مؤتمر ميونخ 2023 ومفترق الطرق في النظام العالمي الحالي
تحليل سياسات | يتناول التحليل مؤتمر ميونخ للأمن بدورته التاسعة والخمسين Munich Security Conference 2023، الذي انعقد في ظل عدة مُفارقات على الصعيد الدولي كمرور عام على اندلاع الأزمة الأوكرانية، وتصاعد التوتر ما بين الصين والولايات المتحدة، وارتفاع منسوب التصعيد بين الكوريتين، وإعلان اليابان عن تحول استراتيجي في عقيدتها العسكرية، بالتزامن مع التجارب الباليستية لكوريا الشمالية في المياه الإقليمية المحيطة في كل من كوريا الجنوبية واليابان.
الكاتب حازم سالم الضمور
- تاريخ النشر – ٠٦/٠٣/٢٠٢٣
جاء انعقاد مؤتمر ميونخ للأمن بدورته التاسعة والخمسين Munich Security Conference 2023، في الفترة من (17-19) فبراير 2023، بالتزامن مع مُفارقات عدة على الصعيد الدولي، فبعد أن شهد المؤتمر بدورته السابقة الـ(58) خطاباً تصعيدياً للغرب لثني العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإن المؤتمر بدورته الأخيرة، تزامن مع مرور عام على اندلاع الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى تصاعد التوتر ما بين الصين والولايات المتحدة، بعد اتهام الأخيرة لبكين بإرسال منطاد تجسسي فوق الأراضي الأمريكية، فضلاً عن ارتفاع منسوب التصعيد بين الكوريتين، إثر زيادة المُناورات الكورية الجنوبية مع الولايات المتحدة، وإعلان اليابان عن تحول استراتيجي في عقيدتها العسكرية، بالتزامن مع التجارب الباليستية المكثفة التي تُجريها كوريا الشمالية في المياه الإقليمية المحيطة في كل من كوريا الجنوبية واليابان.
وقد شهد المؤتمر على مدار ثلاثة أيام، مشاركة واسعة لممثلي 96 دولة، من قادة وصناع قرار وخبراء ومسؤولي منظمات دولية وغير حكومية، وفي ظل غياب التمثيل الرسمي لكل من روسيا وإيران، حيث لم توجه لهما الدعوة للمشاركة في المؤتمر، في نفس الوقت الذي تم فيه دعوة رموز من المعارضة الروسية والإيرانية للمشاركة.
نقطة التحول في النظام العالمي
يُعد مؤتمر ميونخ منصة هامة لفهم الكيفية التي تُفكر بها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، خاصة فيما يتعلق بالتحديات التي تطال النظام العالمي القائم والتهديدات الأمنية الدولية، وقد يكون مؤتمر ميونخ بدورته الأخيرة أقر للمرة الأولى أن النظام العالمي أصبح على أعتاب التعددية القطبية، حيث قسّم تقرير المؤتمر العالم إلى معسكرين: يضم المُعسكر الأول الدول "الديمقراطية"، فيما المعسكر الثاني تمثله الدول التي تم وصفها بـ"الاستبدادية"، ويحكم التنافس ما بين المعسكرين مستقبل النظام الدولي، في ظل تعاظم جهود المُعسكر الثاني المُتمثل بروسيا والصين لإعادة تشكيل قواعد وقيم النظام الدولي، وما العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلا مثال على تلك الجهود.
إلا أن مُعارضة قواعد النظام الدولي القائم، لم تعد حصراً على الصين وروسيا، بل تطال أيضاً تلك الدول التي امتنعت عن إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لا سيما العديد من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وهو ما يُظهر حالة الاستياء الكبيرة لدى تلك الدول من النظام الدولي الحالي، ويجعل من السهل استمالتها لتقويض قواعد ومبادئ هذا النظام من قبل روسيا والصين وفقاً للتقرير.
وفي الواقع، لم يُفلح المؤتمر في تقديم نفسه كمنصة عالمية لنقاش التحديات والتهديدات، حيث جاء نقاش مختلف المواضيع من منطلق التنافس بين المُعسكرين، واستمراراً لمنطق النقاش في اجتماعات حلف الناتو، وبذات الصيغ التي يطرحها القادة في مجموعة السبع، من ناحية الإشارة إلى القلق الكبير الذي ينتاب الغرب إزاء مستقبل "هيمنته"، ومن جهة أن المؤتمر يُبرز حدة التنافسات والصراعات بين المُعسكرين بدلاً من تقديم حلول مُشتركة لملفات حقوق الإنسان والبنى التحتية والرقمية والتعاون الإنمائي والطاقة والتغير المناخي والتهديدات النووية والاستراتيجية، التي أصبحت موضعاً للخلاف والجدل، ومثار للانقسام وسط التنافسات الجيوسياسية، ومساعي كل من المُعسكرين لنشر نموذجهما حول العالم.
منظور مؤتمر ميونخ 2023 لاتجاهات النظام العالمي
رغم أن مؤتمر ميونخ للأمن لا يصنع السياسية، إلا أنه يقدم دلالات هامة على توجه مصادر القلق التي تنتاب الكتلة الأطلسية، والعلاقات ما بين الشمال والجنوب، والمخاطر المُحدقة في النظام العالمي وقواعده، وبذلك فإن مُتابعة ما طُرح في المؤتمر من قضايا وإشكاليات يعطي مؤشرات ودلالات مُتسقبلية على اتجاهات النظام الدولي.
لقد جاء مؤتمر ميونخ عام 2020، ليتحدث عن "لم شمل الأسرة الغربية" قبل توقفه بسبب جائحة كوفيد-19، ليعود مرة أخرى في العام 2022 ليكشف عن حالة عجز الدول "الديمقراطية" في مواجهة التحديات العالمية، والتهديدات التي تطال "ديمقراطية" الغرب، حيث عبّر المؤتمر حينذاك عن الانقسامات والتوترات في الكُتلة الأطلسية، وتحديداً خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي عمقت سياساته من الأزمات في الجسد الأطلسي.
لكن المؤتمر في دورته الأخيرة، عكس هيمنة السياسة الغربية على أروقته، والموقف المُوحد من الأزمة الأوكرانية، واتساق الرؤية الأوروبية الأمريكية خاصة تجاه كل من الصين وروسيا، وهي الفُرصة التي أتاحتها الأزمة الأوكرانية حيث وحدت نظرة الدول الغربية للمخاطر على القارة الأوروبية وعلى الديمقراطية ذاتها، لكنها كشفت مُقابل ذلك عن اتجاه مُعارض للنظام الدولي، انتقل من خانة النظريات التي مثلتها كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن في العام 2007 حينما هاجم فكرة النظام الدولي أحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بالقول "لا أحد يشعر بالأمان في عالم أحادي القطب"، إلى التطبيق الفعلي لتلك الرؤى بعد العملية العسكرية في أوكرانيا.
وهذا الهجوم في نظر الغرب، لا يستهدف كييف بقدر ما يسعى لخلخلة أركان النظام العالمي القائم وقواعده، وهكذا وصفها تقرير المؤتمر بأنها من هجوم على "المبادئ الأساسية لقواعد النظام الدولي، الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية". وبالتالي فإن الموقف الغربي من الأزمة الأوكرانية هو حالة من دفاع المعسكر "الديمقراطي" في مواجهة إجراءات المعسكر "الاستبدادي"، وبالتالي تُعد الأزمة الأوكرانية نموذجاً مستقبلياً لما سيشهده النظام العالمي، فمن شأن نجاح وانتصار روسيا بالقوة أن يُشكل حافزاً للصين لتجاوز أزمتها مع تايوان، ولإدراك الغرب تلك الحقيقة نجده قدم كافة أشكال الدعم إلى أوكرانيا باستثناء المواجهة المُباشرة مع روسيا.
شهد مؤتمر ميونخ للأمن بدورته الأخيرة، تركيزاً على الأزمة الأوكرانية على وجه التحديد، ومُستوى مُرتفع من الخطاب المضاد لروسيا، حيث وجهت نائب الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس، لروسيا تُهم ارتكاب "جرائم ضد الإنسانية" منذ بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ما يستوجب "تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة".
بالتزامن مع ذلك تستمر الولايات المُتحدة في تقديم الدعم لأوكرانيا، حيث أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء زيارته للعاصمة الأوكرانية كييف في 20 فبراير 2023، أن واشنطن ستقدم دعماً عسكرياً جديداً لأوكرانيا بقيمة 500 مليون دولار تشمل ذخيرة المدفعية والأنظمة المضادة للدروع ورادارات المراقبة، بالإضافة إلى إعلان عقوبات إضافية على الشركات التي تحاول التهرب من العقوبات وتدعم آلة الحرب الروسية.
في حين أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال كلمته في المؤتمر، إلى ضرورة زيادة الدعم لأوكرانيا لتمكينها من الصمود والقيام بهجوم مضاد يسمح لها بالدخول في تفاوض ذي مصداقية، وأن الحلفاء الغربيين جاهزون لنزاع طويل الأمد في أوكرانيا، وأنّ "الوقت الآن ليس للحوار أو التفاوض، فقد اختارت روسيا الحرب ويجب مواجهتها"، داعياً الأوروبيين والأميركيين ومجموعتي السبع والعشرين إلى الاستثمار أكثر في مجال الدفاع، والحوار مع الشركاء لتعزيز الردع الفرنسي والأوروبي، مشيراً إلى ضرورة التفكير في تعزيز قوة الردع النووي في أوروبا. فيما حث رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك حلفاء أوكرانيا إلى "مضاعفة" دعمهم، وأكد رئيس الوزراء البولندي أن بلاده مستعدة لدعم أوكرانيا بطائراتها المقاتلة من طراز ميغ، لكن فقط إذا تم تشكيل تحالف أوسع بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
العودة لعصر الصراع ما بين مُعسكرين
يُواجه النظام العالمي القائم نُقطة انعطاف في التنافس والصراع ما بين المُعسكرين، وهي مرحلة أشبه ما تكون في عودة أجواء "الحرب الباردة" ما بين المُعسكر السوفيتي والغربي، ولعل حيثيات مؤتمر ميونخ للأمن غير كافية للإحاطة بتلك الأجواء بمعزل عن توجهات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي وصف في ورقته الاستراتيجية؛ الصين بأنها تحدٍ أمني، بعد اجتماع للدول الأعضاء في حلف الناتو في العاصمة الإسبانية مدريد في يونيو 2022، وهو تطور يعكس تخوف الغرب من تنامي العلاقات الروسية الصينية، في مُواجهة دول الناتو بقيادة الولايات المُتحدة، وقد أعاد الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج، في مؤتمر ميونخ التحذير من تطور تلك العُلاقة، داعياً الدول المؤمنة بـ "الديمقراطية والحرية" للوقوف معاً لمواجهة "قوى الاستبداد".
إن إدراك الصين كواحدة من التحديات التي تواجه دول الناتو، يُمهد في الواقع لموجة جديدة من العسكرة ولسباق التسلح، فقد شهدت ألمانيا بالفعل نقطة تحول تاريخية في سياستها الدفاعية والعسكرية، وقد أكد المستشار الألماني في مؤتمر ميونخ، عزم بلاده زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج الإجمالي المحلي بشكل دائم، بالتزامن مع تغيير اليابان استراتيجيتها الدفاعية التي تبنتها بعد الحرب العالمية الثانية، والقائمة على استبعاد القوة في تسوية النزاعات، مُقابل مُضاعفة إنفاقها الدفاعي على مدى السنوات الخمس القادمة.
ومن شأن إدراج الصين كواحدة من التحديات الأمنية أمام حلف الناتو، أن ينزع عن الأخير "إقليميته" ليتوسع في فضاءات دولية ويتمدد في نشاطاته ليشمل الإندوباسيفك.
وفي مُقابل الرؤية الاستراتيجية لحلف الناتو يمكن قراءة ملامح التحالف العسكري ومستقبله ما بين روسيا والصين، وهو تحالف كان قد حذر منه نائب وزير الدفاع للشؤون السياسية، كولين كاهل في نوفمبر 2022 بقوله: "إنّ علينا أن نتوقع تعميق العلاقات بين روسيا والصين"، حيث أنّ البلدين "أكثر رغبة في الإشارة إلى أنهما يتجهان صوب التحالف وليس مجرد شراكة ظاهرية"، مشيراً إلى المناورات العسكرية الروسية الصينية المشتركة التي شارك فيها 50 ألفاً من الجنود في سبتمبر 2022.
ورغم أنه من المبكر توقع مدى تأثير العلاقات العسكرية الروسية الصينية على مستقبل النظام الدولي، إلا أنّ تلك العلاقات قطعت شوطاً كبيراً في اتجاه تعزيز التحالف الروسي الصيني، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل في كافة المستويات الاستراتيجية، خاصة من ناحية التقدم لفرض "السيطرة على غرب الباسيفيك من مياهه الباردة في الشمال حيث بحر أخوتسك وحتى المياه الدافئة في بحر الصين الجنوبي"، باعتبار ذلك بوابة الدولتين لتغيير قواعد النظام الدولي الراهن.
وفي الختام؛ رغم طبيعة دور مؤتمر ميونخ للأمن الذي يقتصر على استعراض المخاطر التي تهدد الأمن الدولي، إلا أنّ دلالات انعقاده من حيث التوقيت والمشاركين وأجندات البحث؛ تحمل الكثير من المؤشرات، فالمؤتمر جاء بعد عام من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهو عام "التغيرات الجذرية" بالنسبة للعالم بأسره بشكل عام، وبالنسبة لأوروبا وحلف الناتو بشكل خاص، وهو العام الذي كثّف جملة المخاوف والتوقعات التي لخصها تقرير المؤتمر، وبالتالي الاستراتيجيات المستقبلية الممكنة، والتي يمكن توقع بعضها في مسارات متعددة، كزيادة الضغط على روسيا سياسياً وعسكرياً وقانونياً، والسعي لاستمالة الصين ومحاولة إضعاف تحالفها مع روسيا، لتجاوز نقطة الانعطاف في النظام الدولي الحالي.
حازم سالم الضمور
مدير عام المركز/ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية