله. في المقابل يرى الحزب نفسه مضطرًا لتقديم تنازلات كبيرة واستراتيجية في سبيل الحفاظ على الشق السياسي من أنشطته.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٧/٠٤/٢٠٢٥

دخلت المرحلة الثالثة من عملية نزع سلاح حزب الله اللبناني، بعدما قلصت الضربات الإسرائيلية ضد المنشآت العسكرية للحزب مخزونه من الصواريخ الدقيقة وبعيدة المدى، ثم انتشار الجيش اللبناني وسيطرته على مواقع الحزب العسكرية جنوب الليطاني، وأخيراً استعداد الحزب لمناقشة تسليم ما تبقى من سلاحه وعتاده العسكري. في اختراق هو الأكبر الذي تشهده البلاد منذ اتفاقية الطائف عام 1989، إذ شكل سلاح الحزب منذ ذلك التاريخ إشكالية في البنية السياسية للدولة اللبنانية، وأصبح أداة لتكريس نفوذه السياسي والأمني والعسكري في الداخل اللبناني. ويأتي هذا التطور نتيجة الضغوط العسكرية الإسرائيلية والسياسية الأمريكية، وتمسك السلطة الجديدة في لبنان بحصر السلاح بيدها، وهو ما دفع مسؤولًا رفيعًا في حزب الله للتصريح إلى وكالة رويترز في 9 أبريل 2025، بأن الحزب مستعد للتفاوض مع الرئاسة اللبنانية بشأن أسلحته، وتبع ذلك بيان من الرئاسة اللبنانية في 10 أبريل، يُشير إلى إبداء الحزب مرونة حول موضوع السلاح.
النزع "التدريجي" لسلاح حزب الله
شكلت مُشاركة حزب الله اللبناني في الحرب في قطاع غزة، عاملاً حاسماً، في الوصول إلى مرحلة طرح سلاحه على طاولة المفاوضات، فمنذ أن بدأ مشاركته كجبهة ثانوية في 8 أكتوبر 2023، تلقت قُدرات الحزب العسكرية سلسلة من الضربات الإسرائيلية، التي تركزت خلال الأشهر الأولى من الحرب على بُنيته التحتية المحاذية للحدود اللبنانية الإسرائيلية، وتحديداً في نطاق 10-15 كيلومتراً، قبل أن تمتد دائرة الاستهداف الإسرائيلي نحو الجنوب اللبناني، وتتسع الضربات إلى الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت والعملية البرية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي مطلع أكتوبر 2024، وهي التحركات التي قادت في نهاية المطاف إلى القضاء على هيكل قيادة حزب الله وجزء كبير من بُنيته العسكرية والصاروخية.
وقد دفعت الخسائر التي لحقت بالحزب إلى قبوله المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار، والذي دخل حيّز التنفيذ في 27 نوفمبر 2024، ويقضي بحظر تواجد حزب الله جنوب الليطاني، ويشترط، لانسحاب القوات الإسرائيلية تدريجيًا، انتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني وعلى طول الحدود اللبنانية–الإسرائيلية. وقد طوّر الاتفاق آليات رقابية من خلال تشكيل لجنة خماسية تُشرف على تطبيق بنود الاتفاق. وفي هذه المرحلة، يعمل الجيش اللبناني على تفكيك المواقع العسكرية لحزب الله والسيطرة عليها، مما أوجد مشهدًا جديدًا في مناطق جنوب لبنان خاليًا من التواجد العسكري لحزب الله.
لكن نتائج الحرب لم تقتصر على الجنوب اللبناني، فقد ساهمت كذلك في رسم ملامح جديدة للمشهد السياسي في البلاد بعيدًا عن سيطرة الحزب، بعد أن فقد قوته ونفوذه اللذين شكّلا عماد مشاركته وسيطرته على الساحة السياسية اللبنانية. وقد شهدت هذه المرحلة تكثيفًا للضغوط الأمريكية لترجمة نتائج الحرب إلى مكاسب سياسية، تُفضي إلى تشكيل حكومة لبنانية وانتخاب رئيس للبلاد، بعد شغور المنصب منذ نوفمبر 2022، بعيدًا عن سيطرة أو مشاركة حزب الله. إذ أوضحت نائبة المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، في فبراير 2025، الخطوط الحمراء الأمريكية بمنع مشاركة حزب الله وحلفائه في الحكومة الجديدة، وأن يبقى "منزوع السلاح ومهزومًا عسكريًا".
وبالفعل، نجحت القوى السياسية في انتخاب جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية في 9 يناير 2025، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة نواف سلام في 8 فبراير، والتي وضعت في مقدمة أهدافها نزع سلاح حزب الله باعتباره في صلب المسار الإصلاحي المطلوب دوليًا. وقد أكّد سلام في 21 مارس 2025، أن صفحة سلاح حزب الله قد انطوت، وأن شعار "شعب، جيش، مقاومة" أصبح من الماضي، وتضمّن البيان الوزاري للحكومة إقرار استراتيجية أمن وطني للدفاع عن لبنان.
سلاح حزب الله على الطاولة
إن طرح حزب الله مسألة سلاحه على طاولة المفاوضات مع الرئيس اللبناني لا يأتي فحسب استجابةً للخسائر التي لحقت به، أو جراء الضغوط التي فُرضت عليه في المراحل الثلاث السابقة، ففي الماضي كثيرًا ما تمكن الحزب من تحييد سلاحه عن الظروف المحيطة به.
إذ تجاوز بنود اتفاق الطائف لعام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية عام 1990، والتي نصّت على حل جميع الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية، كما انتهك الحزب مرة أُخرى إعلان بعبدا الصادر عن هيئة الحوار الوطني عام 2012، والذي دعا إلى ضبط السلاح وعدم استخدامه في الصراعات الإقليمية. وعلى الرغم من أن العوامل السابقة ساهمت في إحداث تحول جوهري في موقف الدولة الرسمي والسياسي تجاه سلاح الحزب، إلا أن الحزب نفسه يجد نفسه اليوم وسط مجموعة أوسع من المتغيرات، دفعته إلى استخدام سلاحه باعتباره ورقة المساومة الأخيرة له.
فمن جهة، أحدثت الحرب فوضى في صفوف أطراف "محور المقاومة"، وأنهت العديد من مقومات وركائز استراتيجية "وحدة الساحات"، خاصة بعد أن فقد حزب الله عُمقه الاستراتيجي في الجغرافيا السورية، التي شكّلت ممرًا أساسيًا لتزويده بالسلاح. وقد قوّض فقدان هذا العمق من تطلعات الحزب وإيران في تحقيق التعافي من الخسائر. وإلى جانب الضغوط المفروضة على مختلف الساحات، وقياسًا على ذلك، فإن طرح حزب الله سلاحه كورقة على طاولة المفاوضات — والذي لطالما نُظر إليه في سياق استراتيجي — يترافق مع طرح إيران ملفها الاستراتيجي المتمثّل في البرنامج النووي على طاولة التنازلات مع الولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى، يواجه حزب الله بيئة لبنانية أكثر تعقيدًا وعدائية تجاهه، وفي حين يُطالب طيف واسع من اللبنانيين الحزب بتسليم سلاحه على المستويين الرسمي والشعبي، فقد الحزب مشروعية حيازته، خاصة بعد انكشاف الفجوة بين خطابه ونتائج ذلك الخطاب، واستمرار الهجمات الإسرائيلية حتى بعد وقف إطلاق النار، وتأجيلها الانسحاب من النقاط التي تسيطر عليها داخل لبنان.
بالإضافة إلى ذلك، تكبّد لبنان خسائر تُقدَّر بنحو 8.5 مليار دولار، وفقًا للبنك الدولي، في وقت تُعاني فيه البلاد من أزمة مالية خانقة. ويُفاقم هذا الواقع ربطُ المجتمع الدولي تدفقات أموال إعادة الإعمار بنزع سلاح الحزب من قِبل الدولة، وهو المطلب الذي يضع الحزب في مواجهة مع الدولة اللبنانية والمجتمع. ولأن الدمار الأوسع قد طال الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان —وهما المنطقتان اللتان تضمان الحاضنة الاجتماعية للحزب— فإن قضية إعادة الإعمار تمسّ صورة الحزب وموقعه داخل المجتمع اللبناني، ولا سيما بين مؤيديه وناخبيه.
موقع الحزب في المشهد اللبناني الجديد
يجد حزب الله نفسه وسط معادلة وجودية فرضتها جملة العوامل والمتغيرات السابقة؛ فإما التنازل عن سلاحه مقابل الحفاظ على دوره السياسي والاجتماعي في لبنان، أو مواجهة ضغوط دولية متصاعدة ومعارضة رسمية وشعبية قد تضع البلاد في حال عدم الاستجابة، أمام سيناريوهات من بينها الاقتتال الداخلي. ولذلك، تتمسك الدولة اللبنانية بوسيلة الحوار لنزع ما تبقى من سلاح حزب الله طوعًا، ويبدو أن اعتماد الحوار جاء نتيجة لتصاعد حدة الخطابات السياسية بين القوى المتنافسة في لبنان، بالإضافة إلى أن الحزب لا يزال يمتلك عتادًا قد لا يكون فعّالًا في مواجهة مع إسرائيل، لكنه كافٍ لردع منافسيه الداخليين.
مع ذلك، يبقى من المستبعد أن يلجأ الحزب إلى استخدام السلاح للتخلص من هذه الضغوط، على غرار محاولته السيطرة على العاصمة بيروت ومناطق من جبل لبنان في 7 مايو 2008، على خلفية قرارات مجلس الوزراء بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة في الحزب، وإقالة جهاز أمن مطار بيروت الدولي. إذ يدرك الحزب أن أي تحرك عسكري سيُقابل برد فعل إسرائيلي، في وقت لا يحتمل فيه الحزب مزيدًا من الخسائر، التي يصعب تعويضها بالنظر إلى الأضرار التي لحقت بمحور إيران في المنطقة بشكل عام.
في المقابل، يدرك حزب الله حجم الضغوط المفروضة على سلاحه، وتداعيات إصراره على الحفاظ عليه، ويبدو أنه في هذه المرحلة يُوجه تركيزه نحو الجانب السياسي من نشاطه، إذ لا يزال، إلى جانب حليفته حركة أمل، يمتلكان موقعًا قويًا في البرلمان اللبناني، ويتمتعان بتمثيل في الحكومة الجديدة عبر حقائب سيادية مثل المالية. وبالتالي، لا تزال قدرته على التأثير في الحياة السياسية قائمة، ومن المرجّح أن تستمر طالما ظل العمل باتفاق الطائف لعام 1989 ساريًا.
وأخيرًا، يشهد لبنان تحولات عميقة ناتجة عن تداعيات الحرب في قطاع غزة، والتي ألحقت أضرارًا بمحور إيران في المنطقة، ومن ضمنه حزب الله. ويبدو أن هناك إدراكًا مشتركًا من قبل اللبنانيين والفاعلين الإقليميين والدوليين بضرورة استثمار اللحظة لنزع ما تبقى من سلاح حزب الله. في المقابل، يرى الحزب نفسه مضطرًا لتقديم تنازلات كبيرة واستراتيجية في سبيل الحفاظ على الشق السياسي من أنشطته.

ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات