هل تنجح "خطة ترامب" في وقف إطلاق النار وتحقيق السلام؟

تواجه "خطة ترامب" لوقف إطلاق النار في غزة تحديات معقدة، تشمل موقف حركة حماس والصعوبات البنيوية والتنظيمية في الخطة نفسها، مما يجعل تنفيذها صعبًا. رغم طرحها كخطة شاملة لإنهاء الحرب، أدّى ردّ حماس وترحيب الولايات المتحدة به إلى تفكيك وحدة الخطة وتحويلها إلى نهج مرحلي، يبدأ بإطلاق المحتجزين مقابل وقف العمليات العسكرية، فيما تُؤجل بقية البنود لمراحل تفاوض لاحقة. كما تعاني الخطة من قصور في تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة لسكان غزة، ما يهدد بخلق موجات تهجير غير مباشر. وبسبب تعقيد الخطة وفشل التجارب السابقة للنهج المرحلي، يبقى مستقبل الحرب ومصير القطاع مفتوحين على سيناريوهات متعددة.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ٠٥‏/١٠‏/٢٠٢٥

ملاحظة المحرر: نشرت هذه الورقة بتاريخ 5 أكتوبر 2025 وتم الإشارة في السيناريو الأول منها إلى أن احتمالات إنجاز المرحلة الأولى من الخطة مرتفعة إلى حدّ كبير، مقابل تراجعها في المراحل اللاحقة بسبب التعقيدات السياسية والميدانية. وفي 9 أكتوبر 2025، وافقت إسرائيل وحماس على المرحلة الأولى من خطة ترامب بشأن غزة، المتضمّنة وقف إطلاق النار وتحرير المحتجزين، ما يُعدّ خطوة أولى نحو إنهاء الحرب.

طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 29 سبتمبر 2025 خطة شاملة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتحقيق سلام طويل الأمد بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وتتألف الخطة من عشرين بندًا تتضمن إجراءات مرحلية تهدف إلى إنهاء الحرب، من أبرزها: إفراج حركة حماس عن المحتجزين الإسرائيليين في غزة، وانسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية إلى داخل المنطقة العازلة. كما تشمل الخطة ترتيبات تنظيمية وإدارية لمرحلة ما بعد الحرب، تغطي الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية، إضافة إلى إعادة الإعمار. وقد حظيت الخطة، خلال الساعات الأولى من إعلانها، بتأييد واسع على الصعيدين الإقليمي والدولي، كما وافقت عليها الحكومة الإسرائيلية، في حين وافقت عليها -جزئياً- حركة حماس في 4 أكتوبر 2025. وبينما تُعد هذه الخطة "الأوفر حظاً" في النفاذ مقارنة بالأطر التفاوضية والمقترحات السابقة، فإنها في الوقت ذاته تُبرز تحديات وتعقيدات قد تعيق تنفيذها أو تُعثر مسارها أثناء التطبيق.

معالم "خطة ترامب" لإنهاء الحرب

تُعتبر "خطة ترامب" الثانية من نوعها، على مُستوى المُبادرات الرئاسية الأمريكية لوقف الحرب في قطاع غزة، إذ سبقها، "خطة بايدن" للاستقرار في الشرق الأوسط، والتي أعلن عنها في 31 مايو 2024، وأحبطت العديد من التعقيدات تنفيذها. وبالرغم من التشابه في العديد من النقاط والأهداف، إلا أن الاختلاف في السياقات والظروف،  ظهر واضحاً بين الخطتين، إذ طُرحت "خطة ترامب" من جانب واحد، ودون الاستناد إلى إطار تفاوضي، وجاءت استكمالاً للمسار الأحادي من المقترحات الأمريكية، على غرار "الصفقة الشاملة" التي أعلنها المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في 2 أغسطس 2025.

من جهة أخرى، تجمع "خطة ترامب" بين هدف إنهاء الحرب في قطاع غزة، وترتيبات اليوم التالي لها في إطار مُوحد، متجاوزة بذلك نموذج المراحل الثلاثة، الذي اتسمت به أغلب المقترحات السابقة لا سيما "خطة بايدن"، إذ تبدأ بوقف فوري لإطلاق النار، يتبعه إفراج حركة حماس عن جميع المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة (الأحياء ورفات الأموات) في غضون 72 ساعة. وهي الخُطوة التي تُمثل "حجر الأساس" في الانطلاق نحو تنفيذ باقي البنود. ويليها إفراج إسرائيل عن 250 محكومًا فلسطينياً بالسجن المؤبد، بالإضافة إلى 1700 من سكان قطاع غزة الذين اعتُقلوا بعد السابع من أكتوبر 2023، ومقابل كل رهينة ستفرج إسرائيل عن جثامين 15 فلسطينياً من غزة، ويتم إدخال المساعدات بكميات تتوافق بالحد الأدنى مع ما ورد في اتفاق 19 يناير 2025، والتي سيتم إدخالها من خلال الأمم المتحدة ووكالاتها والهلال الأحمر.

فيما يتعلق بترتيبات اليوم التالي للحرب، تستبعد الخطة أي دور لحركة حماس في حُكم قطاع غزة، لكنها تمنح العفو عن عناصرها الذين يلتزمون بالتعايش السلمي ونزع سلاحهم، وتوفر ممراً آمناً لعناصرها الراغبين في مغادرة غزة إلى الدول المستقبلة، كما تشمل اشتراطات تسليم السلاح وتدمير جميع البُنى التحتية العسكرية، بما في ذلك الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة. وبديلاً عن حُكم حماس، تقترح الخطة "لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية"، و"مجلس سلام" مؤلف من قادة دوليين. وتتضمن الخطة نشر قوة استقرار دولية مؤقتة (ISF)، لدعم قُوات الشرطة الفلسطينية التي سيتم تدريبها حديثاً، بالتوازي مع انسحاب الجيش الإسرائيلي التدريجي على ثلاث مراحل حتى تمركزه في المنطقة العازلة.

"خطة ترامب" من حيث السياق والتوقيت

جاءت "خطة ترامب" متناسبة مع السياق الميداني للحرب، ومتأثرة بالمواقف الإقليمية والدولية المطالبة بوقف الحرب على المستويات الرسمية والشعبية. فمن جهة؛ تتسق مضامين الخطة بشكل مٌباشر مع نتائج العمليات العسكرية الإسرائيلية وتحديداً "عربات جدعون" بنسختيها، والتي روجت لها الحكومة والجيش الإسرائيليين، باعتبارهما المرحلة الأخيرة للحرب، وارتباط كليهما بمعالم اليوم التالي لتلك الحرب، من حيث إنهاء سيطرة حركة حماس، وإقامة بُنية حكم عسكري إسرائيلي بديلة. وتضمنت كلاهما تحريكاً لمئات الآلاف من سُكان قطاع غزة، من مدينة عزة، وخان يونس، إلى المناطق الآمنة في مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة. وبذلك تعكس مضامين "خطة ترامب" خططاً جاهزة للتنفيذ وليس أفكاراً للتفاوض بشأنها، مع إمكانية استحصال نتائجها عسكرياً في حالة تعثر تطبيق الخطة.

مع ذلك، فإن استكمال العمليات العسكرية الإسرائيلية، شكّل في الفترة الأخيرة، عاملاً في تأجيج الرأي العام الرسمي والشعبي الإقليمي والدولي ضد إسرائيل، والذي تبعه حملة دولية متنامية لرفض الحرب، ففي 21 يونيو تقدمت تسع دول أوروبية من بينها بلجيكا وإسبانيا والسويد وبولندا بطلب لوقف التعاون التجاري مع إسرائيل، والبحث عن بدائل للتجارة مع المستوطنات الإسرائيلية. وفي سبتمبر 2025، اقترحت المفوضية الأوروبية على المجلس الأوروبي، فرض عقوبات "صارمة" على إسرائيل، تتضمن تعليق الامتيازات التجارية معها. إلى جانب القرارات الفردية الأوروبية، والتي جاء أبرزها الحظر الألماني على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل في أغسطس 2025.

أما على المُستوى الشعبي، فقد وصلت الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت من أوساط طلبة الجامعات والناشطين في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى النقابات العمالية في أوروبا، وقد بدأت تلك النقابات، لا سيما في إيطاليا، بتحويل مطالبها بوقف نقل الأسلحة إلى إسرائيل إلى خطوات عملية؛ إذ نفّذ عمال الموانئ والمطارات إضرابات جزئية، ومنعوا في عدة مناسبات عمليات شحن الأسلحة. وكان أحدث هذه التحركات منع عمال ميناء رافينا دخول شاحنتين محمّلتين بالأسلحة إلى منطقة الرصيف مطلع أكتوبر 2025.

هل-تنجح-خطة-ترامب-في-وقف-إطلاق-النار-وتحقيق-السلام-in-11.jpg

من جهة أخرى، أدت الضربة العسكرية الإسرائيلية ضد وفد حركة حماس التفاوضي في الدوحة في 9 سبتمبر 2025، إلى تنامي القلق العربي تجاه السلوك الإسرائيلي في المنطقة، وتزايدت المخاوف الأمريكية والإسرائيلية بشأن استقرار اتفاقيات السلام، لا سيما بعد "قمة الدوحة الطارئة" التي عقدت في 15 سبتمبر 2025، وانعقاد الدورة الاستثنائية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي، والذي وجه اللجنة العسكرية العليا بتقييم مصادر التهديدات، وذلك إلى جانب ما أفرزته من تداخل في الصراعات بين الشرق الأوسط وجنوب آسيا، في أعقاب الاتفاق الدفاعي السعودي–الباكستاني الذي تم توقيعه في 17 سبتمبر 2025، والذي أضفى بُعدًا إقليميًا إضافيًا على تداعيات الحرب في غزة، وعمّق تشابك المصالح والتحالفات في المنطقة.

وبذلك، جاءت "خطة ترامب" استجابة أمريكية واعتراف إسرائيلي بتلك الضغوط، مع إقرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل تواجه "نوعًا من العزلة" نتيجة الحرب المستمرة في قطاع غزة. إضافة إلى الصلة بين ما تضمنته الخطة من بنود متعلقة بالسلام، بالحملة الدولية المتنامية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتي كان آخرها اعتراف كُل من فرنسا وبريطانيا الحليفتين التاريخيتين لإسرائيل في أعقاب مؤتمر حل الدولتين في الأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2025. وتتسق مع الخطاب السياسي الذي يسعى الرئيس الأمريكي إلى ترسيخه، بوصفه "صانعًا للسلام" في أكثر من مناسبة.

 "خطة ترامب" من منظور تفاصيلها

تعكس مضامين الخطة، رؤية ونهج إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ يومها الأول، إذ بدت أكثر استجابة للمطالب الإسرائيلية، ومنحها الضوء الأخضر لإسرائيل لرسم معالم اليوم التالي للحرب بشكل أحادي، وعدم مُعارضتها الخطط الإسرائيلية لاحتلال قطاع غزة، قبل توفير بديل عملي لحركة حماس، والاتجاه لحسم مختلف الملفات الأخرى السياسية والاقتصادية، ومن بينها إعادة الإعمار والحكم البديل بحكم الأمر الواقع، مع الإبقاء على نافذة تُبقي من حل الدولتين وعودة القطاع لحكم الفلسطينيين احتمالاً قائماً. وفي ذات هذا السياق، يُمكن قراءة مضامين "خطة ترامب".

فالنسبة للقضية الأولى، تفتقر الخطة إلى جداول زمنية واضحة، لقضية شديدة التعقيد والتركيب، وهي تنظيم عملية انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، والفترة الزمنية لتمركزه داخل المنطقة العازلة التي جرى توسيعها خلال الحرب، وهذه قضية محورية تشكّل أحد أبرز محددات موقف حركة حماس من الخطة.

أما القضية الثانية، فتتعلق بإعادة الإعمار، وهي مسار شائك يتطلب جهدًا دوليًا متكاملاً، يضمن مشاركة الخبرات الفنية والهندسية المتنوعة، وتوفير الأدوات والتقنيات المناسبة للتعامل مع مشهد دمار بالغ التعقيد، في ظل انتشار الركام، والمواد السامة، والقذائف غير المنفجرة، فضلًا عن الأشلاء البشرية. كما أنّ انطلاق عمليات الإعمار مشروط بتوفير موارد مالية ضخمة، ما يضيف تحديًا آخر أمام التنفيذ. وتزداد هذه المسألة غموضاً، في ضوء ما تتيحه من خيار مغادرة قطاع غزة للراغبين من السكان، إذ إن هذا البند، في ظل تأخر متوقّع في عمليات إعادة الإعمار وتعافي السوق الاقتصادية، يُبقي على عوامل التهجير قائمة؛ لكن هذه المرة بصيغة "طوعية".

القضية الثالثة تتمثل في الإطار الزمني العام للخطة، إذ تفترض مباشرتها فور إعلان حركة حماس الموافقة عليها، إلا أنّ التنفيذ الواقعي سيستغرق سنوات طويلة، حتى في حال غياب العراقيل السياسية أو الأمنية. فالخطة بطبيعتها ستفرز خططًا فرعية، وتستلزم تشكيل لجان وترتيبات دولية متعددة، سواء فيما يتعلق بتشكيل حكومة التكنوقراط، أو تأسيس القوة الدولية المؤقتة، أو تنشيط الاقتصاد المحلي، أو الإشراف على تسليم السلاح وتدميره، وحتى عملية ترحيل قادة حركة حماس الراغبين في ذلك.

علاوة على ذلك، لا توضّح الخطة الإطار القانوني الذي سيُخول "مجلس السلام" ممارسة مهامه في إدارة قطاع غزة، إذ إن تولّي جهة خارجية —سواء كانت مجلسًا دوليًا أو قوة أجنبية— مهام الحكم والإدارة، يقتضي بالضرورة إخضاع القطاع لأحكام قانون الحرب والاحتلال العسكري المعترف به دوليًا، كما نصت عليه مواثيق الأمم المتحدة. وهو الإطار ذاته الذي استُند إليه سابقًا لتشكيل سلطة الائتلاف المؤقتة بقيادة بول بريمر في العراق بين أبريل 2003 ويونيو 2004. بل إن مهام ذلك المجلس مُحاطة بالغموض، خاصة في ظل وجود حكومة تكنوقراط فلسطينية، وفي ضوء رئاسة دونالد ترامب له إلى جانب عضوية رئيس الوزراء السابق توني بلير، ما يُشير إلى تحرك لفصل قطاع غزة إدارياً وجغرافياً عن الإطار السياسي والتنظيمي الفلسطيني، خاصة وأن الخطة لا تتضمن تأكيداً على دور السلطة الفلسطينية المستقبلي في إدارة القطاع.

من جهة أخرى، فإن ما تتضمنه الخطة من قضايا معقدة يستلزم توافقًا دوليًا واسع النطاق، وربما مشاركة فعالة من قوى دولية كبرى، خاصة فيما يتعلق بالحاجة إلى الخبرات الفنية والمعدات المتخصصة. إلا أن البُعد الأهم يتمثل في ضرورة توفير "شرعية دولية" للخطة، وهو ما قد يدفع بمضامينها إلى دائرة التنافس والاستقطاب بين القوى الكبرى، ويحوّل بعض ترتيباتها إلى نقاط استقطاب في المشهد الدولي.

وبالنظر إلى مجمل تلك القضايا، التي يُعد كل منها تحديًا قائمًا بذاته، فإنّ مجرد موافقة حركة حماس وتنفيذ الخطة على أرض الواقع، لا يُعد بأي حال ضمانًا لنجاحها. في ظل حجم التعقيدات الميدانية والسياسية المحيطة بها.

هل-تنجح-خطة-ترامب-في-وقف-إطلاق-النار-وتحقيق-السلام-in-1.jpg

قراءة في تفاصيل موافقة حركة حماس

إن تناول ردّ حركة حماس كما جاء في بيانها الرسمي في 3 أكتوبر 2025 يتطلب النظر من عدة زوايا، تشمل سياقات ما قبل إصدار البيان، ومتنه، وتسارع الاستجابة بعد البيان، حيث سبق ذلك اجتماع عدد من قادة الدول العربية والإسلامية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 23 سبتمبر 2025، واطّلعوا على تفاصيل الخطة، وعبّروا عن تأييدهم الكامل لها في بيان مشترك عن وزراء خارجيتها (مصر، والأردن، والإمارات، والسعودية، وقطر، وتركيا، وباكستان، وإندونيسيا)، وهو ما يعني أنّ رفض حماس للخطة لن يواجه فقط بعزلة دبلوماسية، بل ربما بتخلٍّ واضح من حلفائها الإقليميين، لا سيّما قطر وتركيا، واحتمال انسحاب مصر من دورها كوسيط رئيس، ما سيُغلق أمام الحركة أي أفق تفاوضي للخروج من الحرب في المستقبل، بل وتتحمل نتائجها وتداعياتها، بالإضافة إلى أنّ التأييد الإقليمي والدولي الواسع للخطة سيُقلّص من قدرة حماس على المناورة في بنودها، خصوصًا فيما يتعلق بالحصول على ضمانات تتصل بـ "اليوم التالي" لإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، في ظل إدراك حماس أنّ البنود التي تتضمنها الخطة ترتبط معطياتها ميدانياً بالعمليات العسكرية الإسرائيلية على الأرض، وأنّ قُدرة الحركة على مواجهتها باتت محدودة، ورُبما معدومة.

من زاوية المتن بدأت ديباجة البيان بتقدير "الجهود العربية والإسلامية والدولية وجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الداعية إلى وقف الحرب على قطاع غزة وتبادل الأسرى ودخول المساعدات فوراً، ورفض احتلال القطاع، ورفض تهجير الشعب الفلسطيني منه"، وهي ديباجة مركّبة متعددة الغايات، تتأسس على "الإشادة" الإيجابية من جانب، وتبرز نقاط التوافق الأساسية التي تقدّم تفسيراً مسبقاً لأسباب الموافقة من جانب ثان (وقف الحرب، وتبادل الأسرى، والمساعدات، ورفض الاحتلال العسكري والتهجير).

القسم الثاني من البيان بدأ بالتأكيد على نقاط التوافق الأساسية التي تستجيب لأهداف حماس، خاصة (وقف الحرب والانسحاب الكامل من القطاع)، وفي هذا القسم أعلنت الحركة (عن موافقتها على الإفراج عن جميع أسرى الاحتلال أحياء وجثامين، وفق صيغة التبادل الواردة في مقترح الرئيس ترامب)، وهي صيغة دقيقة وشديدة الحذر، لكنها تمثّل (حجر زاوية) البيان الذي يمنح الجميع ما يريدونه دون التزامات محددة وتفصيلية، حيث لم يعلن البيان موافقة حماس على مقترح الرئيس ترامب جملة واحدة، بل أعلن الموافقة على البند الأهمّ بالنسبة للرئيس ترامب، وإسرائيل (الإفراج عن جميع الأسرى)، مع الإشارة صيغة التبادل الواردة في مقترح ترامب، ثم تأكيد استعداد الحركة (للدخول فوراً من خلال الوسطاء في مفاوضات لمناقشة تفاصيل ذلك)، وهي الجملة التي تمثل غاية البيان الأساس، من حيث عدم تجاوز المهلة الزمنية التي حددها ترامب (فوراً)، ومن حيث تأكيد دور الوسطاء، ومن حيث الدخول في جولات تفاوضية ستستغرق وقتاً، وهو ما يحرر حماس من ضغط الاملاءات السريعة والاشتراطات غير القابلة للنقاش، وصولاً إلى تجديد حماس (موافقتها على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية من المستقلين التكنوقراط)، لكن ليس بالاستناد إلى مقترح ترامب، بل ( بناء على التوافق الوطني الفلسطيني، واستناداً للدعم العربي والإسلامي)، وهي لفتة ذكية للمحافظة على توازن البيان وتحقيق الحد الأدنى من توقعات جميع الفرقاء.

هل-تنجح-خطة-ترامب-في-وقف-إطلاق-النار-وتحقيق-السلام-in-2.jpg

نهاية البيان جاءت أكثر عمومية، حيث أشارت إلى أنّ (ما ورد في مقترح الرئيس ترامب من قضايا أخرى تتعلق بمستقبل قطاع غزة وحقوق الشعب الفلسطيني الأصيلة، فإنّ هذا مرتبط بموقف وطني جامع واستناداً إلى القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، ويتم مناقشتها من خلال إطار وطني فلسطيني جامع ستكون حماس من ضمنه وستسهم فيه بكل مسؤولية)، وهي فقرة ختامية مكثفة لم ترفض القضايا الأخرى في مقترح ترامب، بل أعادتها إلى مربعات وطنية ودولية، مع التأكيد على دور حماس كمكوّن مهم من أي إطار فلسطيني مستقبلي يناقش تلك القضايا، في ظل اعتراف الحركة بمرجعية القوانين والقرارات الدولية بشكل صريح، وهذا في حد ذاته موقف في غاية الأهمية، الآن ومستقبلاً.

فقرات بيان حماس تحمل الكثير من الإشارات التي جاءت كاستجابة مرنة  للتفاهمات والضغوط المسبقة الإقليمية والأمريكية، التي تضمن انخراط حماس في تنفيذ المرحلة الأولى من مقترح ترامب فيما يتعلق بتسليم جميع الرهائن (الأحياء والأموات) في غزة، وصعوبة تراجع حماس بعدها عن الالتزام ببقية المراحل، والذي، حتى لو حدث، لن يؤثر كثيراً على سير تنفيذ المقترح، وهو ما يفسّر سرعة الاستجابة الأمريكية، ثمّ الإسرائيلية على ذلك البيان، وتسارع الخطوات الإجرائية اللاحقة، والتي بدأها الرئيس الأمريكي بعد أقل من ساعة عبر (منصة تروث) بقوله: "بناء على البيان الصادر عن حماس، أعتقد أنهم مستعدون لسلام دائم. على إسرائيل أن تتوقف عن قصف غزة فوراً حتى نتمكن من إخراج الرهائن بأمان وبسرعة"، ثم إعلان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صبيحة الرابع من أكتوبر 2025 في بيان رسمي أنه "في ضوء رد حماس، تستعد إسرائيل للتنفيذ الفوري للمرحلة الأولى من خطة ترامب للإفراج الفوري عن جميع الرهائن"، ثم إعلان البيت الأبيض بأنّ جاريد كوشنر وستيف ويتكوف توجها في الرابع من أكتوبر إلى القاهرة التي ستستضيف اجتماعاً رباعياً في الخامس من أكتوبر بين الولايات المتحدة ومصر وقطر وإسرائيل بهدف وضع أسس واضحة للبدء في تنفيذ المرحلة الأولى من خطة ترامب، وأنّ الوسطاء المصريين والقطريين سيتولون تسهيل المحادثات غير المباشرة بين المفاوضين الإسرائيليين وممثلي حركة حماس كما أشار موقع "أكسيوس" الأميركي، والتي ستبدأ في السادس من أكتوبر 2025.

سيناريوهات "خطة ترامب" المستقبلية

على الرغم من أن "خطة ترامب" طُرحت بصيغة شاملة ومتكاملة تهدف إلى وضع حد نهائي للحرب، فإن رد حركة حماس، وما تبع ذلك من ترحيب أمريكي بهذا الرد واعتباره خطوة إيجابية، أسفر عن تفكيك وحدة الخطة وتحويلها إلى نهج مرحلي. وبات تنفيذ بنودها يتم على مراحل، تبدأ الأولى منها بإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة، مقابل وقف العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي وتراجعه إلى خطوط الانسحاب الأولى. أما ما تبقى من بنود، فستُرحّل إلى مراحل تفاوض لاحقة.

وبالنظر إلى ما تنطوي عليه الخطة من تشابك وتعقيد في مضمونها، وإلى أن النمط المرحلي في التفاوض قد ثبت تعثره في تجارب سابقة، فإن مستقبل الحرب ومصير قطاع غزة منفتحان على عدة سيناريوهات محتملة، على النحو التالي:

السيناريو الأول: نجاح الخطة والتقدم في المراحل نحو وقف دائم للحرب

يعتمد نجاح "خطة ترامب" والمضي قدمًا في تنفيذ مراحلها، وصولًا إلى وقف شامل للحرب والانخراط في ترتيبات ما بعد النزاع، على توفر دعم فاعل من القوى الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فضلًا عن موافقة إسرائيل وحركة حماس رغم ما يُبديه كل منهما من تحفظات، لا سيما في ظل تكاليف بشرية ومادية متفاقمة تُثقل كاهل الطرفين مع اقتراب الذكرى الثانية لاندلاعها.

فعلى الرغم من تمكن إسرائيل من تحقيق مكاسب ميدانية داخل قطاع غزة، وتسجيل إنجازات تكتيكية ضد عناصر ما يُعرف بـ "محور المقاومة" وفي مقدمتهم إيران، إلا أنها باتت تُواجه أزمة استراتيجية حادة، تجلّت في تصاعد المعارضة الغربية للحرب، سواء على الصعيد الشعبي أو في مستويات رسمية داخل عدد من العواصم الغربية. في المقابل، تواجه حركة حماس واقعًا ميدانيًا بالغ التعقيد، وسط تقديرات تُفيد بأنها لم تعد تحتفظ بقدراتها التنظيمية السابقة، لا سيما بعد فقدانها الآلاف من عناصرها المقاتلين وكبار قادتها العسكريين في غزة، وهو ما يُقوّض قدرتها على الاستمرار في المواجهة بنفس الكثافة، كما يفرض عليها الدعم الإقليمي للخطة، لا سيما من تركيا وقطر ومصر المزيد من الضغوط التي من الصعب مواجهتها

وإذا كانت موافقة حركة حماس على الخطة جزئية، فإن سرعة الاستجابة الأمريكية والإسرائيلية لهذا الموقف تعكس تقديرًا استراتيجيًا مفاده أن تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق – والتي تتضمن إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين – من شأنه أن يُجرد الحركة من ورقتها الأقوى والأكثر تأثيرًا في ميزان التفاوض. وبمجرد فقدان هذه الورقة، فإن قدرة حماس على المناورة أو فرض شروط جديدة خلال المراحل اللاحقة ستتقلص إلى الحد الأدنى، ما يجعلها في موقع تفاوضي أضعف، وربما خارج معادلة التأثير بشكل شبه كامل. بهذا، تصبح مشاركتها فيما يلي المرحلة الأولى مشروطة ومرهونة بتوازنات تفرضها الأطراف الفاعلة أكثر مما تمليه اعتباراتها الداخلية أو وزنها ذاته.

السيناريو الثاني: نجاح الخطة جزئياً والتعثر في التقدم المرحلي

لا يخلو مسار تنفيذ الخطة من تحديات جوهرية ومعوقات حقيقية، تُقلّل من احتمالات نجاحها الكامل، بل تجعل من تحققها بشكل شامل أمرًا مستبعدًا في ظل المعطيات الراهنة. فبنود الخطة، بطابعها العام، وصيغتها الفضفاضة، قد تخضع لتفسيرات متباينة بين الأطراف، الأمر الذي يفتح الباب أمام خلافات لاحقة بشأن آليات التطبيق ومضامين الاتفاق. كما أن غياب إطار شامل يُمكّن من اعتبار الخطة خارطة طريق مكتملة لوقف الحرب وإدارة ترتيبات "اليوم التالي"، يُفقدها قوة الإلزام السياسي والواقعي. ومع تعقيدات المشهد الميداني، وطبيعة التفاوض المرحلي القابل للتأثر بالتطورات، تبقى احتمالات تغير مضمون الخطة قائمة.

وما يُعزز هذا التقدير، أن بيان حركة حماس الذي تضمّن موافقة جزئية، يُشير – ولو بطريقة غير مباشرة – إلى رفض غالبية البنود الجوهرية الواردة في "خطة ترامب"، لا سيما تلك المتعلقة بتسليم السلاح، وترتيبات الحُكم والإدارة في قطاع غزة بعد الحرب. في المقابل، تُواصل إسرائيل تمسّكها بأهدافها المُعلنة، وعلى رأسها تفكيك القدرات العسكرية لحماس، وفرض ترتيبات أمنية وإدارية جديدة تُعيد رسم المشهد في غزة بما يتوافق مع رؤيتها الاستراتيجية. وبذلك وبينما تبدو احتمالات إنجاز المرحلة الأولى من الخطة مرتفعة إلى حد كبير، فإن وتيرة التنفيذ تتناقص تدريجيًا مع التقدم في المراحل التالية، حيث تنخفض فرص إنجاز كل مرحلة أو بند لاحق بشكل ملحوظ، بفعل تزايد التعقيدات السياسية والميدانية، واتساع مساحة الخلافات حول التفاصيل الجوهرية التي تتطلب توافقات أعمق وضمانات أقوى.

في هذا السياق، سوف يدفع مسار الحرب نحو حالة من الجمود الميداني والتعثر السياسي، حيث تتحول جولات التفاوض إلى كرات متبادلة من المماطلة والتفسير المتناقض. واستمرار هذا الجمود يضع قطاع غزة أمام مسارين اثنين لا ثالث لهما: إما العودة إلى الحرب والمواجهة العسكرية المفتوحة، أو الانزلاق نحو واقع هش وغير منظم، يعتمد فيه المجتمع الغزي على المساعدات الإنسانية، دون وجود منظومة حُكم مستقرة أو بنية إدارية قادرة على إدارة الشأن العام. وفي كلا المسارين، تبدو قدرة حركة حماس على ضبط المشهد الداخلي في تراجع، مع تآكل تأثيرها التنظيمي وتنامي الضغوط الميدانية والسياسية التي تُحاصرها من الداخل والخارج.

هل-تنجح-خطة-ترامب-في-وقف-إطلاق-النار-وتحقيق-السلام-in-4.jpg

السيناريو الثالث: تعثر الخطة كُليا والعودة إلى الحرب من جديد

يعكس نمط التفاوض المرحلي، منذ اندلاع الحرب وحتى طرح "خطة ترامب"، نمطًا متكررًا من التعقيد والتصلب في المواقف، إلى جانب اتساع هوّة الشكوك وسوء الفهم بين الأطراف. وهذه السمات لم تقتصر على مسار غزة فحسب، بل طالت ملفات إقليمية أخرى، أبرزها تعثر المفاوضات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني بين أبريل ويونيو 2025، وهو التعثر الذي سبق توجيه الولايات المتحدة ضربة عسكرية مباشرة ضد المنشآت النووية الإيرانية.

كما يُظهر اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، المُوقع في نوفمبر 2024، محدودية فاعليته، إذ لم ينجح حتى الآن في تحقيق الهدف الأساس المتمثل في نزع سلاح حزب الله، الذي لا يزال يُراهن على كسب الوقت والمماطلة في التنفيذ. وعليه، يبدو أن التحديات ذاتها باتت تؤثر على مسار التفاوض المرتبط بقطاع غزة، حيث تُنذر المؤشرات الحالية بإمكانية تعثر العملية السياسية المقبلة، نتيجة تكرار النمط ذاته من الشروط المسبقة، والجمود في المواقف، والافتقار إلى ضمانات تنفيذ واضحة وملزمة.

في الواقع، يكشف رد حركة حماس عن سعي واضح لتكرار نموذج حزب الله اللبناني، من حيث الدفع نحو وقف الحرب كأولوية أولى، ثم الدخول في مسار تفاوضي مطوّل يتيح لها المماطلة في تنفيذ بند تسليم السلاح، مع الإبقاء على قدراتها العسكرية حتى في حال عدم مشاركتها في منظومة الحكم والإدارة داخل قطاع غزة. ويُشكّل هذا مصدر قلق استراتيجي لإسرائيل، بالإضافة إلى ما يترتب عنه من تعقيد للترتيبات الأمنية والسياسية لمرحلة ما بعد الحرب، وهو ما تحاول إسرائيل تفاديه بكل الوسائل، إذ صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه في المرحلة الثانية سيتم نزع سلاح حماس وغزة بالدبلوماسية أو العمل العسكري.

في المٌقابل، تسعى إسرائيل إلى الإبقاء على سيطرتها الأمنية في قطاع غزة، وحتى انتشارها العسكري في مواقع استراتيجية من القطاع، وتُشير المعطيات بأن الخريطة المحدثة تُحافظ على السيطرة الإسرائيلية على رفح ومحور فيلادلفيا وثلثي خانيونس، ومن الشمال بيت حانون وبيت لاهيا بالكامل، ومن المؤكد أن حركة حماس ستنظر إلى ذلك كأحد أوجه الاحتلال العسكري.

وحيث شكل تمسك حركة حماس وإسرائيل بموقفيهما من تلك القضاياعاملاً رئيسًا في استمرار الحرب حتى اللحظة، فإن هذا الجمود يُعزز من احتمالات تجدد المواجهة العسكرية في حال فشل المسار التفاوضي أو انهيار تنفيذ أي من مراحله. فغياب المرونة السياسية، وعمق الانقسام حول الأولويات، وغياب الثقة المتبادلة، يجعل من أي اتفاق محتمل هشًا بطبيعته، وقابلًا للانهيار السريع مع أول اختبار ميداني أو سياسي.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات