التقارب السوري التركي وسيناريوهات المشهد الجيوسياسي في الشمال السوري

تقدير موقف | يتناول التقدير ملامح التقارب السوري التركي على المستويين الاستخباراتي والعسكري، ويسعى إلى تقدير التحولات في شمال سوريا من خلال الإجابة على عدد من التساؤلات من قبيل: ما التغيرات التي ستطرأ على الحركات العسكرية في إدلب ومناطق انتشار النفوذ التركي في الشمال السوري؟ وما طبيعة التغيرات على نفوذ الحركات الكردية في شمال شرق سوريا؟ وما هي أبرز التحديات التي يمكن أن تواجه المسار الثلاثي بين أنقرة وموسكو ودمشق في الشمال السوري؟

الكاتب د. جلال سلمي
  • تاريخ النشر – ٠٢‏/٠٢‏/٢٠٢٣

مقدمة

عادةً ما يبدأ تحسن العلاقات بين أي طرفين متخاصمين في الساحة الدولية بلقاءات تقنية على المستويين الاستخباراتي والعسكري لمناقشة التفاصيل، ومن ثم يتبعها لقاءات رفيعة ممثلةً بوزراء الخارجية ومن ثم الرؤساء لوضع اللمسات الأخيرة؛ وبينما عبرت تركيا وسوريا النقاشات التقنية في الاجتماع الذي ضم وزراء الدفاع ورؤساء المخابرات لكل من تركيا وسوريا وروسيا في موسكو بتاريخ 28 ديسمبر 2022، فإن اللمسات الأخيرة قد تتضح بعد لقاء وزراء خارجية البلدين؛ المُتوقع مطلع فبراير الجاري. وإن عقد ذلك اللقاء سيؤكد جدية أنقرة في إعادة العلاقات مع دمشق على كافة المستويات، بعد سنوات من القطيعة.

وغداة لقاء وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، مع نظيريّه السوري والروسي، صرح بأن هدف بلاده من التقارب مع دمشق هو الحفاظ على وحدة سوريا، مع التأكيد على ضمان الاستقرار في سوريا بمشاركة جميع الأطراف وفق قرار 2254.

وبهذه التصريحات يتضح أن الأهداف الاستراتيجية لإعادة أنقرة العلاقات مع دمشق تنبع من رغبتها في ضمان عدم قيام كيان كردي انفصالي أو تمدد نفوذ هذا الكيان برعاية أمريكية، كذلك توفير أرضية مناسبة لعودة اللاجئين السوريين في إطار أجواء تضمن تطبيق قرار 2254، وفق التفسير الروسي على الأغلب والقائم على تشكيل حكومة وحدة وطنية وليس وفق مبدأ تأسيس مرحلة حكم انتقالي، إذ أصبح هذا المبدأ مجافٍ لظروف الواقع.

في إطار ذلك، كان هناك تفاعل إيجابي من طرف سوريا التي وجدت مصلحةً مُشتركةً تجمعها مع موسكو وأنقرة في مسألة تشكيل إطار رباعي؛ سوري، روسي، تركي وإيراني، مُتفق في نقطة التصدي لأي كيان انفصالي أو فيدرالي في شمال سوريا.

وعبر المقدمة السابقة، يسعى هذا التحليل إلى تقدير التحولات في شمال سوريا من خلال الإجابة على التساؤلات التالية: ما الذي سيَطرأ من تغيّرات على الحركات العسكرية في إدلب ومناطق انتشار النفوذ التركي في الشمال السوري؟ ما هي طبيعة التغيرات التي ستطرأ على نفوذ الحركات الكردية في شمال شرق سوريا؟ ما هي أبرز التحديات التي يمكن أن تواجه المسار الثلاثي بين أنقرة وموسكو ودمشق في شمال سوريا؟

"الحسم الاستراتيجي" للمشهد في الشمال السوري

إن توزيع مراكز القوى والنفوذ في محافظة إدلب ومحيطها محكومُ بصيغة الحل المرحلي التي توصلت لها أطراف آستانة (6) في سبتمبر 2017، والذي يُقسم المحافظة كالآتي:

1- تمتد سيطرة الجيش السوري حتى شرق سكة قطار الحجاز-حلب.

2- تمتد مناطق النفوذ الروسي من سكة قطار الحجاز-حلب وصولاً إلى طريق أتوستراد (حلب-دمشق).

3- تمتد مناطق النفوذ التركي وتواجد المجموعات المُسلحة المدعومة من أنقرة، من أوتوستراد (حلب-دمشق)، وصولاً للحدود التركية، كما تمتلك في شمال سوريا، قُرابة 118 نقطة مُوزعة على عدة مناطق؛ هي: اللاذقية وإدلب وعفرين ومنطقة "درع الفرات" ومنطقة "نبع السلام".

فيما تضمن اتفاق أطراف آستانة التخلص من "هيئة تحرير الشام"، التي تُسيطر على أجزاء من إدلب وعفرين، وتفرض حكماً مدنياً عبر ما تسميها بـ"حكومة الإنقاذ"، عبر القتال أو التعويم، وتضمن أنقرة عدم شن المجموعات المُسلحة المُعارضة التي تدعمها، لهجمات ضد الجيش السوري، وتحديداً ما يُعرف بـ "الجيش الوطني السوري"، المتواجد في منطقتي "درع الفرات" شمالي حلب، و"نبع السلام" التي تشمل أجزاء من شمال حلب والحسكة والرقة، وفي أجزاء من عفرين. على أن تتابع دول آستانة مسار المحادثات للتوصل إلى صيغة نهائية للحل يضمن مصالح الجميع.

ستراتيجيكس-التقارب-السوري-التركي-inn-1.jpg

لكن لاحقاً سعت سوريا وبدعم روسي إلى طي صفحة الحلول المرحلية، وتجاوز تفاهمات آستانة (6)، نحو محاولة جديدة لتحقيق حسم استراتيجي في خارطة الشمال السوري، مع الإبقاء على التنسيق المُباشر بين أطراف النفوذ الثلاث في محافظة إدلب، وقد أصبح هذا السعي ظاهراً، بعد أن استعادت القوات السورية مناطق في جنوب إدلب من ضمنها معرة النعمان في العام 2020، وهو الأمر الذي جاء بعكس رغبات أنقرة حينذاك.

لكن مع التمسك الأمريكي في الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية الكردية في مكافحة تنظيم "داعش"، التي ترى فيها تركيا تهديداً لأمنها القومي، إلى جانب الضغوط الاقتصادية والسياسية الناتجة عن ملف اللاجئين السوريين، وتأثير ذلك على الاتجاهات الشعبية في الانتخابات القادمة، فقد تحولت أنقرة باتجاه التوافق أكثر نحو مسألة "الحسم الاستراتيجي".

سيناريوهات الحالة الجيوسياسية في الشمال السوري

السيناريو الأول: النسخة القبرصية

يُحاكي هذا السيناريو المُتداول إعلامياً، السيطرة التركية المُباشرة على شمال قبرص عام 1974. حيث انتشر الجيش التركي في مناطق الكثافة التركية في الشمال القبرصي؛ استناداً إلى اتفاقية لندن المُبرمة عام 1959، والتي تعطي كل من بريطانيا وتركيا واليونان حق الضمانة العسكرية للسلام في الجزيرة.

في ذات السياق، يُدّعى أن تركيا تملك حق الضمانة في شمال سوريا وفق الاتفاقيات المُوقعة على هامش محادثات آستانة، وبالتالي ستنتشر في كامل الشمال السوري، وستشكّل القوات الروسية خط فاصل يمنع الاشتباك مع الجيش السوري، ويحجب هذه القوات عن التقدم نحو مناطق نفوذ تركيا وجماعات المعارضة السورية المسلحة التي تصبح مستقلةً جغرافياً وعسكرياً بذاتها عن دمشق، لكن بدون استقلال سياسي على الصعيد الدولي.

يخالف هذا السيناريو الواقع ويبقى غير مرجح نظراً للعوامل التالية:

1- وجود عدة أطراف دولية فاعلة في سوريا؛ ومنها روسيا وإيران اللتان تعارضان بشدة هذا السيناريو، لكونه يؤسس لتقسيم سوريا جغرافياً، وقد عكستا اعتراضهما الدوري من خلال استهداف مناطق نفوذ تركيا براً وجواً. أيضاً ليس هناك ميل أمريكي لتنفيذ هذا السيناريو الذي يُبقي على وجود اشتباكات واستهداف تركي مباشر أو بالوكالة لمناطق شرق الفرات؛ وهذا يُفقد تركيا المُسوغ القانوني لتنفيذ السيناريو.

2- إدراك أنقرة بأن هذا السيناريو ليس ممكناً على صعيد استراتيجي، حيث يفتقد لسند قانوني يمكّنها من تطبيقه، حيث أن الورقة القانونية السارية لتدخل أنقرة في سوريا هي اتفاقية أضنة المُوقعة عام 1998، والتي تمنحها حق التدخل مسافة 5 كليو متر بشكلٍ مؤقت وليس بصورةٍ دائمة. كذلك لم تمنح محادثات آستانة أنقرة حق بسط نفوذها في مناطق الشمال على نحوٍ استراتيجي، بل منحها حق الضمانة المرحلية للنظر في آلية حل تسوية استراتيجية بتوافق مع الإطار الرباعي (تركيا، سوريا، روسيا وإيران).

3- هناك ممانعة عربية وإقليمية لمسألة تنامي النفوذ التركي في المنطقة العربية، باعتباره نفوذ منافس يؤثر في نهاية المطاف بتوازن القوى، ويُرجح تطبيقه كفة تركيا على حساب الدول العربية والإقليمية الأخرى.

4- الكلفة الاقتصادية والبشرية الهائلة التي تتكلفها تركيا برعاية ما يقارب 5 مليون سوري في مناطق نفوذها، كما أن تلك المناطق التي لا تحتضن مقدرات اقتصادية توفر دخلاً كافياً.

5- فقدان أنقرة للتأييد الشعبي الداخلي بالانتشار الدائم في سوريا، حيث هناك اعتراض سياسي واستياء شعبي من الانتشار العسكري في سوريا، والذي ينتج عنه أحياناً خسائر بشرية للجيش التركي.

6- طبيعة الهدف التركي في الشمال السوري، حيث تحمل أنقرة هدف مجابهة اتساع نفوذ الحركات الكردية الانفصالية، وفي حال ضمنت حلاً منخفض التكاليف يُفقد هذه الحركات نفوذها، ستميل له أكثر.

ستراتيجيكس-التقارب-السوري-التركي-in-2.jpg

السيناريو الثاني: "الشيشنة" وحفاظ تركيا على شوكات وظيفية

يُشار إلى "الشيشنة" لوصف عملية الحل الذي أنهى الأزمة الشيشانية عام 1999، حيث اتجهت موسكو لحل الأزمة من خلال تقسيم فصائل القتال الشيشانية إلى فصائل مُتصالحة مع روسيا، وأخرى عدو لها؛ يتم تصفيتها على يد الفصائل الُمتصالحة، ليتم في النهاية استيعاب الفصائل المُتصالحة في إطار كيان سياسي أو عسكري زمام أمره بيد الكيان المركزي.

بهذه الآلية استطاعت موسكو تقسيم فصائل الشمال السوري بداية محادثات آستانة، وساندتها في ذلك أنقرة، وذلك من خلال دعوة بعض الفصائل "المُعتدلة" إلى محادثة آستانة، وتم تحييد الفصائل المُتشددة كهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً).

لكن ما يُعقد المشهد أنه تم تقسيم فصائل مُتشددة صغيرة؛ كفصيل جند الأقصى، كذا واجهت الفصائل الكبيرة مثل هيئة تحرير الشام انشقاقات لفصائل صغيرة أكثر تطرفاً مثل تنظيم حراس الدين.

وتشمل المرحلة الثانية، من تطبيق هذا السيناريو النقاط التالية:

1- تعويم فصائل المعارضة السورية المُسلحة في إطار فيلق عسكري يضمن لتركيا وجود شوكة وظيفية تُحركها وفق مصالحها عند الحاجة.

2- تصفية الفصائل المُسلحة أو التيارات التي ترفض الحل السياسي عبر استهدافها واعتقالها، وقد أظهرت أنقرة ذلك ضد هيئة تحرير الشام، عندما حاولت الهيئة السيطرة على كافة مناطق عفرين، وفي ذات السياق لن تتوانى موسكو عن استهداف الفصائل المسلحة، وتلك المتشددة منها سينتهي بها الحال إلى سيناريو تنظيم القاعدة في أفغانستان بعد العام 2001؛ أو ما يُمكن تسميته بسيناريو "تورا بورا"، عندما تحصنت القاعدة في جبال منطقة تورا بورا، حيث أن المتشددين في إدلب سينتهي بهم الحال إلى اللجوء إلى بعض المناطق النائية.

في هذا الإطار، يمكن استيعاب المُعتدلين داخل هيئة تحرير الشام، والاشتباك مع المتشددين وطردهم من المناطق الحيوية والإبقاء على محاربتهم في مناطق نائية من قبل القوى الدولية الفاعلة في إدلب.

3- انسحاب الجيش التركي إلى داخل تركيا مع الإبقاء على بعض من نقاطه العسكرية في العمق السوري مسافة 30 كيلو متر، لتكون هذه النقاط كضامن لمسار الحل على الصعيد الاستراتيجي وكذلك تكون بمثابة نقاط دعم عاجلة في حال سعى أي من أطراف الاتفاق الاستراتيجي تجاوزه. وهذا الأمر تم تطبيقه في المناطق التي سيطر عليها الجيش السوري حتى معرة النعمان، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، بقبول الانسحاب مقابل إرساء حل سياسي يضمن الاستقرار.

4- تحويل مناطق سيطرة المعتدلين لمجالس إدارية محلية تحت قبة "مجلس المناطق" الذي يجمع حكومة دمشق وشخصيات محسوبة على المُعارضة السياسية، في إطار ما يُشبه الفيدرالية، وقد تم شمل ذلك مُسبقاً من قبل موسكو في صيغة الدستور التي عرضتها.

روافع تطبيق هذا السيناريو:

1- التصريحات والتلميحات التركية حيال الاستعداد للانسحاب التدريجي من إدلب شريطة إبرام اتفاقية تسمح لها حق التدخل في الأراضي السورية مسافة 30 كيلو متر مع تثبيت قواعدها الضامنة للحل على صعيد استراتيجي، وهناك إصرار على هذه النقطة التي تدفع بها موسكو لتحقيق تسوية استراتيجية على نهج (رابح رابح)، أي حل يصب في مصلحة الطرفين.

2- الرغبة الروسية في إبقاء الجانب التركي فاعلاً ولو نسبياً في سوريا لتكون عنصر توازن أمام الفاعل الإيراني، وفي ذات الوقت الجانب الأمريكي الذي تتعارض تحركاته مع طموح أنقرة.

3- هُناك احتمالات مُرتفعة للنجاح في إدماج الفصائل المُسلحة، فقد تمكنت حركة "فتح الشام" في عام 2017، من الاندماج مع أربع فصائل مقاتلة، والتي تشكلت على إثرها "هيئة تحرير الشام".

4- اضمحلال مصادر التمويل لهذه الفصائل، وكذلك توقف عمل الجمعيات الإغاثية في الشمال السوري باستثناء الجمعيات التركية، ما يعني وجود عامل اقتصادي يدفع الفصائل والشعب في شمال سوريا بالقبول بمسار الحل.

5- تلميح موسكو لقبول صيغة "الشيشنة" من خلال طرح صيغة دستور لا تعترض على تأسيس مجالس محلية بصبغةٍ سياسية وعسكرية تحت مظلة السيطرة السياسية الواحدة لحكومة دمشق.

6- وجود انتشار (روسي – تركي) تشاركي فعلي بصيغة الضامن الدولي للحل.

7- هُناك شبه قبول عربي لهذا المسار باعتباره بديلاً لسيناريو الوجود العسكري التركي المباشر، كما وترغب الدول العربية في رفع مستوى القبول بالنظام السوري على صعيد دولي لإكساب علاقاتها معه حالةً من الشرعية.

تحديات تلوح في الأفق:

أولاً: محاولة إيران لعرقلة حل التسوية من خلال تحفيز الجماعات المُسلحة التي تدعمها، أو دعم الجيش السوري لاستهداف مناطق السيطرة التركية. وهذا التحدي لم يؤتِ أكله من قبل عندما مالت إليه طهران في السنوات السابقة، حيث تمكنت أنقرة من الدفاع عن نفوذها بقوة.

ثانياً: المراوغة الروسية، وهذا التحدي قد لا يُحقق لأنقرة كل ما تسعى إليه، تحديداً في عدد القواعد العسكرية والجنود الأتراك الذين سيبقون على انتشارهم في الداخل السوري، كما أن موسكو تدعو إلى تصنيف جميع الجماعات السورية المُسلحة على أنها إرهابية.

ستراتيجيكس-التقارب-السوري-التركي-in-3.jpg

ثالثاً: رفض هيئة تحرير الشام للمصالحة، لكن بتطبيق سيناريو "الشيشنة" أو سيناريو "تورا بورا" فقد يتم تجاوز التعنت للهيئة، كذلك الشخصية البراغماتية لقائد الهيئة أبو محمد الجولاني التي أظهرت إدراكه للمعطيات في إدلب، وعدم قدرته على الخروج عن السياق الإقليمي والدولي، عوامل تكفل التخلص من هذا التحدي.

سيناريوهات الحالة الجيوسياسية في الشمال الشرقي السوري

لا تنطبق السيناريوهات في حالة الشمال السوري وتحديداً مدينة إدلب ومحيطها، على الحالة الجيوسياسية في الشمال الشرقي، حيث التنافس الأمريكي الروسي هُناك وتواجد الحركات الكردية ممثلة بقوات حزب الاتحاد الديمقراطي وبعض الأحزاب المُتحالفة معها في منطقتي تل رفعت ومنبج.

ففي تل رفعت، تُسيطر وحدات الحماية الكردية، وهي الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي المدعوم من واشنطن، وتؤدي موسكو في تلك المناطق أحياناً دوراً موازناً في سياق الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا، وفي الوقت نفسه؛ يقوي النفوذ الروسي هُناك من أوراق موسكو التفاوضية مع أنقرة فيما يتعلق بمدينة إدلب. كما أن هناك علاقات روسية كردية، حيث الغطاء الجوي الروسي ساهم في سيطرة وحدات الحماية الكردية لمدينة تل رفعت في فبراير 2016. بينما لا تقع مدينة إدلب في دائرة الاهتمام الأمريكي أو الإدارة الذاتية الكردية، باعتبارها منفصلةً جغرافيا عن منطقة شرق الفرات.

أما في منبج، فالمنطقة تحكمها توافقات أمريكية-روسية، تستند على رغبة الدولتين في الحيلولة دون توسيع النفوذ التركي في الشمال، وتنتشر قوات الدولتين إلى جانب تواجد للجيش السوري في محيط منبج منذ العام 2018.

تنظر واشنطن إلى تواجدها باعتباره شأناً استراتيجيا بالنسبة للحزبين الرئيسين سواء الجمهوري أو الديمقراطي، فقد تأسس هذا النفوذ في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، واستمر لاحقاً في عهد الجمهوري، دونالد ترامب، ويُحافظ عليه الرئيس الديمقراطي الحالي، جو بايدن. حيث تسعى واشنطن من خلال وجودها إلى تحقيق انتشار دولي – إقليمي تشاركي يوازن النفوذ الروسي والإيراني ضمن استراتيجية الاحتواء والتطويق.

إن الحل الاستراتيجي في مناطق شرق الفرات، يتطلب تفاهمات روسية أمريكية أوسع، بالتوازي مع تفاهمات تركية أمريكية مُنفصلة، وهو ما يُعقد المشهد في مناطق الشمال الشرقي السوري. لكن هُناك عوامل موضوعية عدة تُظهر بوجه واشنطن لتطبيق ذات السيناريو الذي تسعى إليه أنقرة في إدلب ومحيطها، وهو سيناريو شرعنة انتشارها العسكري مع الإبقاء على قوات عسكرية ضمن مجالس محلية حليفة لها، ستضم القوات الكردية مع بعض القوات العربية؛ من قبيل قوات النخبة السورية وقوات عشائرية أخرى.

ويشمل هذا السيناريو على منح مناطق شرق الفرات استقلال إداري أمني وثقافي محدود مع إبقائها متصلة سياسياً مع دمشق؛ أي يصبح هناك انتشار عسكري سوري نسبي في هذه المناطق، وهو موجود فعلاً هناك.

عوامل ومؤشرات واقعية هذا السيناريو:

1- تحكم واشنطن في عملية إعادة الإعمار عبر قوانين تحمل صبغةً دولية؛ كقانون قيصر وقانون مكافحة الكبتاغون، ما يعطي واشنطن نفوذا كبيرا، لا سيّما وأن التقديرات تُشير إلى تكلفة إعادة الإعمار تبلغ 250 مليار دولار، وهو ما لا يمكن أن توفره أي دولة أو مؤسسات تمويلية دولية بدون سماح واشنطن بذلك.

2- نص مسودة قانون قيصر الأمريكي على "إمكانية وقف تطبيق القانون تدريجياً في حال انخرط أطراف الصراع في مفاوضات هادفة"، والمفاوضات الهادفة تعني المصلحة الأمريكية.

3- إدراك أنقرة بصعوبة مواجهة النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة، ورغبتها في تنويع ميزان القوى شرق الفرات ما بين موسكو وواشنطن.

4- تأسيس واشنطن لمجالس حكم محلي في أقاليم هذه المنطقة.

5- السعي لإحاطة نظام الإدارة هناك بخليط ديموغرافي؛ عربي – كردي، بغيّة تعميق نفوذها على صعيد شعبي.

وختاماً؛ فإن تعويم الفصائل المسلحة ضمن جناح أو فيلق عسكري مندمج بوجود عسكري لقوات الجيش السوري في إدلب وشمال حلب وبضمانةٍ روسيةٍ تركيةٍ مُشتركة، على أن يُبقى لأنقرة نفوذها السياسي والأمني، هو السيناريو الراجح والمدعوم بعدة عوامل ومؤشرات واقعية؛ أبرزها وجود توافق تركي – روسي نسبي، في المقابل تؤول سيطرة تل رفعت للنظام السوري وتخرج منها وحدات الحماية الكردية، أما شمال شرق الفرات فتبقى السيطرة هناك للحركات الكردية المدعومةً أمريكياً.

ومسار الحل المُتوقع في سوريا، يُشابه ما حدث بعد حرب الوراثة الإسبانية عام 1714، والتي اندلعت بسبب عدم وجود وريث للملك تشارلز الثاني، حيث أُبرمت اتفاقية "راشتات" بين فرنسا وإنجلترا والنمسا وروسيا، والتي قسمّت النفوذ في إسبانيا سياسياً وليس جغرافياً، أي تقاسم نفوذ يحفظ موازين القوى بين الفواعل المتنازعة.

د. جلال سلمي

متخصص في المعادلات الإقليمية والجيوسياسية في الشرق الأوسط