دور "مؤسسة غزة الإنسانية" في معادلة قطاع غزة ما بعد الحرب
يشهد الواقع الإنساني في غزة تحولًا نوعيًا مع انطلاق "مؤسسة غزة الإنسانية" التي يُشرف عليها ضباط سابقون في الجيش الأمريكي، في سياق المساعدات والأمن ضمن استراتيجية إسرائيلية لتفكيك حكم حماس وإعادة تشكيل إدارة القطاع، وسط تراجع دور منظمات الأمم المتحدة، حيث ظهرت المؤسسة كبديل لها ووسيلة لإعادة هندسة المشهد السكاني، من خلال مشاريع مثل "المدينة الإنسانية" و"الفقاعات الآمنة".
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٢٠/٠٧/٢٠٢٥

يشهد الواقع الإنساني والعمل الإغاثي في قطاع غزة تحوّلًا جذريًا مع انطلاق عمل "مؤسسة غزة الإنسانية" في مايو 2025، في سابقة تعكس توسعًا غير مسبوق في دور المؤسسات الخاصة وشركات الأمن في الملف الإنساني. يُجسّد هذا التحوّل تطبيقًا عمليًا لأحد ملامح "اليوم التالي للحرب"، ويُبرز حجم الضغط المفروض على حركة حماس، التي عارضت سابقًا محاولات إسرائيل إيجاد بدائل لتولي مهمة توزيع المساعدات، وتأمينها، وفرض النظام. وفي المجمل، يواجه سكان قطاع غزة أزمة إنسانية غير مسبوقة، أدّت إلى اعتماد الغزيين بشكل شبه كلي على المساعدات الخارجية، التي لم تَعُد مجرد استجابة إنسانية، بل تحوّلت إلى مكوّن شديد التعقيد في مشهد الحرب، تداخلت فيه الاعتبارات العسكرية مع الأهداف السياسية، وارتبطت بشكل مباشر بمجريات الصراع بين إسرائيل وحركة حماس، وأصبح نموذجًا لواقع القطاع ما بعد الحرب.
مؤسسة غزة الإنسانية: القدرات التشغيلية والتحديات
باشرت "مؤسسة غزة الإنسانية" عملها في ضوء العديد من المتغيرات المباشرة وغير المباشرة في سياق الحرب في قطاع غزة، إذ جاء ذلك بالتزامن مع بدء إسرائيل عملية "عربات جدعون" واسعة النطاق في القطاع في 18 مايو 2025، بعد أن استأنف الجيش الإسرائيلي القتال في قطاع غزة في 17 مارس 2025، جراء تعثّر الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصّل إليه الطرفان في 19 يناير 2025.
وقد جاء تأسيس المؤسسة في فبراير 2025، وبدء عملها في مايو من العام ذاته، في إطار مبادرة أمريكية قُدّمت باعتبارها حلًا لتجاوز الواقع المأساوي الذي يعيشه سكان قطاع غزة، والذي تفاقم في ظل الحصار الشامل الذي فرضته إسرائيل على كامل القطاع في 2 مارس 2025، وتَبِعه إعلان وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهي قطع الكهرباء عن غزة في 9 مارس، ما أدى إلى توقّف أنشطة الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها في إيصال المساعدات، قبل أن تدخل المؤسسة كبديل عنها داخل القطاع من خلال آلية عمل مختلفة، تقوم على تخصيص نقاط توزيع في أربع مناطق عُرفت باسم SDS، وتبلغ القدرة الاستيعابية لكل نقطة منها نحو 300 ألف شخص. ويُشرف موظفون سابقون في الجيش والاستخبارات الأمريكية، وتحت إشراف إسرائيلي مباشر، على الحفاظ على الأمن في نقاط التفتيش والتوزيع.
مع ذلك، واجهت المؤسسة تحديات وانتقادات منذ مباشرة عملها؛ فقد شهدت بعض نقاط التوزيع الأربع في أواخر مايو حالة من الفوضى بين الآلاف من المنتظرين لتلقّي المساعدات، إذ اندفعت حشود من الغزيين لاقتحام مستودع النقطة بعد اكتشافهم أن المساعدات المُوزّعة غير كافية. وقد كشفت التجربة الأولى عن عجز المؤسسة ومسؤولي الأمن عن فرض الضبط الأمني، بالرغم من اعتمادها على مسلحين ذوي خبرة. كما أظهرت التجربة أن وصول المواطنين إلى تلك النقاط غير آمن؛ فقد تعرّضت الحشود عند نقطة التوزيع في منطقة مواصي رفح لإطلاق نار من مسيّرات إسرائيلية. ووفقًا لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، قُتل حوالي 651 فلسطينيًا خلال محاولتهم الوصول إلى المساعدات بالقرب من مواقع مؤسسة غزة الإنسانية، وذلك خلال الفترة من أواخر مايو إلى 7 يوليو.
من جهة أخرى، واجهت المؤسسة موجة حادة من الانتقادات الأممية؛ إذ رفضت الوكالات التابعة للأمم المتحدة التعامل معها، باعتبارها تنتهك مبادئ الحياد، والاستقلالية، والإنسانية في توزيع المساعدات. وقد نشر فريق العمل الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة بيانًا اعتبر فيه المؤسسة جزءًا من استراتيجية عسكرية إسرائيلية تتعارض مع المبادئ الإنسانية، وتهدف إلى تعزيز السيطرة والدفع نحو المزيد من "التهجير القسري". وفي مطلع يوليو، طالبت أكثر من 170 منظمة، من بينها "أطباء بلا حدود"، و"أوكسفام"، و"أمنستي"، بإنهاء نشاط المؤسسة والعودة إلى تنسيق الأمم المتحدة.
الجوانب الإنسانية والبعد السياسي التكتيكي
جاء إطلاق "مؤسسة غزة الإنسانية" ومباشرة عملها في ظلّ سياقٍ ممتدّ ومركّب من الإجراءات الإسرائيلية، التي وُظِّفت خلالها الجوانب الإنسانية لأغراض سياسية وعسكرية تكتيكية؛ إذ ارتبطت المساعدات بنهج إسرائيلي واسع. فبعد يومين من هجمات حركة حماس على مستوطنات وقواعد "غلاف غزة"، فرضت إسرائيل حصارها الشامل الأول على قطاع غزة، حيث أعلن وزير الدفاع، يوآف غالانت، في 9 أكتوبر 2023، عن منع دخول الغذاء، والوقود، والمساعدات الطبية عبر جميع المعابر، وقطع إمدادات الكهرباء والمياه. وبالرغم من تفاوت وتيرة تطبيق ذلك النهج بفعل الضغوط الدولية، ظلّت المساعدات الإنسانية جزءًا من مختلف الخطط السياسية الإسرائيلية وأطر عملياتها العسكرية.
إذ تضمنت خططها، مثل "وثيقة اليوم التالي للحرب" التي صادق عليها الكابينت أواخر فبراير 2024، إقامة "مناطق آمنة" داخل القطاع، واستبدال وكالة الأونروا بوكالات إنسانية أخرى، وهي الوثيقة التي امتثلت لبنودها أغلب الإجراءات والخطط الإسرائيلية اللاحقة، ومن بينها "خطة الجنرالات" التي صادق عليها المجلس الوزاري المصغّر في 22 فبراير 2024، والتي اتُّهِمَت إسرائيل بتنفيذها خلال العملية العسكرية الإسرائيلي في أقصى شمال القطاع في 22 أكتوبر 2024، من خلال تقييد دخول المساعدات إلى مناطق العمليات العسكرية، وقطع المياه والكهرباء عنها، في إطار الضغط على مسلحي حركة حماس للاستسلام أو مواجهة المجاعة. ثم أقرّ الكنيست قرارًا يحظر على وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) العمل في 28 أكتوبر 2024، وصولًا إلى عملية "عربات جدعون" التي أطلقت خلالها "مؤسسة غزة الإنسانية" أعمالها في القطاع
في الواقع، تبدو الأهداف الإسرائيلية من وراء التضييق على دخول المساعدات الإنسانية واضحة المعالم. فعلى المستوى التفاوضي، تستخدم إسرائيل هذه الورقة كأداة ضغط مباشر على حركة حماس، في محاولة لتعقيد موقفها التفاوضي، من خلال وضعها في مواجهة مباشرة مع الشارع الغزّي، لدفعها نحو القبول بالشروط الإسرائيلية، وفي مقدّمتها الإفراج عن المحتجزين لديها. وقد انعكس هذا التكتيك، إلى جانب الحجم الهائل للقوة المستخدمة، والدمار الواسع النطاق الذي خلّفته الحرب، في تحوّل تدريجي بمطالب حركة حماس منذ تنفيذ هجمات أكتوبر 2023. فبعد أن كانت تطالب بإطلاق سراح جميع الأسرى، وإنهاء الحصار المفروض على القطاع منذ عام 2007، باتت تندرج أولوياتها في تأمين دخول المساعدات الإنسانية، من حيث كفاية عددها، وتنوّع محتواها، وضمان وصولها إلى مختلف المناطق. ومع تعمّق الأزمة الإنسانية واستمرار العمليات العسكرية، تصاعدت الضغوط الاجتماعية داخل القطاع، مطالِبةً الحركة بإبداء مرونة أكبر في مواقفها، ولو بشكل مؤقت. وقد تجلّت هذه الضغوط، بشكل غير مسبوق، في مظاهرات مارس 2025، التي شكّلت تحوّلًا لافتًا في المزاج الشعبي، حيث وُجّهت خلالها انتقادات مباشرة إلى حركة حماس، وطالبتها بوقف الحرب، في سابقة لم تشهدها ساحات القطاع منذ اندلاع الحرب.
أما على المستوى الأوسع من أهدافها، تسعى إسرائيل إلى توظيف المساعدات الإنسانية كأداة استراتيجية تُسهم في تحقيق هدفها الأساسي: القضاء الكامل على حركة حماس وتفكيك بنيتها الأيديولوجية والتنظيمية، بالتوازي مع إحكام السيطرة الأمنية والعسكرية على قطاع غزة. ويتجلّى هذا التوجّه في سعيها إلى حرمان الحركة من أي دور في توزيع المساعدات أو الإشراف على تأمينها، خصوصًا في ظلّ تحوّل تلك المساعدات إلى ركيزة أساسية لبقاء المجتمع الغزّي واستدامته. وفي هذا السياق، تسعى إسرائيل أيضًا إلى إعادة صياغة أدوار الفاعلين الدوليين في المشهد الإنساني داخل القطاع، عبر تقليص دور وكالات الأمم المتحدة، واستبداله تدريجيًا بشركات أمنية خاصة، يُمكن أن تلعب مستقبلًا دورًا أكبر في تنفيذ السياسات الإسرائيلية على الأرض. ويأتي هذا التوجّه في ضوء إدراك إسرائيل لتعقيدات وجودها المباشر داخل غزة، ما يدفعها نحو اعتماد أدوات بديلة أكثر مرونة وأقل تكلفة ومخاطرة، في إدارة واقع ما بعد الحرب وفق رؤيتها الخاصة.
أبعاد خصخصة الأمن والمساعدات
تُواجه إسرائيل تعقيدات مركّبة ومتشابكة تتعلّق بتحديات الاحتلال والإدارة البديلة، إذ إن هناك تخوّفًا واسعًا داخل النخبة الإسرائيلية من أن تؤدي سيطرة الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة إلى مواجهته حرب استنزاف ضد عناصر حركة حماس، الذين يمكنهم العمل دون غرفة عمليات حتى في حال القضاء على الحركة وهيكلها التنظيمي، مستفيدين من مخلفات الحرب أو من معرفتهم المسبقة بالأماكن والأنفاق التي تُخزَّن فيها الأسلحة، والتي لم تُكتشف خلال الحرب. وقد أصبحت آلية حرب العصابات تلك أكثر وضوحًا في هذه المرحلة، خاصةً أن إسرائيل ربما تخوض آخر عملياتها العسكرية الكبيرة، في ضوء التقديرات الاستخباراتية التي تشير إلى أن لواء خان يونس هو آخر ألوية حماس الفاعلة والمنظّمة في القطاع.
من جهة أخرى، تدرك إسرائيل أن بقائها في القطاع يعني الإشراف الأمني على المجتمع الغزّي، وحيث إن مهام الجيش تقوم على استخدام القوة المميتة، فهناك تشكيك في قدرته على ضبط مجتمع يعاني من فاقة غير مسبوقة جرّاء الحرب، دون اللجوء إلى استخدام السلاح المميت في مواجهته، على غرار الفوضى التي اندلعت في نقطة توزيع المساعدات في مدينة مواصي خان يونس، والتي قُتل خلالها ستة فلسطينيين، بعد فشل الأمن في السيطرة على الحشود.
ذلك يعني أن تحقيق إسرائيل لأهدافها يضعها أمام خيار واحد، يتمثّل في إيجاد طرف ثالث قادر على الاحتكاك بالمجتمع، وإدارة الأمن، وحماية المساعدات، بما يُجنّب الجيش الإسرائيلي تداعيات الاحتكاك المباشر مع السكان. وقد بحثت إسرائيل خيارات الطرف الثالث، لا سيما من خلال مبادرة وزير الدفاع السابق يوآف غالانت بإنشاء قوة عربية متعددة الجنسيات لتأمين المساعدات وضمان الأمن في القطاع بإدارة أمريكية، إلا أن الدول العربية رفضت المبادرة باعتبارها تقتصر على توفير مظلة أمنية تحمي التحركات الإسرائيلية، من دون أن تتضمّن رؤية متكاملة لوقف الحرب أو التمهيد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ونتيجة لذلك، تحوّلت إسرائيل إلى خيارات محلية بديلة، من خلال فتح قنوات مع بعض العشائر الفلسطينية في قطاع غزة، بهدف تأمين المساعدات الإنسانية. وقد فشلت محاولتها الأولى خلال أبريل 2024، بعد تهديد حركة حماس بتنفيذ عمل انتقامي ضدها، فيما تعثّرت محاولتها الثانية بتشكيل ميليشيات محلية مثل "القوات الشعبية"، التي يقودها ياسر أبو شباب في رفح، بعد تبيّن عدم امتلاكها النفوذ والتأثير اللازمين لمواجهة حركة حماس وضبط الأمن.
ومع عدم توفّر الخيارات، تزايد الحديث الإسرائيلي عن خصخصة الأمن والمساعدات في القطاع، وذلك من خلال منح شركات الأمن أدوارًا في ضمان الأمن الاجتماعي المرتبط بعمليات توزيع المساعدات. وقد بدأت هذه الفكرة منذ مايو 2024، عندما انخرطت الحكومة الإسرائيلية في محادثات مع شركات أمنية أمريكية لإدارة معبر رفح، وتَعزّزت الفكرة مع مناقشات الحكومة الإسرائيلية منح شركة (GDC) مهمة حفظ الأمن في شمال القطاع بعد أكتوبر 2024. وقد طُبّقت تلك الأفكار جزئيًا خلال وقف إطلاق النار في يناير 2025، حيث أشرف مسلحون تابعون لشركات أمنية على تفتيش العائدين إلى الشمال، وتوسعت هذه التجربة خلال عمل مؤسسة غزة الإنسانية الأخيرة.
إلا أن تعميم تلك التجارب على كامل قطاع غزة ومجتمعه المترامي الأطراف يبدو مستبعدًا للغاية، خاصةً في ضوء محدودية قدرة شركات الأمن على ضبط الاستقرار، وعدم توفّر تجربة سابقة تُثبت قدرتها على إدارة مجتمع بحجم مجتمع القطاع، الذي يعاني حالة إنسانية غير مسبوقة، ويفتقر إلى مختلف المقومات الحضارية. ما يعني أن المجتمع الغزّي، الذي يُفترض أن تُدير أمنه تلك الشركات بما لديها من مسلّحين محدودي العدد بطبيعة الحال، يجب أن يكون مختلفًا ديمغرافيًا وجغرافيًا عن وضعه الحالي. ومن هنا يمكن فهم أبعاد المبادرات الإسرائيلية، مثل "الفقاعات الإنسانية"، التي تستند إلى إنشاء مناطق محمية لتوصيل المساعدات، ثم مشروع "المدينة الإنسانية" التي يُخطّط الجيش الإسرائيلي لإقامتها في مدينة رفح، والذي كُشف عنه من قِبل وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس في يوليو 2025. وتتضمّن كلتا الحالتين استخدامًا واسع النطاق للتكنولوجيا والفحص الأمني، بما يتناسب مع طبيعة ومحدودية قدرة الشركات الخاصة على إدارة المجتمع في قطاع غزة.
وأخيراً؛ يتّضح أن التعقيد المتزايد في ملف المساعدات الإنسانية، من حيث توزيعها وتأمينها، إضافة إلى بروز "مؤسسة غزة الإنسانية"، ليس بمعزل عن استراتيجية إسرائيل الأوسع، الهادفة إلى تفكيك حكم حركة حماس في القطاع. وفي المقابل، تسعى حماس إلى الحفاظ على دورها الإداري، الذي أضحى يتمحور بشكل رئيس حول الإشراف على المساعدات وضمان وصولها. ولم يعُد مشهد المساعدات مجرّد أداة سياسية أو ورقة تفاوضية، بقدر ما بات يُشكّل ضغطًا على سكان قطاع غزة، وتحوّل إلى أداة استراتيجية يُراد من خلالها توجيه السكان نحو التجمّع في مناطق ضيّقة ومحددة، ما يُمهّد فعليًا لسيناريو تهجير قسري أو طوعي لسكان غزة تحت غطاء إنساني.

ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات