ماذا بعد الاجتياح الإسرائيلي لمدينة جنين؟
يتناول تقدير الموقف الاجتياح الإسرائيلي الأخير لمدينة جنين ومخيمها ومجموعة الظروف المواكبة لهذا الاجتياح، وكذلك الأبعاد السياسية والأمنية وراءه، ويتطرق إلى معالم تعزيز سيطرة السلطة الفلسطينية على شمال الضفة الغربية.
الكاتب حازم سالم الضمور
- تاريخ النشر – ٢٣/٠٧/٢٠٢٣
يطرح الاجتياح الإسرائيلي لمدينة جنين ومخيمها في الثالث من يوليو 2023 العديد من الأسئلة، حول أهدافه وأبعاده السياسية والأمنية على المستويين الفلسطيني والإسرائيلي، وكذلك حول النتائج المتوقعة منه في المديين القريب والمتوسط، خاصة في ظل تقاطع أو اختلاف زوايا النظر الرسمية للاجتياح بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وموقف حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" على الصعيدين السياسي والميداني.
الظروف المواكبة للاجتياح
جاء الاجتياح الإسرائيلي لمدينة جنين ومخيمها تحت ضغط مجموعة مركبة من الظروف في الداخل الإسرائيلي وفي الضفة الغربية، منها المخاوف الإسرائيلية بتحول جنين إلى بؤرة لتمركز المجموعات المسلحة وقاعدة لانطلاق العمليات العسكرية ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في الضفة الغربية، إذ شهدت الفترة السابقة تزايد في الحديث الإسرائيلي بشأن تآكل قوة الردع الإسرائيلية تجاه المجموعات الفلسطينية المسلحة بعد تمكنها من تنفيذ سلسلة من عمليات إطلاق النار ضد القوات الإسرائيلية والمستوطنين وتحديداً في مناطق شمال الضفة الغربية، بالإضافة إلى إظهار تلك المجموعات أساليب وتكتيكات جديدة سواء في تصديها للاقتحامات الإسرائيلية أو في تنفيذها لعمليات إطلاق النار.
يأتي ذلك في وقت تزايدت خلاله قوة ونفوذ حركة "حماس" في الضفة الغربية، وظهرت فيه مؤشرات على دعم إيران وحزب الله للمجموعات المسلحة، خاصة في مجالات التدريب ونقل تقنيات إعداد العبوات الناسفة والصواريخ، وهذا ما جعل من الضفة الغربية واحدة من الساحات المتعددة التي تسعى طهران إلى استنزاف وتطويق إسرائيل بها.
من هنا؛ تصاعدت الدعوات في الداخل الإسرائيلي لتحييد الضفة الغربية عن أي تصعيد إسرائيلي-إيراني، بوصفها الحديقة الخلفية لإسرائيل وساحة تتطلب التهدئة، وبينما عجزت تل أبيب عن إرساء الهدوء في الضفة الغربية بقدر ما شكلت عاملاً من عوامل تصعيد العنف فيها، برزت دعوات ومطالب إسرائيلية وأمريكية لمنح السلطة الفلسطينية الفرصة لإعادة سيطرتها في مناطق شمال الضفة الغربية.
الأبعاد السياسية والأمنية وراء اجتياح جنين
يتمثل البعد الرئيسي في عملية اجتياح جنين ومخيمها في سعي إسرائيل لمنح السلطة الفلسطينية الفرصة لإعادة سيطرتها الأمنية على شمال الضفة الغربية بشكل عام، ومنطقة جنين بشكل خاص، حيث عمل الاجتياح على تمهيد الطريق الأمني وتوفير المناخات السياسية والاجتماعية الداخلية التي تحتاجها السلطة للتدخل الأمني في جنين.
ورغم اختلاف زوايا النظر لعملية الاجتياح الإسرائيلي لجنين ومخيمها ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل من النواحي الرسمية والإعلامية، إلا أنّ كلا المنظورين يتكاملان عند نقطة مركزية واحدة هي الحرص على عدم انهيار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية انطلاقاً من جنين ومخيمها.
في المنظور الإسرائيلي المركب والإشكالي ينحسر نفوذ السلطة الفلسطينية مقابل تنامي قوة "حماس" و"الجهاد" في جنين، وهو ما قد يُنذر بانهيار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية على المدى المتوسط، وهذا غير وارد في حسابات الحكومة الإسرائيلية. لكن في الوقت نفسه تواجه إسرائيل معضلة أحزاب الصهيونية الدينية التي تضغط أطرافها لتقييد سيطرة السلطة في الضفة الغربية.
في المقابل يعترف المنظور الفلسطيني بضعف السلطة وتراجع سيطرتها الأمنية في جنين، ويعيش حالة معقدة لا يستطيع من خلالها مواجهة المجموعات المسلحة في جنين بشكل مباشر لأسباب كثيرة، سياسية وتنظيمية واجتماعية وحتى لوجستية، لكنه يحمّل إسرائيل مسؤولية كل ذلك.
من هنا يتقاطع المنظوران بطريقة تمهّد الخطوات الأولى لإعادة السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية على جنين ومخيمها من جانب، وتمنح رئيس الحكومة الإسرائيلية هامشاً ضئيلاً للمناورة أمام شركائه في الائتلاف من اليمين المتطرف، يستطيع من خلالها المساعدة في بقاء السلطة واستمرار دورها الأمني من جانب آخر، وكل ذلك تحت عنوان عدم انهيار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية انطلاقاً من جنين ومخيمها.
معالم تعزيز سيطرة السلطة على شمال الضفة
بدأت معالم تعزيز سيطرة السلطة الفلسطينية على شمال الضفة الغربية تتحقق بشكل سريع بعد انتهاء الاجتياح الإسرائيلي لجنين ومخيمها، وأهم تلك المعالم حتى اللحظة تمثلت في:
أولاً: قيام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بزيارة مدينة جنين ومخيمها في الثاني عشر من يوليو برفقة مجموعة من مسؤولي وقيادات حركة "فتح"، وهي زيارة نادرة تحمل الكثير من الدلالات الرمزية والمعنوية، لكنها تحمل إشارة إلى عزم الرئيس عباس على فرض وجود السلطة وإعادة هيبتها في منطقة جنين ومخيمها.
ثانياً: قيام قوات الأمن الفلسطينية، وخاصة قوات النخبة في الأمن الوطني الفلسطيني (وحدة العمليات الخاصة 101) بالانتشار في مدينة جنين ومخيمها، بالتزامن مع بدء قوات الأمن الفلسطينية بتنفيذ اعتقالات لنشطاء مسلحين كما حصل في قرية جبع في منطقة جنين في 17 يوليو.
ثالثاً: قيام المستوى الرسمي الفلسطيني بإصدار بيانات حازمة تحذر من المساس بسيادة القانون، وتؤكد عزم قوات الأمن الفلسطينية على فرض النظام في جنين، كما جاء في بيان وزارة الداخلية الفلسطينية في 17 يوليو، وتصريحات محافظ جنين أكرم الرجوب يوم 12 يوليو بأن جولة الرئيس عباس إلى جنين ومخيمها، لاقت ترحيبا واسعا من المواطنين كافة، وتحديدا في مخيم جنين، ومثلت رسالة واضحة عبرت عن مسؤولية الرئيس تجاه الشعب.
رابعاً: قيام حركة فتح بنقل موقف السلطة الفلسطينية إلى المستويات التنظيمية والجماهيرية والعسكرية عبر كتائب شهداء الأقصى، بما يعزز موقف السلطة وقوات الأمن الفلسطينية، ويمنح ذلك الموقف زخماً غير رسمي، لكنه مهم، من خلال توجيه رسائل تحذير لحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في جنين بشكل خاص، والضفة الغربية بشكل عام.
خامساً: عدم قيام القوات الإسرائيلية بتنفيذ عمليات عسكرية أو أمنية في منطقة جنين بعد الاجتياح الأخير.
وحتى اللحظة تبدو المؤشرات في صالح استمرار السلطة وقوات الأمن الفلسطينية وحركة فتح في إعادة سيطرة السلطة وفرض سيادتها الأمنية على منطقة جنين، ثم توسّع سيطرتها إلى المناطق الأخرى في الضفة الغربية التي ينشط فيها مسلحو حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، خاصة منطقة طولكرم ومخيم عقبة جبر في أريحا، وذلك بالاستفادة من نجاح تجربة السلطة والأجهزة الأمنية الفلسطينية في احتواء ظاهرة "عرين الأسود" في منطقة نابلس.
ففي حالة نابلس استطاعت السلطة الفلسطينية احتواء ظاهرة المجموعات المسلحة من خلال تعزيز قبضتها الأمنية في مواجهة عناصر "حماس" ومموليها، وعبر الأساليب الناعمة بإقناع العشرات من المسلحين بتسليم أنفسهم لقوى الأمن الفلسطينية لحمايتهم من قوات الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى توظيف حركة فتح وكتائب شهداء الأقصى لدعم سياسات السلطة وقوى الأمن الفلسطينية تنظيمياً وشعبياً وإعلاميا، وهذا النجاح في الاحتواء في منطقة نابلس يزيد من فرص نجاح السلطة في مناطق أخرى من جانب، وتطوير الأساليب المستخدمة فيه من جانب آخر.
تحدي التعامل مع حركتي "حماس" و"الجهاد"
تشترك حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الموقف الرافض لإجراءات السلطة الفلسطينية الأخيرة في منطقة جنين، رغم أنّ ذلك الرفض لا يعني بالضرورة تماهي الأسباب أو تنسيق ردود الفعل فيما بين الحركتين في مواجهة تلك الإجراءات.
"حماس" من ناحيتها تسعى لتصعيد الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية باستمرار، ومن المتوقع أن يتواصل ذلك السعي من خلال تنفيذ عمليات عسكرية بين الحين والآخر، لكنها بعد اجتياح جنين ستنتقل إلى مستوى آخر من التصعيد الإعلامي والشعبي الذي يستهدف تأليب المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية على السلطة وقوى الأمن الفلسطينية، وصولاً إلى ما يشبه الانتفاضة الشعبية الموجهة ضد السلطة وممارساتها، خاصة في حالة اشتداد حملة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على نشطاء "حماس"، لكنّ الحال يبدو مختلفاً في حالة حركة "الجهاد الإسلامي" التي ستواصل تطوير قدراتها العسكرية وتنفيذ عمليات نوعية، لكن دون التورط في صدامات مع السلطة وأجهزتها الأمنية.
وأخيراً؛ يرتبط الاجتياح الإسرائيلي لجنين ومخيمها بتفاهمات ضمنية تمنح السلطة الفلسطينية سيطرة في جنين ومناطق أخرى في الضفة الغربية بهدف إرساء الهدوء ووقف الاستفزازات الإسرائيلية التي أدت إلى تصعيد العنف فيها. مع ذلك فإن مستقبل السلطة الفلسطينية مرهون بجملة من العوامل والمتغيرات الإسرائيلية والإقليمية والدولية التي لا يمكن إغفالها مهما التزمت السلطة بتلك التفاهمات أو بغيرها، ومن تلك العوامل والمتغيرات:
أولاً: سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية وقدرتها على الخروج من أزماتها الداخلية من جانب، وقدرة رئيسها على احتواء معارضة شركائه في الائتلاف الحكومي "أحزاب الصهيونية الدينية" لأي تعاون أو تنسيق مع السلطة الفلسطينية من جانب آخر.
ثانياً: الموقفين الأردني والمصري باعتبار دوريهما المركزيين في تفاهمات العقبة وشرم الشيخ، واستمرار الضغوط الأردنية والمصرية على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني لإنجاح تلك التفاهمات منعاً لانهيار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية.
ثالثاً: الموقف الأمريكي الرافض لعدد من سياسات حكومة نتنياهو، واحتمالات تطور ذلك الموقف إلى إجراءات أكثر وضوحاً وحزماً تجاه إسرائيل وحكومتها.
رابعاً: هشاشة الحالة الفلسطينية، حيث يمكن لأي حدث أمني "استثنائي" في الضفة الغربية أو داخل إسرائيل أو على حدودها الشمالية أو الشرقية قلب الموازين وتسريع الانهيار، كنجاح المجموعات المسلحة الفلسطينية في إطلاق صواريخ أو مسيرات مفخخة انطلاقاً من الضفة الغربية، أو تنفيذ عمليات نوعية داخل إسرائيل، أو انفجار التصعيد على الحدود الشمالية في ظل استمرار التوتر بين إسرائيل من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى.
حازم سالم الضمور
مدير عام المركز/ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية