التنافس التكنولوجي: الغرب يسابق بكين

يعتبر التطور التكنولوجي في مجال شبكات الاتصال والتقنيات بشكل عام، من أبرز الملفات التي تحظى باهتمام العواصم المركزية في العالم، لما له من أهمية مستقبلية متعلقة بإمكانية إعادة رسم نفوذ دولة رئيسية على حساب أخرى في المجالات العسكرية والاقتصادية. تستعرض المادة أبرز ملامح التنافس التكنولوجي بين الدول الغربية والصين، مع تبيان أبرز محطات هذا التنافس وأفقه في المدى القريب.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١٧‏/٠٨‏/٢٠٢٠

هذه المادة الخامسة من سلسلة المواد التي يجري نشرها تباعاً ضمن ملف "أوراق على طاولة الـ G7"

على الرغم من توقيع اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في يناير 2020 كتهدئة للحرب التجارية التي اندلعت بينهما منذ مارس 2018، إلا أن الموقف الأمريكي لم يتغير تجاه شركات التكنولوجيا الصينية وأنشطتها في البلدان الغربية بشكل عام؛ بحجة أن هذه الشركات تمارس التجسس على المواطنين الأوروبيين والأمريكيين من خلال تواجدها الاقتصادي الذي تعتبره الإدارة الأمريكية مُهدِداً للمصالح القومية للدولة التي تسمح به.

يُعتبر التنافس على تطوير شبكات الجيل الخامس المحورَ الرئيسي للحملة الأمريكية على شركات التكنولوجيا الصينية، حيث أن شركة "Huawei" الصينية تتفوق فنياً في هذا المجال على مستوى العالم، وهذا ما يجعل بكين تتقدم خطوة على نظرائها الغربيين في الميادين العسكرية والاقتصادية، نظراً لما يُتيحه هذا الجيل الثوري الجديد من شبكات الاتصالات، من تحقيق قفزات نوعية في مختلف المجالات.

تمكنت شركات مثل: "Qualcomm"، و"Nokia"، و"Ericsson"، و"Cisco Systems"، وغيرها، من الحصول على تقنية الـ "5G"، إلا أنها تفتقد - إلى حد ما - للبنية التحتية والأدوات التشغيلية لهذه التقنية، كما أن المرسلات والمستقبلات في إطار شبكة من الجيل الخامس، التي سيتم تصنيعها من قبل الشركات المذكورة، ستكون أعلى تكلفة بالمقارنة مع نظيرتها الصينية؛ ما يعني بالضرورة انخفاض تنافسيتها في السوق.

وتقدر شركة "Qualcomm" قيمة النشاطات التي ترتبط بتكنولوجيا الجيل الخامس بأنها ستصل إلى نحو 3.6 تريليون دولار بحلول عام 2035، بالإضافة إلى تأمينها ما يقارب من الـ 22.3 مليون وظيفة؛ هذه الأرقام وغيرها تجعل السباق من أجل تطوير وتشغيل هذه التكنولوجيا يكتسب أبعاداً اقتصادية واجتماعية في غاية الأهمية، وتُعمق الخلاف حول الأسبقية الإلكترونية بين الصين والدول الغربية.

النزاع التكنولوجي يُضعف التنسيق الاقتصادي العالمي

في ثنايا الخلاف التجاري بين بكين وواشنطن، هناك نزاع على جميع بنود ملف التطوير التكنولوجي في مجالات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وصناعة أشباه الموصلات، وشبكات التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى إنشاء الحواسيب الفائقة "Supercomputers"، وعسكرة الفضاء. وأدى قيام الإدارة الأمريكية الحالية بإعادة صياغة قواعد التجارة العالمية بشكل أحادي - كما يرى البعض - إلى تأجيج السباق نحو تطوير مختلف الحقول التكنولوجية التي ستمنح محتكرها اليد العليا في قضايا عدة ابتداء بتعظيم النفوذ العالمي من خلال التوسع في الاستثمارات وليس انتهاء بتطوير القدرات العسكرية.

لم ينجح الاتحاد الأوروبي بشكل عام، في أن يفرض نفسه في المنافسة الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول آسيوية (الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان) بالأخص في مجال الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات والاتصال؛ مما أدى إلى إنفاق كبير على استيراد المعدات التكنولوجية من تلك البلدان على حساب دعم الخدمات العامة من بنى تحتية وتعليم وطبابة. بالإضافة إلى أن ذلك يهدد بعدم القدرة المستقبلية على مواكبة أنماط جديدة من التصنيع الذي في جوهره يعتمد على التكنولوجيا المتطورة؛ وإن مؤسسات الاتحاد ليست غافلة عن هذا، بل هي تعترف بهذا التأخر؛ وكدليل على ذلك، تسعى المفوضية الأوروبية برئاسة، أورسولا فون دير لاين، إلى طرح استراتيجية صناعية متجددة، خُصص فيها مبلغ 3.2 مليار يورو لدعم البحث والتطوير في مجال صناعة البطاريات، في إطار بحث الاتحاد الأوروبي عن خصوصية سلعية في عصر "التكنيك" عالي التعقيد.

في تاريخ 14 يوليو 2020، اتخذت الحكومة البريطانية قراراً يقضي بحظر عمل شركة "Huawei" في المملكة المتحدة، حيث منعتها من المشاركة في تطوير تكنولوجيا الـ "5G"، إلى جانب إلزام الشركات البريطانية بالتخلص من جميع المعدات التي وردتها الشركات الصينية. وقامت أستراليا بخطوة مماثلة في أغسطس 2018، وهنا يظهر بشكل أو بآخر تأثير خطاب واشنطن الداعي إلى توحيد الجهود ضد التفوق الصيني.

كما وأعلنت المفوضية الأوروبية في يوليو 2020 عن استعداد شركتي "Nokia"، و"Ericsson" لتزويد الاتحاد الأوروبي بالبنية التحتية لشبكة الجيل الخامس في حال ظهرت ضرورة "أمنية" تقضي بالتخلي عن الشركات الصينية كمُورد أساسي لتقنيات الـ "5G"، ويمكن فهم هذا التصريح على أنه تهديد أوروبي بإمكانية التخلي عن الاستثمارات الصينية كما فعلت لندن، وهذا قد يكون بالاستناد على تحالف "Open Ran Policy Coalition" الذي تأسس في مايو 2020، ليضم أكثر من 30 شركة أوروبية وأمريكية متخصصة في البرمجة وتكنولوجيا الاتصالات وأنظمة البث والإرسال، حيث يهدف هذا التحالف إلى إيجاد بديل عن "Huawei" بالنسبة للدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.

في المقابل، أعلنت الحكومة الصينية في ديسمبر 2019 عن البدء في استبدال جميع الحواسيب والبرامج التشغيلية التابعة لها في المؤسسات الحكومية بأخرى محلية الصنع، كرد على التعامل غير المتسق مع قواعد التجارة العالمية وحرية انتقال الاستثمارات تجاه شركات التكنولوجيا الصينية، وهذا ما يدفع الأخيرة لتتطلع إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من جميع السلع الأجنبية التي تدخل في عملية تطوير التكنولوجيا الصينية، والتي - أي عملية التطوير - تندرج في هذا السياق ضمن استراتيجية "صنع في الصين 2025" التي أطلقتها السلطات الصينية عام 2015.

وكاستنتاج مبدئي؛ ترفض واشنطن بالاستناد على "تخوفات" أوروبية، الاستثمارات التكنولوجية الصينية، ما يدفع بكين للبحث عن دول ومناطق أخرى في العالم من شأنها أن تحتضن الاستثمارات الصينية، والانفصال بالتدريج عن مفاهيم التجارة الحرة، وبالتالي سيكون هذا بمثابة تبعثر لأي مساعي تهدف إلى تركيز الجهود وتوحيدها في إطار عمل مشترك وأممي لتطوير هذا القطاع المهم وذي الأفق المستقبلي؛ أي قطاع التكنولوجيا بحقولها المختلفة.

وحتى على مستوى تطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي الصينية، تتخوف الإدارة الأمريكية من تطبيق "TikTok" المخصص لتبادل الفيديوهات القصيرة والمملوك لشركة "ByteDance"، ومن تطبيق "WeChat" للدردشة المملوك لشركة "Tencent"، باعتبار إمكانية أن تكون مثل هذه التطبيقات "أنشطة تجسسية"؛ حيث أطلق الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مرسوماً تنفيذياً يقضي بحظر التعامل المالي مع هذين التطبيقين في الولايات المتحدة الأمريكية بعد 45 يوماً يتم خلالها التفاوض بين ممثلي الشركتين الصينيتين من جهة وبين شركة "Microsoft" الأمريكية من جهة أخرى؛ وذلك بهدف استلام الأخيرة لملكية أعمال الشركتين - بما فيهما التطبيقين المذكورين آنفاً - في كل من: الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا؛ عبر صفقة تقدر قيمتها بـ 30 مليار دولار.

النقد الرقمي

في أبريل 2019، أعلن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي "Facebook" عن مشروع إطلاق عملته الرقمية الليبرا، لتسهيل عملية تحويل النقود بين الأفراد، بالاستفادة من قاعدة مكونة من مئات ملايين المستخدمين حول العالم، إلا أن المشروع اصطدم بمعارضة رسمية من قبل مؤسسات تنفيذية وتشريعية أمريكية؛ ما حال دون أن يرى هذا المشروع النور.

لا يمكن اعتبار أن مشروع الليبرا قد فشل، لكن من المؤكد أنه يواجه مشكلة في التنسيق مع المؤسسات العامة والخاصة صاحبة الدور في ضبط السياسة النقدية والمالية الأمريكية مثل وزارة الخزانة، والاحتياطي الفدرالي. وفي حالة عدم الخروج من إشكالية التنسيق هذه، والوصول إلى تفاهم يعمل على توظيف قدرات شركات التكنولوجيا الأمريكية في المجال النقدي، سيكون من الممكن تلخيص المشهد القادم بالتالي:

تأخر الولايات المتحدة الأمريكية في أن تكون رائدة في مجال النقد الرقمي لحساب دول أخرى مثل الصين؛ التي أطلقت عملتها الرقمية بالفعل في مايو 2020 بينما ينشغل العالم منذ ذلك الحين وحتى الآن في مكافحة فيروس "كورونا" المستجد. ويحتكر البنك المركزي الصيني إطلاق العملة مستنداً على قاعدة محلية وإقليمية متطورة من منظومة الدفع الإلكتروني التي يطورها كل من: شركة التجارة الإلكترونية الضخمة "Alibaba"، وشركة تكنولوجيا المعلومات الرائدة  "Tencent"، كما أعلن البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا أنهما يبحثان في إطلاق عملة رقمية جديدة بالتنسيق مع بنوك مركزية أخرى موجودة في كل من: اليابان، والسويد، وسويسرا.

إن طرح البنوك المركزية لعملات رقمية سيؤدي إلى تزايد الإقبال على العملات المشفرة أيضاً الناتج عن ازدياد الوعي بوسائل الدفع غير التقليدية، وهذا قد يؤدي إلى أن تكون العملات المشفرة مُقبلة على مرحلة من الاستقرار النسبي، وبالتالي كلما تأخر إصدار عملة الليبرا؛ سيكون من الصعب عليها أن تفرض نفسها بقوة بسبب وجود العديد من الخيارات الأخرى الموزعة بين عملات مشفرة وأخرى صادرة عن جهات رسمية.

بعد هذا العرض الموجز، يتبين أنه أمام دول مجموعة السبع ملف شائك لدرجة كبيرة متعلق برسم معالم الخارطة التكنولوجية في العالم ككل، والتي سيكون لها القول الفصل في تحديد "ميكانيزمات" الإنتاج الاقتصادي الاجتماعي وما يتلوه من حامل سياسي وثقافي؛ فهل سيكون للتعاون مع بكين في المجال التكنولوجي فرصة لشعوب العالم لإيجاد "صيغة تقنية" متفق عليها بين الجميع؟ الإجابة على هذا السؤال محسومة لصالح المعارضة الأمريكية على الأقل، التي ليس بالضرورة أن تتفق عليها جميع الدول داخل مجموعة السبع أو خارجها.

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات