واشنطن وطهران: جولة أولى من المفاوضات شبه المباشرة

تسعى إيران بذهابها للمفاوضات مع الولايات المتحدة إلى الحفاظ على سلامة أراضيها، ونظامها السياسي، وتجنّب توجيه ضربة عسكرية أمريكية-إسرائيلية ضد منشآتها النووية. لكنها في الوقت نفسه؛ ربما تستفيد من كسب الوقت، في بحثها عن مفاوضات طويلة الأمد تُحقق منها التعافي الداخلي والخارجي، وتمتص بها زخم الحشود والنوايا العسكرية ضدها.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٥‏/٠٤‏/٢٠٢٥

أنهت الولايات المتحدة وإيران الجولة الأولى من المفاوضات "شبه المباشرة"، بعد محادثات عُقدت في سلطة عُمان في 12 أبريل 2024، بين المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بتنسيق من وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي، والتي جاءت كاستجابة إيرانية للضغوط المفروضة عليها وعلى محورها وسياساتها الإقليمية جرّاء تبعات الحرب في قطاع غزة ، وفي أعقاب التحذير الذي وجهه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إيران في 5 مارس 2025 بشأن التوصل إلى اتفاق نووي جديد خلال شهرين أو اللجوء إلى الخيار العسكري. وفي ضوء ذلك؛ تتعدد قراءات الجولة الأولى من المفاوضات، خاصة وأن ما صدر من تصريحات أو مؤشرات حول نتائجها ضئيل للغاية وعام جداً، ولهذا تعتمد قراءة هذه الورقة على مجموعة من المؤشرات وعلى اجتماعات عقدها فريق معهد ستراتيجيكس مع مجموعة من المسؤولين الأمريكيين المطلعين عن كثب على مسار المفاوضات، وعلى النقاشات داخل البيت الأبيض، والذين فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم.

لماذا المفاوضات "شبه مُباشرة"؟

جاءت الجولة الأولى من المفاوضات بين طهران وواشنطن في سلطنة عُمان، مدفوعة بمجموعة من المُتغيرات الرئيسة الهامة، إذ تدخل إيران المفاوضات وقد فقدت قُدرتها على الردع، بعد أن قلّصت الأضرار التي طالت وكلاءها ووجودها في لبنان واليمن والعراق وسوريا، من هامش المُناورة التفاوضية أمامها، وكذلك بعدما كشفت الحرب في قطاع غزة عن جوانب الضعف الإيراني في اتخاذ تدابير دفاعية فعالة، بعدما استطاعت إسرائيل اختراق الأراضي الإيرانية بطرق مُتعددة، من بينها الاختراق الاستخباراتي الذي اغتالت به رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في  31يوليو 2024، والضرب بوسائل قتالية مختلفة كاستهداف بطارية دفاعية قُرب منشأة نطنز بطائرات دون طيار في 19 أبريل 2024، ثُم التحليق في مجالها الجوي بطائرات مُقاتلة لمئات الكيلومترات، وقصف منشآت لصناعة الصواريخ البالستية في26 أكتوبر 2024.

ويُضاف إلى ذلك؛ دخول الولايات المتحدة على خط المُواجهة العسكرية، مع تنفيذها عملية عسكرية مُستمرة منذ 15 مارس 2025 ضد الحوثيين في اليمن، وهي العملية التي ترتبط بشكل مُباشر بإيران، حيث أنّ الوسائل القتالية والأسلحة المُستخدمة، والطبيعة الجغرافية لبعض الأهداف، تتقاطع مع حالة المنشآت النووية الإيرانية، المشيّدة وسط بيئات جبلية وفي أعماق الأرض. مع ذلك أشار مصدر أمريكي مطلع على المفاوضات في مسقط لمعهد ستراتيجيكس، بأن الرئيس الأمريكي يرغب ويأمل في التوصل إلى حل سلمي، وقد أوضح تلك الرغبة عند التوقيع على مذكرة الأمن القومي الأمريكي، لكن في الوقت الذي يعتقد فيه العالم أنه يعرف ترامب جيداً، فإنه لا ينبغي أن يتفاجأ أحد بسياساته وأولوياته، وحيث أوضح رغبته في التوصل إلى حل سلمي، إلا أن أولويته تتمثل في إزالة التهديد الإيراني، وأنه منذ إدارته الأولى (2017-2021) يؤكد أن إيران لن تمتلك السلاح النووي، حيث يرى فيه تهديدًا وجوديًا للمنطقة، وكذلك للقوات الأمريكية فيها، وبأنه سيطلق سباق تسلح قد يحدث فوضى بالمنطقة، ولذلك فالرئيس ترامب ملتزم بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وهو جاد في استخدام الحشود العسكرية ضده إن فشل المسار التفاوضي.

وفي الواقع؛ يدعم ذلك التصور الضربات الأمريكية في مناطق الحوثيين باليمن والتي تعكس جدية واشنطن في تحييد القُدرات الإيرانية، وتقديرها بأنّ ذلك أصبح مُمكناً بل ومُتاحاً اليوم، سواء بتوظيف الضعف الإيراني نحو تحصيل تنازلات كبيرة، أو توجيه ضربة عسكرية حاسمة، وكلا الخياران تم دعمهما بحشد عسكري أمريكي غير مسبوق، وتحول في موقف قواتها في المنطقة من الدفاع إلى الهجوم.

ومن هذا المُنطلق؛ اشترطت واشنطن مُفاوضات مُباشرة، واستبعدت الصيغ السابقة للمفاوضات، سواءً تلك التي عُقدت خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وساهمت في التوصل إلى "صيغة العمل الشاملة المشتركة" عام 2015، أو مفاوضات فيينا بين عامي 2021-2022 مع إدارة الرئيس السابق جو بايدن، والتي كانت تُجريها واشنطن بشكل مُباشر عبر خمسة وسطاء، وهم (الصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا). وبذلك يُرجّح أن الإدارة الأمريكية الحالية ترغب في توظيف الضعف الإيراني لـ "فرض الإملاءات" أكثر من الذهاب نحو إطار تفاوضي مُكافئ يصل فيه الطرفان إلى حلول وسطية، ومن هُنا أصبح من الأنسب أن يُطلق على المفاوضات بأنها "شبه مباشرة"، وإن جرت في غرفتين منفصلتين.

واشنطن-وطهران-جولة-أولى-من-المفاوضات-شبه-المباشرةin-1.jpg

الولايات المتحدة وإسرائيل: تقاطع الأهداف وتناوب الأدوار

تكشف الأحداث الأخيرة في المنطقة عن تناوب في الدورين (الأمريكي-الإسرائيلي) على خطوط المواجهة مع إيران ووكلائها، فحيث تمارس إسرائيل أعمالاً عسكرية وقتالية، فإنّ الولايات المتحدة تحاول ترجمتها إلى نتائج سياسية. ففي لبنان؛ تواصل إسرائيل تجاوز اتفاق وقف إطلاق النار، من خلال السيطرة على خمس نقاط استراتيجية وتنفيذ ضربات ضد حزب الله بين الحين والآخر، في المُقابل تكثّف واشنطن من ضغوطها السياسية بهدف نزع سلاح حزب الله، وقد وضعت نائبة المبعوث الأميركي، مورغان أورتاغوس، لبنان أمام خيارين؛ فإما نزع سلاح حزب الله والشراكة مع الولايات المتحدة أو الإبقاء عليه وفقدان تلك الشراكة. وفي قطاع غزة تحاول الإدارة الأمريكية حسم الحرب عبر طرح تهجير أهالي القطاع تارة، والتمسك بضرورة نزع سلاح حركة حماس تارة أخرى، وذلك تحت وقع العمليات العسكرية الإسرائيلية المُستمرة في القطاع منذ استئنافها في 17 مارس 2025.

بالتالي؛ يركّز هذا النهج على تكثيف الضغوط العسكرية وإلحاق الخسائر بالخصم على الجبهات المختلفة؛ من أجل حثّه على تقديم التنازلات، والتي جاءت في حالة حزب الله اللبناني غير مسبوقة، خاصة مع وضعه لمستقبل سلاحه على طاولة المفاوضات، حسب ما نقلته وكالة "رويترز" في 9 أبريل 2025. ومن هذا المنظور يُمكن تفسير الخطوات الأمريكية في عقدها المفاوضات مع إيران تحت وقع التحذير والنار، حيث تتزامن مع استعراضها الهائل لقوتها العسكرية البحرية والجوية، وفي وقت تنشط فيه حاملتا الطائرات "ترومان" و"فينسون" ضد مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن، كما استدعت واشنطن قُوة جوية ضاربة تشمل قاذفات B-2 إلى قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي بالإضافة إلى قاذفات B-52 المتواجدة في المنطقة. ويبدو أنّ الانخراط العسكري المُباشر للولايات المتحدة في الشأن الإيراني جاء للتلويح بقوة تتجاوز في حدودها تلك المُمكنة عند إسرائيل، وكل ذلك يُشير إلى أنّ واشنطن وتل أبيب تبحثان عن تنازلات إيرانية تحسم ملفها النووي وليس الوصول إلى تسويات؛ بهدف تفكيك المشروع النووي الإيراني، خاصة بعد فشل العقوبات الاقتصادية في كبح تقدمه؛ إذ بلغ مستوى تخصيب اليورانيوم 60% في نوفمبر 2024، وفقًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ويدعم ذلك؛ التمسك الأمريكي في إجراء المفاوضات المُباشرة، والذي يفسره مسؤول أمريكي مُقرب من الرئيس ترامب لمعهد ستراتيجيكس، بأن هدف ترامب الذهاب نحو مفاوضات ذات قيمة ونتيجة، تحسم موضوعها دون تأجيل أو إدارة للصراع تتناقله الإدارات الأمريكية القادمة، فوفقاً له "يريد الرئيس جدولًا زمنيًا للمفاوضات، ويريدها أن تكون موجزة ومباشرة، لأن الغرض منها هو التوصل إلى اتفاق، وليس إطالة أمدها لسنوات". وهذا الأسلوب أصبح بمثابة النهج للإدارة الأمريكية في إدارة الملفات المعقدة حول العالم، فلا يقتصر ذلك على الملف النووي الإيراني، ويشمل أيضاً المفاوضات مع روسيا لوقف الحرب في أوكرانيا، والتي سبقت المفاوضات الأمريكية-الإيرانية، عندما استضافت السعودية وتركيا في فبراير ومارس 2025، مفاوضات أمريكية - روسية لبحث وقف الحرب في أوكرانيا.

وفي الواقع يرتبط كلا الحدثين ببعضهما البعض، حيث المفاوضات الأمريكية الروسية تُحيّد بشكل غير مُباشر من تأثير رُوسيا في الملف النووي الإيراني وتدفعها للتركيز على أولوياتها في العلاقة مع الولايات المتحدة لوقف الحرب في أوكرانيا وإزالة العقوبات الغربية عنها. وقد سبق اجتماع الطرفين؛ الأمريكي والإيراني في 12 أبريل 2025، زيارة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف إلى موسكو ولقاءه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 11 أبريل 2025. 

ماذا حول الجولة القادمة من المفاوضات؟

دخلت الولايات المتحدة في مسار الحرب والمفاوضات في الشرق الأوسط بثقل استراتيجي كامل، تبحث به عن حسم الملفات المرتبطة بإيران، والتي شكّلت على مدار العقد الماضي مبعث قلق لواشنطن ودول المنطقة، حيث تنخرط في المفاوضات مع إيران وهي تمتلك زمام المُبادرة ضدها وضد ساحات وكلائها الآخرين. في المُقابل؛ تُدرك إيران جدية اللحظة، وقد وافقت على الدخول في مفاوضات "شبه مُباشرة" بالرغم من إصرارها واستمرار مسؤوليها وإعلامها بالتأكيد على أنها "غير مباشرة"، وبالرغم من استثناء الوسطاء الخمسة بين الطرفين، وتمسّك سلطنة عُمان بالحياد تجاههما باعتباره جزءًا من مبادئ سياستها الخارجية، ما يعني أنّ القنوات غير المباشرة التي كانت تُخفّف من حدة الضغوط وتُحسّن السلوك لم تعد موجودة، وأنّ إيران في ذهابها للمفاوضات تُدرك ما قد يترتب عنها من تنازلات تخص برنامجها النووي، ورُبما تصل إلى تفكيكه وبشكل مشابه لسيناريو الملف النووي الليبي، الذي تم تفكيكه عام 2003، بعد إعلان الرئيس الأسبق معمر القذافي "تخليه الطوعي" عنه، وتسليم معداته والوثائق الخاصة به إلى واشنطن.

واشنطن-وطهران-جولة-أولى-من-المفاوضات-شبه-المباشرة-in-2.jpg

إضافة إلى ذلك؛ تُدرك إيران صعوبة مواجهة الخيار الآخر المتعلق بالعمل عسكرياً ضد برنامجها النووي؛ فمن شأن تعرضها لأي ضربة عسكرية أن يؤدي إلى حشد داخلي للتحرك ضد النظام السياسي، خاصة وأنّ استهداف إيران في الخارج والداخل يُقوّض الركيزة الأيديولوجية والقومية التي نشأ عليها النظام، وفي ظل الحركات الاحتجاجية السابقة منذ عام 2009 وصولاً إلى عام 2022، وعدة اضطرابات داخلية مع وجود تيارات سياسية وإثنية وقومية إيرانية معارضة، إلى جانب تنامي الضغوطات الاقتصادية بسبب العقوبات الأمريكية، واقتراب موعد انتهاء الإعفاءات الدولية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني والمقرر في أكتوبر 2025، والذي يزيد من احتمالية دخول فاعلين جدد على مسار الضغوط التي تمارس ضدها، ومن بينهم الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو القوى الأوروبية المعنية بالملف النووي الإيراني.

وأخيراً؛ فإنّ إيران تسعى بذهابها للمفاوضات إلى الحفاظ على سلامة أراضيها، ونظامها السياسي، وتجنّب توجيه ضربة عسكرية أمريكية-إسرائيلية ضد منشآتها النووية. لكنها في الوقت نفسه؛ ربما تستفيد من كسب الوقت، في بحثها عن مفاوضات طويلة الأمد تُحقق منها التعافي الداخلي والخارجي، وتمتص بها زخم الحشود والنوايا العسكرية ضدها، لكن حتى هذا الهدف يبدو مُدركاً من قبل الإدارة الأمريكية، إذ يذكر المسؤول الأمريكي لمعهد ستراتيجيكس، بأن واشنطن "لن تنخدع.. وقد رأينا كيف كانت المفاوضات متعددة الأطراف السابقة مليئة بالمحادثات غير المباشرة، والتي لم تؤدي إلى أي شيء"، ومن هُنا أصبح واضحاً أنّ واشنطن وتل أبيت تتطلعان إلى تحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية وحسم ما يرتبط بإيران من ملفات، دون الدخول في جولات طويلة الأمد، وبذلك فإنّ الخطوة القادمة المتوقعة هي انتقال الطرفين من حالة المفاوضات "شبه المباشرة" إلى المفاوضات المُباشرة.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات