هل أصبحت كلف الحرب في غزة عاملا في وقفها؟
بعيدا عن النظر في الإنجازات المتحققة في تصورات أطراف الحرب، إلا أن الخسائر والمخاطر المرتبطة باستمرارها قد أصبحت عاملا في زيادة فرص التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وعليه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار مجموعة من المسارات المستقبلية المتعلقة بسير الحرب بعد ثمانية أشهر من اندلاعها.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٠٤/٠٦/٢٠٢٤
تدخل الحرب في قطاع غزة شهرها الثامن، وسط مجموعة من المتغيرات سواء في ميدانها، مع بدء إسرائيل عملياتها العسكرية في مدينة رفح، وسيطرتها على المعبر الوحيد للقطاع مع الخارج في 7 مايو 2024، أو في التعثر في مسار المفاوضات متعددة الأطراف لوقف الحرب منذ تراجعها في مطلع مايو، واستمرار الغموض حول نجاحها حتى بعد تبني الرئيس الأمريكي جو بايدن لمقترح هُدنة في الأول من يونيو، يفضي إلى وقف مستدام لإطلاق النار. وفي الواقع؛ تُحاط الحرب ومجرياتها بالمزيد من التعقيد، خاصة في ضوء خسائر أطرافها والتي يجب أن تؤخذ بالحسبان عند دراسة المسارات المستقبلية للحرب.
ما قبل التصعيد في رفح
شهد اليوم السابق لبدء العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح، إعلان حركة حماس في 6 مايو موافقتها على مقترح وقف إطلاق النار المقدم لها من الوسطاء المصريين والقطريين، وكان من المفترض أن يتوجه وفد من الحركة إلى القاهرة في 7 مايو لإنضاج الاتفاق. لكن نفاذ وقف إطلاق النار تعثر حينذاك برفض رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لاعتباره "بعيدا عن المطالب الأساسية" لإسرائيل، فضلاً عن تحذير حلفاء نتنياهو في الائتلاف الحكومي من قادة الأحزاب المتطرفة بالانسحاب من الحكومة في حال الموافقة على مسودة الاتفاق وعدم اجتياح رفح، وهذا ما يفسر سرعة اتخاذ قرار بدء الهجوم العسكري على رفح، والسيطرة على معبرها في 7 مايو.
ومنذ ذلك التاريخ اتخذت الحرب مساراً شديد التسارع والتصعيد، وعلى المستويين الميداني والسياسي، فيما بدا كأنه سباق مع -الوقت المحدود-المتاح لتحقيق أكبر قدر من الإنجازات وبشكل يُقلل إلى حد ما الحديث عن الخسائر المترتبة على الطرفين حال توقفت الحرب. ففي الحالة الإسرائيلية تسعى الحكومة لتحقيق اجتياح سريع لمدينة رفح قبل أن يبدأ المجتمع الدولي بتشديد دعواته وخطواته لوقف الحرب وارتفاع وتيرة الاحتجاجات المطالبة بإبرام صفقة لإطلاق المحتجزين وتصاعد خطاب المعارضة لذات السبب، حيث تميزت العمليات العسكرية الإسرائيلية في مدينة رفح بالكثافة بالرغم من العدد المحدود من القوات المشاركة (بحسب تصريح منسق الاتصالات الاستراتيجية لمجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي بأنه "لم نر بعد عملية عسكرية كبيرة في رفح تشمل تحريك آلاف القوات البرية إلى رفح")، مُقارنة مع حجمها في الاجتياحات السابقة للمدن في قطاع غزة، بالإضافة إلى توسع العمليات العسكرية لتشمل مناطق مختلفة من القطاع، من بينها مخيم جباليا.
في المُقابل؛ سعت حركة حماس للتركيز على العمليات النوعية، على ما يبدو لإظهار احتفاظها بقدرات نسبية في مواجهة إسرائيل بعد شهور من الحرب، فقد أعلنت للمرة الأولى منذ بداية الحرب عن أسرها لجنود إسرائيليين أثناء المعارك في مخيم جباليا في 25 مايو وهو ما نفاه الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى إطلاق الحركة صواريخ باتجاه تل أبيب وضواحيها في 26 مايو. وتحاول حركة حماس أن تُقدم لإسرائيل نموذجاً عن نشاطها في اليوم التالي للحرب، وتهدف لتعقيد حسابات إسرائيل والولايات المتحدة فيما يتعلق بمخططاتهم بشأن إدارة القطاع المستقبلية.
حالة أطراف الحرب بعد ثمانية أشهر من اندلاعها
إن مسار التصعيد العسكري الأخير، يعكس الحالة العامة لأطراف الحرب والفاعلين فيها والساحات المباشرة لها، إذ بالرغم من محاولات الأطراف البحث عن الإنجازات واستعراضها، إلا أنهم وخلال ثمانية أشهر تكبدوا خسائر سياسية وعسكرية وميدانية، وذلك بالتفصيل من حيث:
أولاً: قطاع غزة
سيطر الجيش الإسرائيلي على ما يقرب من 40% من مساحة قطاع غزة البالغة 365 كيلو متر مربع، ويعمل سلاح الهندسة في الجيش على إعادة رسم المعالم الجغرافية والديمغرافية للقطاع بما يخدم رؤية إسرائيل المستقبلية له، من خلال فصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه بطريق عسكري يبلغ عرضه 3 كيلومترات، وكذلك فصل شرق القطاع عن غربه بإنشاء الطريق (749)، وإقامة منطقة أمنية عازلة بعرض يتراوح بين 600 متر و1.6 كيلومتر، بالإضافة إلى سيطرتها الكاملة على معبر رفح ومحور فيلادلفيا على طول الحدود بين قطاع غزة ومصر.
إلى جانب إعادة الاحتلال لما يقرب من نصف مساحة القطاع، فقد عانت البنية التحتية من التدمير إما بشكل كامل أو جزئي، بما يشمله ذلك من طرق، وجامعات، ومدارس، ومستشفيات، ومؤسسات، ومياه، وكهرباء، وصرف صحي، ومساحات زراعية. وتقدر الأضرار التي طالت البنى التحتية بنحو 18.5 مليار دولار، وبما يعادل 97% من إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني عام 2022، حسب تقديرات البنك الدولي ووزارة الاقتصاد الفلسطينية.
ويُضاف إلى ذلك الخسائر البشرية، مع أكثر من 36 ألف شخص فقدوا حياتهم، وأكثر من 100 ألف مصاب، ومشهد النزوح الدائم، والمخاطر المرتبطة بنقص الغذاء والتلويح الأممي المستمر بحدوث مجاعة، وانتشار الأمراض، وهو ما وصفته جهات دولية عدة، من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، بأنه "لا يطاق" و "فوق قدرة الإنسان على التحمل".
ثانياً: حركة حماس
خسرت الحركة عدداً من قواعدها وشبكة أنفاقها ومقراتها الرسمية والحكومية، وفقدت السيطرة على الجانب الفلسطيني من معبر رفح، وبالرغم من عدم توفر إحصائيات رسمية دقيقة حول خسائرها لا سيما في عدد مقاتليها إلا أن العديد من ألويتها تم تفكيكها، وفقدت هيكلها القيادي في عدد من مناطق القطاع، وقُتل بعض قادتها السياسيين والعسكريين البارزين في القطاع ولبنان، من بينهم نائب رئيس مكتبها السياسي صالح العاروري، وجميلة الشنطي، وأيمن نوفل، وفائق المبحوح، وأحمد الغندور، وجواد أبو شمالة، وأبو همام المزيني.
من جهة أخرى؛ فقد تُقوض الخسائر التي لحقت بالحركة وهيكلها القيادي والحركي، قدرتها على إدارة قطاع غزة من جديد، حال انسحاب القوات الإسرائيلية، وعدم التوصل إلى بديل فلسطيني عنها. كما أن الحركة لن تكون قادرة على إدارة مستقبل القطاع وملفاته الرئيسية وفي مقدمتها إعادة الإعمار، دون تقديم تنازلات جدية، إما في مستوى خطابها أو في هيكلها القيادي، أو في موقفها من إسرائيل.
إلى جانب أن هجمات حماس في مناطق غلاف غزة، أوجدت حالة من عدم الثقة بينها وبين الوسطاء العرب، وتحديداً مع قطر إلى الحد الذي دفع المراقبين للتشكيك في قدرة الدوحة على استمرار احتواء الحركة، وتزايد المؤشرات بإعادة الدوحة النظر في علاقاتها مع حركة حماس، لا سيما مع بقاء خيار مغادرة المكتب السياسي للحركة من قطر إلى وجهة ثالثة مطروحاً وفقاً لمسارات الحرب والمفاوضات، ومستقبل القطاع وحدود دور الحركة في ذلك المستقبل.
بالإضافة إلى أن الحرب ربطت حركة حماس بشكل وثيق مع "محور المقاومة" الذي تقوده إيران، وقد كشفت المعطيات عن توفر تنسيق مباشر وغير مباشر ما بين الحركة وغيرها من أطراف المحور لا سيما إيران، وذلك لا يؤثر فقط في صورة الحركة لدى المجتمعات العربية، بل أيضاً في مجتمع القطاع حيث ترفض شرائح واسعة منه السياسات الإيرانية ومواقفها تجاه الدول العربية.
بالإضافة إلى أن الخسائر لم تقتصر فحسب على حركة حماس، بل على أطراف أخرى في "محور المقاومة"، وتحديداً إيران وحزب الله اللبناني، حيث فقدت طهران العديد من قادتها العسكريين في الضربات الإسرائيلية على سوريا، كما فقد حزب الله عدداً من قادته الميدانيين فيما أفادت التقارير أنه خسر ما يقرب 300 من مقاتليه منذ بدء التصعيد وحتى مايو 2024. لكن الأهم أن الحزب يتجه نحو تصعيد خارج عن قواعد الاشتباك.
ثالثاً: إسرائيل
أعلنت إسرائيل عن الحصيلة الأخيرة لخسائرها في الحرب حتى 8 مايو، بمقتل 614 ضابطاً وجندياً، من بينهم 266 قتلوا في العملية البرية داخل قطاع غزة، كما أصيب 3 آلاف و358 عسكريا، بينهم 520 أصيبوا بجروح بالغة الخطورة، بالإضافة إلى ما يقارب من 1200 إسرائيلي قُتلوا في هجمات الفصائل داخل مناطق غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023، واحتجازهم لحوالي 257 -بقي منهم 133 رهينة-حسب المصادر الإسرائيلية. بالإضافة إلى إجلاء ما يقارب 330 ألف إسرائيلي من منازلهم من الجنوب والشمال، كما بلغت خسائر إسرائيل الاقتصادية 5.2 مليار دولار في مستوطنات غلاف غزة، و 1.35 مليار دولار في مستوطنات الشمال، وبلغت الخسائر الشهرية في قطاعات الزراعة والسياحة والتجارة حوالي (540 مليون دولار، و 1.1 مليار دولار، و 1.62 مليار دولار) على التوالي، ما سبب عجزاً في الموازنة العامة بقيمة 7.1 مليار دولار (6.2%) حسب وزارة المالية الإسرائيلية، كما بلغت تكلفة الحرب اليومية منذ اندلاعها حتى أواخر ديسمبر 2023 (270 مليون دولار يومياً)، انخفضت خلال العام 2024 لتصل إلى (94 مليون دولار يومياً) حسب وزارة الأمن الإسرائيلية.
لكن الخسائر الإسرائيلية كانت بارزة على المستوى السياسي، وتحديداً في سمعتها الخارجية والمواقف الدولية المتغيرة من الحرب، خاصة بعد إعلان المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في 20 مايو عن نيته طلب إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقرار محكمة العدل الدولية في 24 مايو الذي يطالب إسرائيل أن توقف فوراً هجومها على مدينة رفح. فضلاً عن تغير الموقفين الأمريكي والأوروبي تجاه الحرب في قطاع غزة، مع نية الاتحاد الأوروبي مناقشة فرض عقوبات على إسرائيل إذا لم تمتثل لقرار محكمة العدل الدولية، وقد تشتمل تلك العقوبات على تعطيل العمل باتفاقية الشراكة الأوروبية معها.
كما ازدادت الأزمة داخل إسرائيل، والتي من المحتمل أن تتفاقم في ضوء النقاشات بين أطرافها حول مقترح وقت إطلاق النار الذي عرضه بايدن في خطابه مطلع يونيو، والذي طرح فيه خطة من ثلاث مراحل تنتهي بوقف مستدام لإطلاق النار، وهو الأمر الذي أعلنت الأطراف المتطرفة في الائتلاف الحكومي عن رفضه، ولوحت بالانسحاب من الحكومة، علاوة على الأزمة ما بين أعضاء مجلس الحرب، مع التوقعات بتنفيذ الوزير في المجلس بيني غانتس تحذيره بالاستقالة في 8 يونيو، وسط دعوات من المعارضة بإجراء انتخابات برلمانية مُبكرة، والإعلان في 29 مايو عن اتفاق بين زعيم المعارضة يائير لابيد ورئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان ورئيس حزب اليمين الوطني جدعون ساعر على خطة عمل لإسقاط الحكومة الحالية، ودعوتهم لغانتس للاستقالة والانضمام إليهم.
