هل تتجه تركيا وسوريا نحو استئناف العلاقات؟
تشهد العلاقات بين تركيا وسوريا جولة جديدة من بوادر الحوار، فمسار التقارب بينهما ليس بالحديث، حيث أن مظاهره ماثلة منذ العام 2022، وتحديدًا منذ أن أصبحت عودة العلاقات بين الدولتين هدفًا رئيسًا لروسيا.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٨/٠٧/٢٠٢٤
تشهد العلاقات التركية السورية جولة جديدة من بوادر الحوار بين الدولتين، وبشكل قد يُنهي القطيعة التي بدأت بينهما منذ اندلاع الأزمة السورية في 2011، ويؤسس لاستئناف العلاقات السياسية والاقتصادية، إذ تؤكد التصريحات رفيعة المُستوى للطرفين عن استعدادهما لذلك؛ في ظل سعي حثيث من قبل الوسطاء مثل روسيا والعراق لتقريب وجهات النظر بين الدولتين، ومبادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لترتيب لقاء يجمعه مع نظيره السوري بشار الأسد. وتأتي بوادر الحوار مدفوعة بمجموعة من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، لكنها أيضاً تواجه تحديات حقيقية بالنظر إلى الوقائع والمعطيات ومستوى تعقيد ملفات الخلاف بينهما.
مؤشرات التقارب
تتزايد المؤشرات الدالة على قُرب انعقاد محادثات مباشرة تركية-سورية، تهدف إلى استئناف الدولتين للعلاقات المقطوعة منذ العام 2011. ففي 26 يونيو 2024 أبدى الرئيس السوري بشار الأسد انفتاحه على المبادرات المرتبطة بإعادة العلاقات مع تركيا، وفي 28 يونيو، أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاحتمالية لقائه بالأسد، وذكر لوكالة الأناضول في 7 يوليو عن نية أنقرة توجيه دعوة للرئيس السوري لزيارة تركيا، وقد أعلن الأسد استعداده للقاء في حالة معالجة "القضايا الجوهرية" بين الدولتين، وخلال قمة الناتو في 12 يوليو أعلن أردوغان عن تكليف وزير الخارجية هاكان فيدان بالاجتماع مع الرئيس السوري بشار الأسد للبدء في مسار استعادة العلاقات.
إن مسار التقارب التركي السوري ليس بالحديث، حيث أن مظاهره ماثلة منذ العام 2022، وتحديداً منذ أن أصبحت عودة العلاقات بين الدولتين هدفاً رئيساً لروسيا، بالإضافة الى الدور الروسي في محادثات "مسار أستانا" منذ انطلاقها عام 2017، إذ اتبعت موسكو مجموعة من الخطوات الهادفة إلى تسهيل الحوار وجمع مسؤولي الدولتين، وقد جاء أول لقاء رسمي في أواخر 2022، عندما التقى وزيرا الدفاع التركي والسوري مع نظيرهما الروسي في موسكو، لبحث الملفات المشتركة بينهما، وفي مايو 2023، اتفق وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران وسوريا على خارطة طريق قدمتها موسكو لتحقيق مصالح الدولتين، وفي مايو 2024 أعلن رئيس الوزراء العراقي عن انضمام بغداد إلى خط الوساطة بين الدولتين.
دوافع التقارب
تتعدد دوافع التقارب بين الدولتين، فمنها ما يتعلق برغبة روسيا بتغيير الواقع الميداني في الشمال السوري، خاصة في ضوء انشغالها بمجريات الحرب في أوكرانيا، وحاجتها إلى تنشيط دبلوماسيتها في الشرق الأوسط، وتأكيد تمسكها بالموقف المعلن عن مشاركتها في الأزمة منذ العام 2015، إلى جانب رغبة سوريا في استكمال مسار الانفتاح الإقليمي خاصة بعد استعادة مقعدها في جامعة الدول العربية في 7 مايو 2023.
مع ذلك؛ يتضح أن تقارب العلاقات، مسألة أكثر إلحاحاً بالنسبة لتركيا، فهي لا تتعلق بقضايا السياسة الخارجية فحسب، بل أصبح لها تداعيات محلية محفوفة بالمخاطر وتطال المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، حيث تعيش تركيا أزمة اقتصادية، ففي أواخر 2023 هبطت الليرة التركية إلى مستوى انخفاض تاريخي عند 29.7 أمام الدولار بنحو 37% من قيمتها. بالإضافة إلى استمرار ارتفاع معدلات التضخم السنوي والتي بلغت في مارس 2024 نحو 68.5%، وهو ما يُفاقم الأزمة في تكاليف المعيشة وأسعار الأسعار وارتفاع معدلات الفقر بواقع 14% وفقاً لبيانات معهد الإحصاء التركي في مايو 2023.
لقد أوجدت الأزمات الاقتصادية توترات داخلية عدة، خاصة تجاه اللاجئين السوريين في تركيا والذين يزيد عددهم عن ثلاثة ملايين لاجئ بحسب بيانات دائرة الهجرة. إذ تشهد البلاد استقطاباً غير مسبوق بشأن اللاجئين، وقد سيطر الخطاب المناهض للجوء على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في مايو 2023، ووضع الحزبان الرئيسان (العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري) إعادة اللاجئين هدفاً محورياً في حملتيهما الانتخابية.
إلا أن مسألة اللاجئين بدأت تُصاعد من مخاوف تطورها إلى أعمال عنف مجتمعية، ففي أغسطس 2023، تعرضت بعض منازل ومصالح السوريين في أنقرة لأعمال عنف، وفي مطلع يوليو 2024، شهدت ولاية قيصري أعمال عنف ضد اللاجئين السوريين وممتلكاتهم ومصالحهم، وفي 5 يوليو قامت مجموعة تركية باسم "انتفاضة تركيا" على تطبيق "تلغرام" بتسريب بيانات أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ ومقيم سوري. وينعكس ذلك على القطاع السياحي التركي الذي يعتمد في جزء منه على السياح من العرب، خاصة وأن حوادث الاعتداء المُصنفة بـ "العنصرية" شملت السياح العرب، سواء كانت جسدية أو لفظية، وهو ما يهدد عائدات السياحة العربية في تركيا، حيث شكل السياح العرب نسبة 10% من مجموعة السائحين خلال الربع الأول من العام 2024، وبواقع 230 ألف سائح عربي.
من جهة أخرى؛ تُقوض أعمال العنف المحلية ضد السوريين، قُدرة القوات التركية في الحفاظ على النظام في مناطق تواجدها في الشمال السوري، ففي مطلع يوليو شهدت مناطق ريفي حلب وإدلب اشتباكات بين القوات التركية ومتظاهرين سوريين، احتجوا على ممارسات الأتراك بحق اللاجئين.
تعقيدات استئناف العلاقات
إن جولة التقارب الحالية، وإن كانت تُشير إلى زخم واضح في رغبة الدولتين وتحديداً تركيا باستعادة العلاقات، إلا أنها لا تعني بالضرورة المضي بمسار واضح يتجاوز التعقيدات المحيطة بعلاقات الدولتين. ففي السابق بلغت مبادرات التقارب العتبة ذاتها التي عليها اليوم، لتعود إلى حالة الجمود لاحقاً، ففي مارس 2023، كانت هناك محاولات لترتيب لقاء بين الرئيسين، إلا أن مواقف الطرفين حالت دون لقائهما، ولا يبدو أن الظروف الحالية تغيرت عن السابق.
إذ لا تزال دمشق تتمسك بموقفها بشأن ربط مسار التصالح بانسحاب القوات التركية من مواقعها في شمال غرب سوريا، وبعودة "الوضع الذي كان سائداً قبل 2011" كما أشارت وزارة الخارجية السورية في 13 يوليو. ويعود ذلك أولاً: لمنع تركيا من توظيف الحوار بـ "إضفاء الشرعية على الاحتلال التركي في سوريا"، كما ذكر الرئيس السوري ذلك في لقاء سابق له مع قناة سكاي نيوز عربية في أغسطس 2023. وثانياً: يتعلق باستبعاد سيناريو إخراج القوات التركية من الأراضي السورية بالقوة العسكرية، ما يجعل من مسار التفاوض خياراً سورياً رئيساً لتحقيق ذلك، وثالثاً: لوقف الدعم التركي للجماعات التي تصنفها دمشق باعتبارها إرهابية.
في المقابل؛ تتخوف تركيا من إجراء تحول مفاجئ في نهجها تجاه الملف السوري، وتحديداً في المسائل المتعلقة بأمنها القومي، من حيث ملف اللاجئين وسيطرة قوات سورية الديمقراطية على الشمال الشرقي، فأولاً: تتخوف تركيا من أن استعادة دمشق السيطرة على المناطق التي تؤدي بها أنقرة دور الضامن، يُمكن أن يُؤدي إلى فوضى واقتتال قد تدفع إلى موجات لجوء جديدة للجانب التركي، سواء باحتمال أن ترفض الفصائل المعارضة المسلحة لأي ترتيبات تركية-سورية، لا سيما هيئة تحرير الشام أو "جبهة النصرة" سابقاً، والمدرجة على قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة منذ أن عدلت إدراج "جبهة النصرة" على القائمة بإضافة جبهة تحرير الشام عام 2018، والتي تختلف أولوياتها كٌلياً عن الأولويات السورية والتركية، وقد سبق لما تُعرف بـ"حكومة الإنقاذ" التي تُدير الشؤون المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة، أن رفضت اللقاءات التركية-السورية في العام 2022، واعتبرت أنها "تهدد حياة الملايين من الشعب السوري". وثانياً: لا ترغب أنقرة بالانسحاب قبل ضمان قُدرة سوريا على حماية وتأمين حدودها مع تركيا، وخاصة في الحد من تهديد المقاتلين الأكراد للأراضي التركية، أو تجاه طموحاتهم لتشكيل حكم ذاتي في مناطق سيطرتهم في شمال شرقي سوريا، فقد أطلقت تركيا عملية "غصن الزيتون" عام 2018، للسيطرة على محافظة عفرين التي كانت خاضعة لوحدات حماية الشعب الكردية، وفي العام 2019 أطلقت عملية "نبع السلام" لإنشاء منطقة آمنة شرقي نهر الفرات، ومنع إقامة كيان كردي على حدودها.
مع ذلك؛ وفي ضوء تمسك الدولتين بشروطهما المسبقة لاستئناف العلاقات، يُمكن قراءة رغبة تركيا بإضافة وسطاء جُدد على محادثات الدولتين، إذ أشار وزير الخارجية التركي خلال مؤتمر مشترك مع نظيره السعودي في 14 يوليو، فيصل بن فرحان، أن السعودية ستتعاون مع تركيا في موضوعات الحوار مع سوريا، وذلك عائد إلى أن المبادرات الروسية والإيرانية تسعيان لتغيير الوضع الراهن في مناطق وجود القوات التركية، وفرض سيطرة الجيش السوري عليهما، فيما النموذج العربي من التقارب مع دمشق، والقائمة على مبدأ "خطوة مقابل خطوة" يبدو أنه الأكثر مناسبة لتركيا.
وأخيراً؛ في ضوء ما سبق، فإن مستقبل العلاقات التركية السورية، مرهون بقدرة الطرفين على تحقيق اختراقات في الملفات الرئيسة للخلاف بينهما، وفي مقدمة ذلك التوافق حول آلية لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، والتي يُرجح أن يتوصل الطرفان حولها إلى حل وسطي، بتحديد جدول زمني له كنتيجة لأي مفاوضات، بالإضافة إلى طرق دمج أو حل الفصائل العسكرية المعارضة، وهذا يستوجب تحديد آلية مشتركة بين الطرفين للتوافق حول تصنيف كل فصيل، وأخيراً في ضمان عدم حدوث ثغرات حدودية قد تفاقم من المخاوف الأمنية التركية أو فراغ قد يدعم طموحات الأكراد بتدعيم الحكم الذاتي. مع ذلك فإن قدرة الدولتين على تجاوز تلك التحديات، يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات حول الكيفية التي يُمكن فيها للطرفين فرض تفاهماتهما على الفصائل المسلحة في الشمال السوري، وتحديداً هيئة تحرير الشام، والتي تتطلع لدورها باستقلالية عن كل من أنقرة ودمشق، وتسعى لتثبيت إدارتها في مناطق سيطرتها بحكم الأمر الواقع، وتسويق نفسها كحكومة تمثيلية معتدلة للمجتمع الدولي، ما يعني أن فرص قبولها لخارطة طريق قد تؤدي إلى عودة الحكومة المركزية والجيش السوري للسيطرة على مناطقها أمر مستبعد دون إجراء عمل عسكري ضدها.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات