السوشيال ميديا: توجيه للناخب أم مجرد تفاعل للآراء؟

"انتقلت وسائل التواصل الاجتماعي من كونها بنية تحتية طبيعية لمشاركة الأحزان الجماعية وتنسيق الأنشطة المدنية إلى كونها أداة حسابية لتحقيق سيطرة اجتماعية، يتلاعب بها مستشارون سياسيون يتسمون بالدهاء، يستعين بهم الساسة في الأنظمة الديمقراطية والديكتاتورية على حد سواء". هذا ما جاء في تقرير أعدّه مشروع الدعاية الحاسوبية التابع لجامعة أوكسفورد وشركة "غرافيكا" لتحليل شبكات التواصل الاجتماعي حول توظيف جهات روسية شبه حكومية لجميع منصات التواصل الاجتماعي الكبرى بهدف التدخل في مسار الانتخابات الأمريكية الرئاسية عام 2016. ويسلط التقرير التالي الضوءَ على دور "السوشيال ميديا" في انتخابات 2020 وكيف يُمكن لها أن تؤدي دوراً حاسماً في توجيه الناخب الأمريكي.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٠١‏/١١‏/٢٠٢٠

* هذه هي المادة السادسة والأخيرة من ضمن سلسلة مقالات وأوراق نُشرت تباعاً، ناقشت جوانب معينة من الأبعاد الداخلية والخارجية للانتخابات الأمريكية المقبلة.

تشهد الإعلانات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية كثافةً هذا العام، حيث تجري الانتخابات الرئاسية وانتخابات جزئية لتجديد أعضاء مجلس الشيوخ في بعض الولايات. وتنبع هذه الكثافة من "ضراوة" الانتخابات التي تجري في ظروف غير مسبوقة فاقم من حدتها تفشي فيروس "كورونا" المستجد والانقسام الحزبي والمجتمعي، مما حوّل وسائل التواصل الاجتماعي إلى ميدان "تقليدي" للسجالات المتبادلة بين كلا المعسكريْن: الجمهوري بقيادة الرئيس، دونالد ترامب، والديمقراطي بقيادة نائب الرئيس السابق، جو بايدن.

وتوقعت مجموعة "KANTAR/CMAG" المختصة في رصد الإعلانات السياسية، أن يصل الإنفاق على الإعلانات السياسية الانتخابية هذا العام إلى 7 مليار دولار، 1.8 مليار دولار منها ستذهب للإعلام الرقمي الذي يرتكز على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي طفرةً في أساليب التواصل السياسي، فلم يعد إيصال الرسالة ونشر البرنامج الانتخابي يتطلب تواصلاً جسدياً مباشراً، إذ يحقق "Post" أو "Tweet" تفاعلاً أضعاف ما قد يحققه تجمع انتخابي مؤيد، لا بل قد يكون التفاعل الإلكتروني أنجع من حيث القدرة على استيعاب التغذية الراجعة وإجابة الفريق الإعلامي للمرشح الذي يدير صفحاته الافتراضية على التساؤلات المطروحة.

نظرياً، يمكن إسقاط النظرية النقدية "Critical Theory" على دور وسائل التواصل الاجتماعي في العملية الانتخابية؛ حيث تفترض هذه النظرية تشكيل المجموعات البشرية لـ "كل جمعي" يشترك في القيم والنظرة للقضايا المختلفة، ومن ثم ينقُل هذا الكل الجمعي رؤيته من المجال الاجتماعي إلى السياسي عبر النظام السياسي الذي يتم انتخاب قياداته من مختلف المجموعات في الدولة.

إن جوهر التحفيز الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي هو السرعة والتفاعلية العالية والربط بين المستخدمين، مما مكّن هذه المجموعات من التقارب وإنضاج كل جمعي خاص بها. وبالطبع لم تُصمَّم هذه النظرية لنمذجة العملية الانتخابية وإنما حاولت تفسير العلاقة بين ما هو اجتماعي وبين ما هو سياسي في بيئة محلية ودولية لا يمكن التيقن من مسار الأحداث فيها.

أما عملياً، فتؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في توجيه الناخبين، لا سيما المترددين غير المنتسبين لحزب والذين لا يحسمون قرارهم التصويتي إلا في مراحل متأخرة قبل يوم الاقتراع. ولربما تنجح الإعلانات السياسية عبر "الإعلام الحديث" في استقطاب هؤلاء المترددين نظراً لبساطتها وحياديتها الظاهرية، وهي بالتالي "نفسياً" أكثر مصداقية من وسائل الإعلام التقليدية، رغم أن معظم المراقبين يُجمعون على أن أدوات التواصل الافتراضي مليئة بالإشاعات ويمكن التلاعب بها وهندستها لتوجيه الناخب نحو وجهة معينة.

وفي هذا الصدد، لطالما أكدت مجالس إدارات هذه الشركات التزامها بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع وأنها منصات مفتوحة للتعبير المباشر عن الرأي، فهي "من الشعب إلى الشعب"، وبالفعل أضحت هذه المنصات مقياساً دقيقاً للمناخ العام وأداةً مهمة لصناعة الرأي العام، وإن كان التعريف الكلاسيكي لشرعية النظام السياسي التي هي أساس سيادة الدولة "من الشعب إلى الشعب" فإن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تمثل شرعية افتراضية لا تقل أهمية عن الشرعية المؤسسية.

ولا يعني ذلك أن الترويج السياسي عبر هذه الوسائل غير محفوف بالمخاطر، ذلك أن "الهفوة" فيها تُبث مباشرةً وتدخل في "Trend" التفاعل اليومي أو الأسبوعي وتتحول إلى مادة للسخرية من الطرف المقابل، فيكفي لمقطع فيديو مدته عشرات من الثواني فقط أن يستنزف وقتاً ثميناً لتدارك تداعياته أو أن يطيح بجزء من مصداقية طرح أحد المرشحين، حيث سهّل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وإقبال الأمريكيين عليها من إمكانية شن "حملة معاكسة" تستهدف تقويض الثقة بالمرشح المقابل.

وهنالك مخاوف مبررة لدى المرشحين - سواء للرئاسة أو للسلطة التشريعية – من التعرض لتفاعل سلبي، مما قد يضغط على مسار الحملة ويزيد من حالة التوتر، لذلك تُدار الحملات الإعلانية بدقة من قبل شركات متخصصة ووفق هرمية معينة تسبق النقر على زر النشر، فالخطأ ممنوع.

(الأخبار المزيفة)  VS (الإعلام الحقيقي)

بنظرة سريعة على صفحة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يُلاحَظ أن كثيراً من منشوراته تتهم وسائل الإعلام التقليدية الأمريكية بالانحياز إلى المرشح الديمقراطي، جو بايدن، ويحاول ترامب توجيه الرأي العام ليس ضد بايدن وإنما ضد كبرى وسائل الإعلام، فلا يتردد عبر صفحتيه على تويتر وفيسبوك اللتين بلغ عدد المشتركين فيهما حتى 28 أكتوبر 2020، 87.3 مليون، و30.5 مليون، على الترتيب، في إظهار نفسه كأنه يتعرض لظلم ممنهج ومتعمد من هذه الوسائل، محاولاً استثارة عواطف مؤيديه والمترددين واستغلال انخفاض ثقة تيار عريض من الأمريكيين بوسائل الإعلام التقليدية.

وقد أكد ترامب على دور وسائل التواصل الاجتماعي في عرض رؤاه وتصريحاته بالأسلوب الذي يعده ويخرجه هو، فقد انسحب فجأةً من مقابلة قيد التصوير يجريها برنامج "60 MINUTES" الذي يُبث على قناة "CBS"، وأظهر مقطع فيديو بثته صفحة البرنامج على تويتر في 26 أكتوبر 2020 أن ترامب امتعض من الأسئلة التي طُرحت عليه، وعند سؤاله حول ما إذا كان استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى تشتيت الناس، أجاب: "لا، أعتقد أنني لن أكون هنا إذا لم تكن لدي وسائل تواصل اجتماعي. الإعلام مزيف. وبصراحة، إذا لم تكن لدي وسائل التواصل الاجتماعي، فلن تكون لدي أية طريقة لإخراج صوتي".

swshal-mydya-tramb-swrt-dakhlyt-3.jpg

ورغم أهمية هذه المواقع، بحسب ما جاء في تصريح ترامب أعلاه، إلا أن علاقته لم تكن جيدة - بألطف التوصيفات - مع إدارات مواقع التواصل وسياسات النشر التي تتبعها، فقد وقّع أمراً تنفيذياً في مايو 2020 يُقلّص من الحماية القانونية الممنوحة لهذه المواقع ويغيّر وضعها القانوني من منتدى غير مسؤول عن منشورات المستخدمين إلى دار نشر مسؤولة قانونياً عنها، فبموجب قانون آداب الاتصالات – القسم 230، لا تعد منصات التواصل الافتراضي مسؤولةً عن المحتوى المنشور، مع السماح لها بإجراء "حجب لأغراض المحافظة" مثل حجب المحتوى الإباحي أو العنيف.

وقد جاء تهديد ترامب بإلغاء هذه الميزة القانونية بعد إضافة تويتر تحذيراً يدعو إلى ضرورة مراجعة الحقائق على إحدى تغريداته، وهي المرة الأولى التي يقوم فيها الموقع بإضافة "Fact-Check Label". وقد جاء في التغريدة أن التصويت عبر البريد لا يمكن إلا وأن يكون احتيالاً بدرجة كبيرة.

وتمر إدارات هذه المنصات في ما يُمكن وصفه بأنه "حالة طوارئ" تملي عليها مسؤوليات كبيرة لرصد وحجب المحتوى الداعي إلى العنف، حيث تجري هذه الانتخابات وسط حالة من التوتر العرقي في بعض المقاطعات، ناهيك عن التبادل اليومي للاتهامات بين كلا المعسكريْن "الجمهوري والديمقراطي" مما زاد من انتشار الشائعات. وقد أبدى بايدن انتقاده المتكرر لهذه المنصات لا سيما "Facebook" التي اتهمها بـ "الفشل في وقف انتشار المعلومات المضللة والمؤامرات والإعلانات المليئة بالكذب".

وتؤكد إدارات هذه المنصات على قيامها بكثير من الخطوات والإجراءات كي تكون بيئة سياسية آمنة لا تُستغل لغايات التحريض السلبي للجمهور. فمثلاً يضيف "Facebook" علامة تدعو إلى زيارة "مركز معلومات التصويت" على منشورات تتطرق إلى العملية الانتخابية وعلى كل المنشورات المدرجة على صفحات حزبيّين بارزين مثل ترامب وبايدن. كما أكدت إدارة المنصة على أنها ستزيل المحتوى المتعلق بنتيجة الانتخابات النهائية ما لم تكن هذه الأخيرة قد أُعلنت رسمياً، فثمّة مخاوف من لجوء طرف في يوم الاقتراع إلى سبق الإعلان عن الفوز لتحريك أنصاره للاحتفال دون أن يكون قد حقق الفوز فعلياً، ومثل هكذا سيناريو - إعلان طرف فوزه "المضلل" - قد يزيد من درجة رفض مؤيديه لنتائج الانتخابات الحقيقية مما سيخلق ضغطاً عاماً نحو التشكيك بنتائج الانتخابات والدخول في دوامة قد تتسبب باهتزازات دستورية وأمنية واسعة النطاق.

وبالإضافة إلى السيطرة على المحتوى السلبي؛ فإن مواقع التواصل الاجتماعي أمام تحدٍ آخر يتعلق بالأمن السيبراني ورفع قدراتها في التصدي لأي تلاعب ممنهج ومدروس قد تقوم به جهات خارجية. وقد خلُص تحقيق "مولر" الذي أجراه الادعاء العام الأمريكي إلى ضلوع عناصر في المخابرات العسكرية الروسية في عملية اختراق خوادم الحزب الديمقراطي عبر حملة على مواقع التواصل الاجتماعي.

والتحقيق جاء بعد شكوك "ديمقراطية" بوجود تنسيق بين أعضاء بارزين في حملة ترامب الانتخابية وبين جهات رسمية روسية في خضم الانتخابات الرئاسية السابقة، ولم يثبت التقرير وجود "أي تواطئ جنائي" بين حملة ترامب وموسكو.

وفي مارس 2018، اهتزت أسهم شركة "Facebook" على وقع ما وُصف بأنه فضيحة دارت رحاها من خلال دراسة نفسية أجرتها شركة "Cambridge Analytica" للاستشارات السياسية ووُظّفت هذه الدراسة لتوجيه إعلانات سياسية محددة بهدف التأثير على القرارات التصويتية للناخبين الأمريكيين.

ولم يستطع الرئيس التنفيذي للشركة، مارك زوكربيرغ، سوى الاعتراف بأن هنالك طرفاً ثالثاً استغل بيانات وخصوصية مستخدمي الموقع لغايات سياسية، ورغم ما عرضه الدفاع القانوني من استحالة ضبط أنشطة وسلوك المعلنين عبر الموقع؛ إلا أن المفوضية الفيدرالية للتجارة الأمريكية قضت في يوليو 2019 بدفع الشركة غرامة قدرها 5 مليار دولار كتعويض عن انتهاك خصوصية 87 مليون مستخدم، كما فرضت هيئة تنظيم البيانات في إنجلترا على عملاق التواصل الاجتماعي أقصى غرامة يمكن فرضها وهي 500 ألف باوند.

وخلاصة القول؛ قد تكون كل العوامل المؤثرة في هذه الجولة الانتخابية ضبابية بحيث أنها قد تصب في صالح هذا المرشح أو ذاك. ولكن لوسائل التواصل الافتراضي سطوة على المشهد الانتخابي حيث توجه من يديرها لكسب السباق الانتخابي. ففي عصر "البيانات الضخمة – Big Data" من يسيطر على المعلومات، يسيطر على الانتخابات، لأنه ببساطة سيمتلك زمام المبادرة المنبثقة من قراءة واثقة وناجعة للموقف، وهي القراءة التي تتطلب خوارزميات معينة من الذكاء الاصطناعي نظراً لاستحالة قيام العنصر البشري بعمليات معالجة فائقة السرعة لهذه "البيانات الضخمة".

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات