نقل قوات أم إعادة توزيع الثقل الاستراتيجي الأمريكي في أوروبا؟

يقدم هذا التقرير قراءة لقرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، حول سحب 9500 جندي أمريكي من ألمانيا، ويبحث في أهم دوافع هذا القرار على ضوء الخلاف الأمريكي – الأوروبي، وتنامي الحضور الصيني والروسي في المشهد الدولي. كما حاول التقرير تقديم لمحة استشرافية لمستقبل تماسك حلف الناتو في بيئة دولية شديدة الديناميكية.

الكاتب بلال العضايلة
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٠٩‏/٠٧‏/٢٠٢٠

أكد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 15 يونيو 2020 على تقليص عدد القوات الأمريكية المنتشرة في ألمانيا إلى 25 ألف جندي؛ عازياً السبب في تصريحات أدلاها من البيت الأبيض إلى تأخر برلين في سداد مساهماتها المالية في حلف الناتو.

فمنذ اعتلاء ترامب لسدة الحكم، مارس ضغوطاً على الحلفاء - لا سيما دول الناتو الأوروبية - بهدف زيادة نسبة الإنفاق الدفاعي من مجموع الناتج الإجمالي المحلي لكل دولة، مفترضاً أن الولايات المتحدة تقدم خدمات حماية مجانية وبصورة غير عادلة.

وفي مؤتمر صحفي عُقد في البيت الأبيض على هامش زيارة الرئيس البولندي، أندريه دودا، إلى واشنطن في 24 يونيو 2020؛ كشف الرئيس الأمريكي عن أن بعضاً من القوات المنسحبة المقدّر عددها بـ 9500 جندي سيتم إعادتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في حين سيتم نشر البعض الآخر منها في أماكن أخرى مثل بولندا. وكانت السفارة الأمريكية في بولندا قد نشرت في 12 يونيو 2020 تغريدةً أكدت من خلالها على أن محادثات تعزيز الوجود الأمريكي في بولندا تسير على الطريق الصحيح، وأن هناك إعلاناً وشيكاً سيصدُر قريباً.

ويرجع الانتشار العسكري الأمريكي في ألمانيا إلى الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد هيمنة الحرب الباردة على مناخ العلاقات الدولية، إذ عبّر هذا الانتشار الاستراتيجي عن التزام أمريكي بتأمين نظام ردع للحلفاء الأوروبيين في وجه المخاطر النووية السوفييتية.

ووفقاً لما نشره موقع القوات الجوية الأمريكية؛ يبلغ عدد القوات الأمريكية في ألمانيا حالياً نحو 34500 جندي موزعين على 5 "حاميات". وباستعراض هذا التمركز، يُلاحظ وجود منشآت عسكرية حيوية أمريكية ذات بعد تشغيلي وعملياتي بارز، مثل حامية "شتوتغارت" التي تضم كلاً من: مقر القيادة الأمريكية في أوروبا "EUCOM"، ومقر القيادة الأمريكية في إفريقيا "AFRICOM"، وبذلك يمتد دور هذه الحامية اللوجستي إلى الشرق الأوسط وإلى أجزاء من آسيا وإفريقيا. كما يشتمل التواجد الأمريكي على مركز طبي ضخم عالج الجنود الأمريكيين من إصابات تعرضوا لها في العراق؛ وفقاً لما نشرته مجلة "Foreign Policy" في يونيو 2020. وتعد حامية "بومهولدر" المنشأة التي تستضيف أكبر عدد من القوات الأمريكية في قاعدة خارجية.

ويمتلك الحضور العسكري الأمريكي في ألمانيا بعداً نووياً رغم عدم "اعتراف" أي من الجانبين رسمياً بتخزين أسلحة نووية في ألمانيا. إلا أن وثيقة نُشرت بصورة "غير مقصودة" في يوليو 2019، كشفت عن تخزين أسلحة نووية في قاعدة "بوتشيل". والوثيقة هي عبارة عن مسودة تقرير بعنوان "عصر جديد للردع النووي؟ التحديث ومراقبة الأسلحة والقوات النووية المتحالفة"؛ أصدرته لجنة الدفاع والأمن التابعة للجمعية البرلمانية - غير الرسمية - لحلف الناتو. وتتداول تقارير إعلامية شبه مؤكدة (منها ما نُشر على موقع "Defense News") أن ألمانيا تحوي ما لا يقل عن 20 قنبلة متطورة من طراز "B61" في قاعدة "بوتشيل".

رغم هذا الانتشار الكثيف، إلا أن كثيرين لم يتفاجأوا بخطط الانسحاب الأمريكي، فالعلاقات الأمريكية الأوروبية في السنوات الماضية قد برزت خلافاتها إلى العلن، وهي – أي الخلافات – لا تقتصر على إطار تقني أو بروتوكولي فقط، وإنما تنطوي أيضاً على قضايا استراتيجية مثل الموقف من الملف النووي، ناهيك عن تباين التصورات حيال التهديدات الجيوستراتيجية الرئيسية؛ فالاتحاد الأوروبي يخالف واشنطن في اعتبار الصين وروسيا الخطر الأول الذي يواجه الأمن القومي، وبذلك لا يفضل الاتحاد "تخشين" سلوكه مع هاتين الدولتين. وقد نشر مركز ستراتيجيكس للدراسات والأبحاث في تقريره السنوي لعام 2019 مادة بعنوان "التنافس على قلب العالم" استشرف فيها بروز هوية سياسية أوروبية شبه مستقلة، استناداً على تحليل أبرز الخلافات على جانبي الأطلسي.

ولقراءة السحب المرتقب للقوات الأمريكية، فلا بد من تسليط الضوء على أهم دوافع هذا القرار، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:

1. مبدأ "أمريكا أولاً"

لم تكن عبارة "أمريكا أولاً" مجرد شعار في حملة ترامب الانتخابية لعام 2016، وإنما تحولت إلى سياسة عامة تبنتها إدارته، وتم تطويع المؤسسات الأمريكية لتتماشى مع توجهاتها، حتى لو تصادمت مع أسس السياسة الخارجية الأمريكية.

ووفقاً لهذا المبدأ، يجب أن تُوازَن أي كلفة يتكبدها الناخب الأمريكي بمكاسب مادية مقابلة على الصعيدين: التجاري أو العسكري. لذا؛ فقد طالب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، - ولا يزال - بإصرار من حلفائه بزيادة الإنفاق الدفاعي ضمن التحالفات والاتفاقيات المشتركة؛ مثل حلف الناتو أو القوات التي تنتشر في دول الشرق الأوسط والشرق الأقصى.

وفي هذا الظرف الدقيق الذي تواجه فيه الولايات المتحدة الأمريكية تبعات جائحة "كورونا"، فإن الدولة الأمريكية بحاجة إلى تسخير كل طاقاتها صوب الداخل الذي سئم من تنامي الإنفاق على ملفات خارجية يراها لا تعود بالنفع على أوضاعه المعيشية. وفي عام سيشهد انتخابات رئاسية ساخنة - ما لم تؤجل بفعل تفشي جديد لفيروس "كورونا" - هي أقرب ما تكون للاستفتاء على مدى رضا الأمريكيين عن الـ 4 سنوات التي قضاها ترامب كرئيس للبلاد؛ يحرص الأخير على التناغم مع قطاع عريض من جمهوره الذي يطالب بتسخير معظم القدرات الأمريكية صوب الداخل.

ففي تصريحه المشار إليه في مقدمة التقرير، اعتبر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن هنالك دولاً تستغل بلاده، واصفاً ألمانيا بأنها "أسوأ مستغل"؛ إذ يرى ترامب أن بلاده تخسر في تعاملها مع ألمانيا على صعيد التجارة، وحلف الناتو. ففيما يتعلق بحلف الناتو، ووفقاً لموقع "Trading Economics" تنفق ألمانيا نحو 1.2٪ من الناتج الإجمالي المحلي على الجانب العسكري، بينما تطالب واشنطن برفع هذه النسبة إلى 4٪. أما على الصعيد التجاري؛ فقد سجلت الولايات المتحدة الأمريكية عجزاً تجارياً مع ألمانيا بلغ نحو 67.3 مليار دولار؛ وفقاً لبيانات "United States Census".

لذا أضحى شعار "أمريكا أولاً" سمة أساسية لإدارة ترامب، رغم تعارض هذا التوجه مع تقييمات الخبراء الاستراتيجيين التي تربط الانتشار الدولي للقوات الأمريكية بدور واشنطن الريادي في فرض الأمن والسلم العالمي وفقاً للمصالح الأمريكية.

2. الضغط على عواصم صناعة القرار الأوروبي، وتقوية العلاقات مع دول متوسطة التأثير على حساب علاقات واشنطن مع العواصم التقليدية

شهدت المرحلة الماضية تنامي الخلافات الأمريكية الأوروبية على وقع انقسام حاد في الرؤى والمواقف. وقد بلغ هذا الخلاف ذروته العلنية عندما وصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ما يمر به حلف الناتو بحالة "الموت الدماغي" عازياً السبب في الدرجة الأولى إلى غياب القيادة الأمريكية، وهو ما دفعه إلى تجديد دعوته إلى أوروبا للبدء في العمل كقوة استراتيجية عالمية، كما جاء في مقابلة مثيرة للجدل أجراها مع مجلة "The Economist" في نوفمبر 2019 قبل انعقاد قمة احتفالية لحلف الناتو بمناسبة الذكرى الـ 70 على تأسيسه، وقد عبّر ترامب عن صدمته من هذه التصريحات التي وصفها بـ "المهينة" وبأنها "بغيضة لدرجة كبيرة جداً؛ بشكل رئيسي للدول الـ 28".

وعلى وقع تزايد التباعد بين ضفتي الأطلسي "الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية"، تدرك أوروبا مفصلية الدور الأمريكي الرادع في معادلة الأمن الأوروبي الاستراتيجي. لذلك، وتجنباً لتقلبات أمريكية مفاجئة، يسعى الاتحاد إلى بلورة "صندوق الدفاع الأوروبي" على أرض الواقع، بهدف "تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد"؛ وفقاً لموقع المفوضية الأوروبية.

ولأن محاور الخلاف الأوروبي الأمريكي عادةً ما تتعلق بدولة رئيسية - كفرنسا وألمانيا - فإن واشنطن ترغب من وراء إعادة تمركز قواتها الجزئي في بولندا – التي تعد دولة متوسطة التأثير – في تذكير العواصم الأوروبية بأن جعبة السياسة الخارجية الأمريكية تحمل دائماً البدائل الجاهزة عند الحاجة. وبذلك تشي الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية بأن المراجعة الشاملة الجارية لسياستها الخارجية لا تستثني حتى الحلفاء التقليديين.

وفيما يتعلق بإعادة توزيع الثقل الاستراتيجي الأمريكي على امتداد القارة، فعلى الاتحاد الأوروبي الاستعداد لأية سيناريوهات قصوى حتى لا يجد نفسه في مواجهة روسيا و/أو الصين دون وجود المظلة الأمنية الأمريكية.

3. ردع موسكو وتحسين الموقف التفاوضي الأمريكي في المعاهدات الاستراتيجية للحد من التسلح

اعترضت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على نقل قوات أمريكية من ألمانيا إلى بولندا الواقعة في المجال الحيوي الروسي، معتبرةً أن هذا النقل "سيُعقد من احتمالات قيام حوار بناء بين روسيا والناتو في المجالين العسكري والسياسي".

وقد قال صراحةً وزير الخارجية البولندي، ياسيك تشابوتوفيتش، في مقابلة أجراها في أغسطس 2019 مع وكالة "Polsat": إن نشر قوات في بولندا "سيلجِم روسيا" مقللاً بذلك من أهمية نشر قوات أمريكية في أوروبا الغربية مقارنةً بالشرقية الأقرب لروسيا.

ومن المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة، عودة عملياتية لبعض مظاهر سباق التسلح الذي كان سائداً زمنَ الحرب الباردة، نتيجةً لانسحاب واشنطن من بعض المعاهدات الثنائية والدولية المعنية بتقليص الأسلحة النووية - كما في معاهدة الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى التي وقعت بين الولايات المتحدة وروسيا - وبزيادة درجة الثقة واليقين في العلاقات الدولية؛ كما في معاهدة الأجواء المفتوحة متعددة الأطراف.

تبرر واشنطن انسحابها من مثل هكذا معاهدات، بعدم امتثال الطرف الروسي لبنودها، إلا أن بعض المراقبين يُرجع غاية واشنطن من هكذا انسحابات، إلى الحرص الأمريكي على بناء معاهدات استراتيجية جديدة تكون الصين أحد أطرافها؛ نظراً لصعود قوتها العسكرية والاقتصادية واقترابها من تحقيق نوع من التكافؤ مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات حيوية.

لذلك ستسعى واشنطن إلى الضغط على بكين وموسكو من أجل صياغة معاهدة استراتيجية عسكرية شاملة، على غرار معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة "New START" الثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2011، وتنتهي فترة سريانها نهاية عام 2021، ولا يُتوقع إقدام واشنطن على تمديد المعاهدة بصورتها الحالية؛ رغبةً منها في صياغة معاهدة جديدة تكن الصين أحد أطرافها.

4. خلافات ترامب – ميركل

إن التسريبات الصحفية حول خفض مرتقب للقوات الأمريكية العاملة في ألمانيا، قد سبقها انتقاد المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لأسلوب ترامب السياسي "المثير للجدل"؛ داعيةً السياسيين إلى محاولة التقريب بين الناس؛ كما جاء في إجابتها على سؤال يتعلق بمقتل الأمريكي من أصول إفريقية، جورج فلويد، في مقابلة أجرتها قناة "ZDF" معها في تاريخ 4 يونيو 2020.

بالطبع هذه ليست هي المرة الأولى التي تبرز فيها خلافات ترامب - ميركل إلى العلن، حيث ترى الإدارة الأمريكية أن المستشارة الألمانية متساهلة في تعاملها مع التهديد الروسي، ويتجلى ذلك في سماح برلين بمد أنبوب ضخم للغاز الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا ضمن مشروع "Nord Stream 2"، وهو ما رفضته واشنطن داعيةً القارة الأوروبية إلى تقليص اعتمادها على الغاز الروسي لتلبية احتياجاتها من الطاقة.

ومن أجل عرقلة مشاريع الغاز الروسية في أوروبا؛ صادق الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في ديسمبر 2019 على قانون عقوبات يشمل الشركات والسفن المنخرطة في مشروع "Nord Stream 2". وقد اعتبرت المتحدثة باسم المستشارة الألمانية، أولريكي ديمير، أن هذه العقوبات تشكل "تدخلاً في شؤوننا الداخلية".

ويظهر خلاف ترامب - ميركل في قضايا أخرى عديدة؛ مثل دعوة ميركل إلى انتهاج سياسات منفتحة في التجارة الدولية وفي اللجوء الإنساني، على النقيض من ترامب الذي يتبنى سياسات توصف أحياناً بالانعزالية أو الحمائية. وقد انعكس عدم الانسجام بين الشخصيتين بصورة أو بأخرى على علاقات بلديهما المشتركة، لأن عدم الانسجام هذا يُعبر عن خلاف بين ثقافتين، وبالتالي بين نخبتين.

5. تعزيز الحضور الأمريكي في أوروبا الوسطى

تعد بولندا من دول أوروبا الوسطى التي يجري فيها نشر عناصر الدرع الصاروخي الأمريكي المضاد للصواريخ في أوروبا. وقد تسبب هذا المشروع باعتراضات روسية انعكست على طبيعة العلاقات التي تربطها مع الدول التي تم نشر أجزاء من المنظومة الأمريكية على أراضيها. لذا تستشعر بولندا تهديداً روسياً لا ترغب في أن يداهمها دون وجود قوات حليفة يُعتد بها، وبالتالي ستعزز القوات الأمريكية في بولندا من متانة الموقف البولندي على الساحة السياسية، وستُسهم في التمركز أكثر قرب روسيا، كما جاء في نقطة 3.

كما يمكن تقييم الخطوة الأمريكية من منظور أيديولوجي، إذ يُصنَّف حزب القانون والعدالة الذي ينتمي إليه الرئيس البولندي، أندريه دودا، على أنه يميني محافظ ولديه ميول شعبوية. وجاءت زيارة دودا إلى واشنطن قبيل جولة أولى من الانتخابات الرئاسية البولندية، في وقت يواجه فيه حزب القانون والعدالة عدة تيارات؛ أبرزها المنصة المدنية ذات التوجهات الليبرالية المتسقة مع المناخ النخبوي الأوروبي. وقد أثار توقيت الزيارة جدلاً في الأوساط الحزبية البولندية، وعدداً من الاتهامات المتعلقة بوجود تدخل خارجي في توجهات الناخب البولندي عبر استغلال الزيارة الرئاسية لإظهار إنجازات مفترضة على صعيد ملف السياسة الخارجية.

وجدير بالذكر أن الحكومة البولندية قد وقعت عقداً لاستيراد الغاز الأمريكي لمدة 20 عاماً؛ بحيث يبدأ العمل فيه بعد نهاية عقد توريد الغاز الروسي في عام 2022، وتجري أحاديث عن مشروع محتمل لتسويق الغاز الأمريكي في أوروبا، انطلاقاً من دول مثل: بولندا وليتوانيا، وتعد الأخيرة أول جمهورية سوفييتية سابقة تستقبل الغاز المسال من الولايات المتحدة الأمريكية.

أوروبا وانتخابات نوفمبر 2020

تزامنت أنباء نقل القوات الأمريكية من ألمانيا مع تبادل تصريحات حادة موجهة لمسؤولين أمريكيين وألمان. ولعل أبرز هذه التصريحات، ما جاء في "استخفاف" المرشحة المحتملة لخلافة ميركل، وزيرة الدفاع الألمانية، أنغريت كارينباور، في القيمة الاستراتيجية للقرار الأمريكي قائلةً: "حلف الناتو ليس منظمة تجارية والأمن ليس سلعة".

إلا أن هذا التصريح يحمل بصمة ألمانية أكثر مما هي أوروبية؛ ذلك أن جزءاً من القوات المنسحبة سيتم إعادة نشرها في بولندا الأكثر قرباً للحدود الروسية، فليس القصد من سحب القوات تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن التزاماتها تجاه القارة، فالقوات انتقلت إلى دولة في الناتو تربطها خلافات جذرية مع روسيا؛ والتي هي محور التهديد النووي في مرحلة الحرب الباردة. فوفقاً لحسابات الأمن القومي الأوروبي، يكمن تقييم القرار الأمريكي على أنه إعادة انتشار داخل نفس المنظومة وليس سحباً للقوات؛ أسوةً بما حدث مرات عديدة في الشرق الأوسط.

إلا أن ذلك لا يعني أن واشنطن ليست جادة في إعادة تقييم الجدوى الاستراتيجية من انتشارها العسكري الكثيف حول العالم. وهو الأمر الذي لا تخفيه تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والتي تحمل بعضها دلالات واضحة جداً حول هذا التوجه.

ففي حفل تخريج طلبة أكاديمية "West Point" العسكرية، في يونيو 2020، عبّر ترامب عن استيائه من الوجود العسكري الخارجي قائلاً: "نحن لسنا دركاً عالمياً" واعداً الجنود الخريجين أنه لن يكون عليهم الخدمة في حروب "لا نهاية لها" ولا العمل على "حل النزاعات القديمة في الأراضي البعيدة".

ويترتب على إعادة تقييم الانتشار العسكري المشار له أيضاً في بند "أمريكا أولاً"، ميل السياسة الخارجية الأمريكية نحو مراجعة العلاقات التقليدية من جهة، ومن جهة أخرى، العمل على بناء علاقات أوثق مع حلفاء جدد كانوا هامشيين إلى حد ما في الفترات السابقة. فبالإضافة إلى بولندا، تُرسّخ الإدارة الأمريكية روابطها مع دول مثل: الهند والبرازيل.

لذلك فإن على الاتحاد الأوروبي أن يترقب ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2020، وأن يستعد لسيناريوهات قصوى قد تحد من أهميته في المنظور الاستراتيجي الأمريكي، فأغلب الظن أنه إذا ما أعيد انتخاب ترامب لولاية رئاسية جديدة، فإن مستقبل تماسك حلف الناتو سيكون محل شك، وهو ما يعني أن هنالك مقاربة أمريكية جديدة كلياً للأمن في أوروبا، تضع في حساباتها التهديد الصيني كأولوية، وتنظر إلى ضفة الأطلسي الشرقية على أنها بوابة لإقليم الهندي - الهادئ الذي تشير كل الدلائل إلى تبوئه المركز الأول على صدارة الاهتمامات الجيوسياسية الأمريكية.

 

بلال العضايلة

مساعد باحث مهتم في قضايا السلم الدولي وفض النزاعات