مسارات الحرب في ضوء خسائر الطرفين
بعيداً عن النظر في الإنجازات المتحققة في تصورات أطراف الحرب، إلا أن هناك سؤال رئيسي؛ حول ما إذا كانت الخسائر المترتبة عن الحرب حتى اللحظة، عاملاً من عوامل وقف إطلاق النار، وأن وضع حد لتلك الخسائر أصبح هدفاً رئيسياً إلى جانب أهداف الحرب ذاتها؟ ومن ذلك السؤال يُمكن استعراض المسارات المستقبلية المتعلقة بسير الحرب بعد ثمانية أشهر من اندلاعها، والتي تتمثل فيما يلي:
المسار الأول: أن يُشكل خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي قدم خلاله مقترحاً لوقف إطلاق النار، مخرجاً لأطراف الحرب، وفرصة لتراجعها خطوة إلى الوراء. وقد يُفهم التصعيد الأخير بكونه المشهد السابق لوقف إطلاق النار، والذي يسمح للطرفين "ادعاء النصر"، ويمنح كليهما مساحة مقبولة لتقديم التنازلات، دون الإضرار بصورة كل منهما عند جمهوره وحلفائه. ومن المحتمل أن يتبلور مقترح بايدن ليشكل هدنة طويلة الأمد، قد تتطور إلى مفاوضات للوصول إلى وقف مستدام لإطلاق النار، ويتعزز هذا الاحتمال بالأخذ بتصريحات رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي بأن "80% من الأهداف العسكرية للحرب قد تحققت، وما تبقى سيستغرق وقتاً"، وتصريحات الوزير في "مجلس الحرب" الإسرائيلي غادي آيزنكوت حول أن "حركة حماس تجدد قوتها، وأن قتالها سيستمر سنوات طويلة، لذا فإنّ التوصّل إلى صفقة رهائن، هو ضرورة إستراتيجية".
المسار الثاني: تعثر مفاوضات التهدئة، واستمرار الحرب في قطاع غزة، مع اتخاذها طابعاً تكتيكياً أكثر بعد سيطرة إسرائيل على معبر رفح وشريط الحدود الفلسطينية المصرية بشكل كامل، وبعد إحكام السيطرة الإسرائيلية على شمال قطاع غزة بوصفه منطقة قيادة السيطرة الميدانية الإسرائيلية على كامل القطاع، ومما يعزز هذا الاحتمال تصريحات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، وهو من أقطاب حزب الليكود ومقرب من نتنياهو، حول أنّ "القتال في قطاع غزة سيستمر سبعة أشهر أخرى على الأقل". وذلك يعني أن طرفي الحرب قد يدخلان في معارك طويلة الأمد لاستنزاف قدرات الآخر، ما يعني بالنسبة لقطاع غزة ارتفاع في الكلف الإنسانية وفي استمرار غياب البنى التحتية، وبالنسبة لإسرائيل مواجهة أنماط جديدة من الحروب الهجينة، سواء عبر الكمائن أو الاختطافات أو نشاط القناصة وغيرها.
المسار الثالث: أن تدفع الخسائر والمخاطر المرتبطة باستمرار الحرب، إلى حدوث تغيرات جوهرية في الداخل الإسرائيلي، لا سيما بحل مجلس الحرب، والذهاب إلى انتخابات مُبكرة، يُرجح أن تفوز بها المعارضة وفق آخر استطلاعات للرأي، وهذا يزيد من فرص تشكيل حكومة أكثر استجابة لرؤية الإدارة الأمريكية بوقف الحرب وتحقيق ما تبقى من أهدافها عبر الدبلوماسية، وذلك من أجل إتاحة الوقت أمام الرئيس الأمريكي جو بايدن للتركيز على الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر 2024، وتركيز الجهد الاستراتيجي الأمريكي نحو التصعيد الحاصل في الأراضي الأوكرانية.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات