مؤتمر ميونخ للأمن 2020 يعكس أزمة العلاقات في الغرب

في ظل الاختلاف بين الولايات المتحدة وبين القوى الأوروبية، والضغوط المتزايدة التي تشهدها القارة والناتجة عن الصراع والتنافس بين كل من: الولايات المتحدة والصين وروسيا؛ يأتي مؤتمر ميونخ 2020 للأمن الذ‎ي أدرج تحت عنوان "عدم الاهتمام بالغرب". من هنا تقدم هذ‎ه المادة قراءة للمشهد الغربي، وبشكل رئيسي قراءة للعلاقات الأمريكية الأوروبية وللتحديات التي يواجهها مجتمع الأمن المشترك.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١٩‏/٠٢‏/٢٠٢٠

يعد مؤتمر ميونخ أحد أكبر وأهم المؤتمرات التي تناقش السياسة الأمنية على مستوى العالم، والذي يعقد سنويا في مدينة ميونخ، عاصمة ولاية بافاريا الألمانية، إذ‎ يلتقي من خلاله العديد من صانعي القرار الدوليين رفيعي المستوى، بما في ذلك أكثر من 30 شخصية من رؤساء الحكومات والدول، بالإضافة إلى حوالي 100 وزير.

ومن اللافت اختلاف المؤتمر في نسخته هذه عن النسخ السابقة، ففي بداياته كان مؤتمر ميونخ يجسد "لم شمل الأسرة" الغربية، ثم توسع لجلب طيف أوسع من المجتمع الدولي ومناقشة القضايا الراهنة في العالم، بينما يطل في نسخته الراهنة في ظل الخلافات الغربية بين الولايات المتحدة وأوروبا، ومن هنا اندرج الموضوع الرئيسي لأعمال المؤتمر تحت عنوان "عدم الاهتمام بالغرب"، في محاولة لخلق وصف للظاهرة المزدوجة المتمثلة في شعور واسع بأن الغرب والعالم يتطورون في اتجاه ذ‎ي اهتمام أقل بالغرب، مع فقدان القيم عبر الأطلسية ومجتمع الأمن.

in-01.jpg

وفي هذا السياق، يعكس المؤتمر حالة متزايدة من الانقسام في العلاقات عبر الأطلسي وفي النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة، والأكثر إثارة للقلق؛ هو ما يتعلق بالشعور الأوروبي الواضح بتخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه أوروبا، وعن جوهر التحالف عبر الأطلسي ذاته. وفي خطاب تلو الآخر؛ أعرب القادة الأوروبيون عن أسفهم لما يرون أنه فك لارتباط الولايات المتحدة بالمنطقة والعالم بأسرِه، فمن هنا استهل الرئيس الألماني، فرانك شتاينماير، افتتاحية المؤتمر لينتقد شعار ترامب "أمريكا أولا"، مضيفا أنه: "هز النظام العالمي وأجج انعدام الأمن في عالم غير مستقر"، وفي ذات السياق أشار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن: "هناك سياسة أمريكية بدأت قبل أعوام، وليس في ظل الإدارة الحالية، تشمل نوعا من الانكفاء ومراجعة لعلاقتها مع أوروبا".

في الواقع، شكلت سلسلة من القرارات، التي اتخذها ترامب، عددا من المخاوف الأوروبية، إذ‎ اعتبرت معادية لحلفاء أمريكا في حلف شمال الأطلسي، من ضمنها: الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني الذي أضر بالعديد من الشركات الأوروبية وفقدت على إثره المليارات من العقود، وقراره في أكتوبر عام 2019 بسحب القوات الأمريكية فجأة من سوريا دون تنبيه الحلفاء؛ الأمر الذي دفعهم إلى التساؤل عن كيفية تصديهم لمزيد من الفوضى وعدم الاستقرار هناك، بالإضافة إلى رد ترامب أثناء مقابلة له في "سي بي أس نيوز" في 15 يوليو 2018، على السؤال المطروح حول الدول التي يعتبرها منافسا للولايات المتحدة؛ حيث أجاب: "أعتقد أن لدينا الكثير من المنافسين، وأعتقد أن الاتحاد الأوروبي هو منافس"؛ وذ‎لك في إشارة إلى الخلافات التجارية القائمة بين الولايات والاتحاد الأوروبي.

in-02.jpg

وعليه، قد لا تجدي الكلمة الواثقة لوزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، بأن: "الغرب سيفوز، وسنفوز سويا"، في طمأنة الأوروبيين، وقد تبع هذا الإعلان إثارة قضية خلافية أخرى بين أمريكا وأوروبا وهي: الصين، وهنا؛ كرس وزير الخارجية الأمريكي معظم النصف الثاني من خطابه، الذي استغرق 16 دقيقة، للصين، وهو يعتقد أن الدول الأخرى يجب أن تخافها أكثر، وكذلك وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر، الذي دحض أيضا أي شك في أن واشنطن تعتبر الصين قوة شريرة في العالم، وفي الواقع لا تشارك العديد من دول الاتحاد الأوروبي وجهة النظر الأمريكية هذه، إذ‎ يتحدث الطرفان لغة مختلفة تماما عندما يتعلق الأمر بالصين، ففي 26 مارس 2019 طلبت فرنسا وألمانيا والمفوضية الأوروبية شراكة أكثر توازنا بين الصين وأوروبا تستند على "الثقة" و"المعاملة بالمثل"، ودعت إلى تعددية "متجددة"، وهذا نتيجة لما تراه أوروبا غيابا للولايات المتحدة التي‎ باتت تتخذ مواقف أحادية بشكل متزايد.

وفي ذات السياق، ظهرت دعوات أخرى في المؤتمر بمتابعة سياسة التواصل مع روسيا أيضا، وهنا؛ أشار الرئيس الألماني في افتتاحية المؤتمر إلى أن: "الدول الغربية بحاجة إلى علاقة أفضل مع دول مثل روسيا"، كما وتحدث الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حول فشل سياسة التحدي الأوروبي لروسيا، مضيفا أن: "الخيار الوحيد هو التوجه نحو حوار أوثق مع موسكو لحل الخلافات"، وهنا يأمل القادة الأوروبيون أن اتباع هذه السياسة سيجعل أوروبا أقل اعتمادا على الولايات المتحدة وستبتعد أكثر عن بؤر التوتر والصراعات، بيد أن ذلك قد لا يكون بتلك السهولة؛ فمن جهة يعد التعامل مع روسيا تحديا جيوسياسيا كبيرا، إذ‎ أصبحت روسيا نشِطة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، فهي تشن حربا في أوكرانيا، وتضم جزيرة القرم، وتُتهم بمحاولة اغتيال لمعارضين على الأراضي الأوروبية وبتنفيذ هجمات إلكترونية على أهداف غربية، ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة تعارض مثل هذا التقارب، وكان ذلك جليا في الموقف الأمريكي إزاء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، الممتد مباشرة من روسيا لتزويد ألمانيا بالغاز، حيث فَرضت عقوبات اقتصادية على المشروع، لرؤيتها أن ذلك يزيد من تبعية الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي، وهذا ينطوي عليه مخاطر كبيرة على أوروبا وعلى الغرب بشكل عام.

على غرار الأطلسي، يواجه مجتمع الأمن المشترك في أوروبا معضلات متنامية، تحد من قدرة أوروبا على تقديم استراتيجية جيوسياسية متماسكة أو حتى التحدث بصوت واحد، فالقارة منقسمة على نفسها، بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبسبب الانقسام الروحي المتزايد مع صعود المعسكر القومي، الرافض للأممية الليبرالية، والداعي إلى قومية وطنية باعتبارها الطريقة الوحيدة لحماية سيادة الدول، وفي هذا السياق؛ تعمق هذه الانقسامات من الخلل الوظيفي والانكشاف الجيوسياسي لأوروبا في القضايا الكبيرة والصغيرة، فبينما يستمر السياسيون الغربيون في تكرار أنه لا توجد حلول عسكرية للصراعات السياسية، أفضى إحجام الغرب عن التدخل مبكرا في الأزمة السورية إلى دور روسي فتح له المجال ليصبح مهما في ملفات أخرى، ومن جهة أخرى فقد أدى لجوء ملايين السوريين نحو أوروبا، وكذلك الأمر في ليبيا؛ إلى شعور الدول الأوروبية بضغوطات مختلفة، لنشهد في  19 يناير 2020 انعقاد قمة برلين حول ليبيا، لتحاول أوروبا أن تُظهر للعالم أنها قادرة على التحرك، لكن البعض يعتقد أن القمة كانت عبارة عن نافذة أخرى على هذا الخلل الوظيفي، وفي النهاية؛ فشلت القمة، واستمر القتال.

وأخيرا، كان مؤتمر ميونخ الأمني بمثابة رمز لقوة التحالف الغربي، لكن قدمت النسخة 2020 شهادة على الانقسام الحاصل في هذا التحالف، فالحدث الذي استمر 3 أيام، ركز على إعادة النظر في المشروع الغربي؛ وعلى عكس ذلك، فقد أوضح أن الاختلاف بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية المهيمنة ــ ألمانيا وفرنسا المملكة المتحدة ــ بات أكبر من أي وقت مضى، وذلك يجعل من وضع أجندة عبر المحيط الأطلسي للرد على نهوض الصين وروسيا أمرا صعبا للغاية، وربما مستحيلا.

وعليه، أصبحت القارة تعاني من الضغوط المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، إذ‎ تواصل روسيا توغلها في أوكرانيا وتدخلها في سوريا وليبيا، بينما يمتد النفوذ الصيني بشكل منهجي في القارة، سواء من خلال مشاريع البنية التحتية الحيوية في جنوب شرق أوروبا أو من خلال عمليات الاستحواذ للشركات في الغرب. وعلى الغرب اليوم أن يتقبل أنه مجرد قطب من أقطاب عديدة تشكل البيئة الأمنية العالمية.

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات