بزشكيان في العراق: مناورة سياسية أم زيارة استراتيجية؟

تطرح زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى العراق، عدة تساؤلات حول مستقبل العلاقة العراقية الإيرانية. وهل يكون العراق مقبلاً على تغييرات جذرية وحاسمة؟ ومع ذلك تُشير قراءة العوامل والمتغيرات أن التغيير في العراق لن يؤثر في علاقاته بإيران سياسياً أو أمنياً. إذ أن علاقات الدولتين شديدة الارتباط وتتجاوز التغييرات السياسية والظروف الداخلية والخارجية.

الكاتب د. رنا خالد
  • تاريخ النشر – ١١‏/٠٩‏/٢٠٢٤

توجه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى العراق في 11 سبتمبر 2024، في زيارة رسمية هي الأولى له خارجياً منذ توليه منصبه في 6 يوليو، والتي تأتي في ظل العديد من الملفات المُعقدة التي تشهدها المنطقة، بالتزامن مع الحرب في قطاع غزة، وفي ضوء ملفات عدة مُشتركة تجمع الدولتين على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية. وتعتبر هذه الزيارة للعراق هي الثالثة لرئيس إيراني منذ "الثورة الإيرانية" عام 1979 وكذلك منذ تغيير نظام الحُكم في العراق عام 2003، إذ كانت الزيارة الأولى للرئيس محمود أحمدي نجاد في 2008، والثانية للرئيس حسن روحاني في 2019، في حين زارها الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي عام 2021 بصفته رئيساً للسلطة القضائية، وفي مايو 2024 تداولت أنباء رسمية أن زيارة العراق على جدول أعمال الرئيس قبل وفاته بحادثة تحطم الطائرة الرئاسية في 20 مايو 2024. في المُقابل؛ فإن جميع رؤساء العراق منذ العام 2003، زاروا إيران مرة على الأقل، وينطبق ذلك على رؤساء الوزراء الذي يزورون إيران بمتوسط مرة كل 6 أشهر.

دلالات اختيار العراق كجهة أولى

ترتبط زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى العراق بالزيارة التي كانت مُقررة لسلفه إبراهيم رئيسي، وتعكس أهمية العلاقات بين الدولتين، وما يربطهما من ملفات أمنية واقتصادية وسياسية مُشتركة. مع ذلك؛ فهي تأتي في سياق تُسيطر فيه القضايا الأمنية على الأجندة الإيرانية، لا سيما في ضوء ترقب ردها على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية أثناء استضافته في طهران في 31 يوليو 2024، والذي كشف عن حجم التُفوق المعلوماتي والاستخباراتي الإسرائيلي، الذي طالما اتهمت إيران جيرانها بتغذيته وتحديداً أذربيجان وإقليم كردستان باعتبارهما ساحات رئيسية لنشاط أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ضدها. وإلى جانب ذلك؛ فإن الزيارة تحمل العديد من الرسائل والدلالات التي يُمكن تسليط الضوء عليها، وهي كالآتي:

أولاً: توجه الزيارة رسالة إلى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بشأن المصالح الحيوية والاستراتيجية لإيران في العراق، وحول أولويته في ترتيبات الأمن والدفاع الإيراني للمرحلة التالية من الحرب في قطاع غزة. ولذلك تشمل زيارة الرئيس جولة في معظم المدن العراقية الرئيسة، ومن بينها العاصمة بغداد، والبصرة، وأربيل.

ثانياً: تعكس الزيارة تصاعد النفوذ الإيراني في العراق، وذروة انخراطها في شؤونه الداخلية، بدلالة الجولة الواسعة له داخل العراق، مُقارنة بغيره من الرؤساء، إذ أن الرئيس التركي رجب أردوغان الذي زار العراق للمرة الأولى منذ قُرابة العقد في 22 أبريل 2024، لم يقم بزيارة البصرة، بالرغم من إشارة المسؤولين الأتراك إلى إمكانية زيارتها من قبل أردوغان، ولموقعها المحوري في مشروع طريق التنمية الممتدة من البصرة إلى تركيا.

ثالثاً: تؤكد الزيارة التزام إيران بدعم وكلائها من الفصائل المُسلحة في العراق، والذي كان يقتصر قبل الحرب في قطاع غزة على الدعم المُقدم من الحرس الثوري وفيلق القدس، لكنه بات يشمل بشكل علني المستوى السياسي ممثلاً بالرئاسة والحكومة الإيرانية، ويأتي ذلك بعد اعتقاد بعض المراقبين أن الحكومة الإصلاحية في طهران قد تكون أكثر حذراً في دعم وإسناد الفصائل المُسلحة في المنطقة. ويبدو أن مجريات الحرب في قطاع غزة، وانخراط الفصائل العراقية فيها كجبهة ثانوية، قد دفع طهران لتقديم كافة أشكال الدعم والإسناد المادي والمعنوي لها، خاصة بعد الضربات المُتبادلة بين تلك الفصائل والقوات الأمريكية، ولدورها في الاستراتيجية الإيرانية الأوسع للضغط على القوات الأمريكية لمغادرة العراق وسوريا. إلى جانب أن تأخر إيران بالرد على اغتيال إسماعيل هنية، وربما تأجيله إلى أجل غير مُسمى، خاصة بعد الضربة الاستباقية الإسرائيلية التي عرقلت رد حزب الله على اغتيال قائده شكر، يفرض على طهران تعزيز تواصلها مع تلك الفصائل لتعزيز معنوياتها وأدوارها في المنطقة.

بزشكيان-في-العراق-مناورة-سياسية-أم-زيارة-استراتيجية-in-1.jpg

رابعاً: تعزيز العلاقة الاقتصادية، وهي رسالة مُهمة مُوجه إلى الداخل الإيراني أولاً، حيث ركزت حملة بزشكيان الانتخابية على قضايا الاقتصاد، وفي ظل حاجة البلاد لإيجاد مخرج من العقوبات الأمريكية التي تضغط بشدة على مختلف المؤشرات الاقتصادية والبنى التحتية، فإن العراق يعتبر البوابة الأولى لتحقيق ذلك الهدف، ويتضح الجانب الاقتصادي في مستوى الوفد المُرافق للرئيس، والذي يشمل على وزراء الخارجية ووزراء النفط والإسكان ومحافظ البنك المركزي الإيراني، وفي تصريحات السفير الإيراني في العراق محمد كاظم بأن إيران سوف توقع 30 اتفاقية شاملة للأمن والتجارة والطاقة والمياه. إلى جانب المشاريع الاستراتيجية المُشتركة بين الدولتين وفي مقدمتها مشروع الربط السككي (البصرة-الشلامجة) الذي لم يتحرك كثيراً في حقب رؤساء الوزراء العراقيين السابقين، باستثناء حكومة مصطفى الكاظمي التي شهدت توقيع اتفاقية مشتركة تضمنت خطة عمل لاستكمال الربط السككي.

وبالإضافة إلى الصعيد الاقتصادي، سيكون ملف التوصل إلى حل لقضية الأموال الإيرانية لدى العراق والتي تُقدر بـ 11 مليار دولار، من أهم الملفات على أجندة الزيارة. فبعد أن كان العراق يدفع مباشرة إلى إيران مقابل الغاز والكهرباء، أدى تشدد الولايات المتحدة في العقوبات النقدية على إيران إلى تراكم تلك الديون الإيرانية المُستحقة على العراق خلال السنوات 2021-2022، وبالرغم من أن العراق تمكن من إيجاد آليات بديلة من خلال استخدامه المبالغ الايرانية المتراكمة في بنك TBI العراقي لشراء البضائع لصالح إيران. إلا أن الحكومة العراقية تعثرت في سداد الديون الإيرانية خاصة مع الضوابط الصارمة التي فرضها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على تداول الدولار عام 2023. والتي حدت من قُدرة البنوك العراقية لا سيما بنك TBI على التعامل التجاري في الدولار، إلى جانب أن الأموال الإيرانية محجوزة بالدينار العراقي وبالتالي لا تستطيع إيران استخدامها لشراء بضائع لا تخضع للعقوبات من دول أخرى.

العراق واللعب في الوقت الضائع

قد تمثل هذه الزيارة بالنسبة للعراق تحدياً لحكومة رئيس الوزراء محمد السوداني، وضغوطاً مضافة خاصة أن الحكومة العراقية تحتاج باستمرار للمظلة البرلمانية لقوى تحالف "إدارة الدولة" لا سيما الإطار التنسيقي. وبالرغم من إنجازات الحكومة على الصعد الاقتصادية والخدمية والتنموية، إلا أن بعض القوى العراقية الداعمة لها، تعتبر حليفة تقليدية لطهران، وذلك يدخل في اعتبارات الحكومة، خاصة في قضايا عدة من بينها:

أولاً: جدولة انسحاب القوات الأمريكية

يعتبر الانسحاب الأمريكي من العراق ضمن القضايا الأكثر أولوية على الأجندة الإيرانية، ومن المرجح أن الحكومة استبقت زيارة بزشكيان وحددت تصوراتها بشأن مسألة انسحاب القوات الأمريكية، إذ صرح وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في 8 سبتمبر، أن الانسحاب الأمريكي سينتهي في 2026. وفي حين أن ذلك التصريح قد يكون لغايات سياسية وتقليل الضغوط التي تُمارسها إيران وحلفائها في العراق على الحكومة، إلا أنها ستلقي بظلالها على مسار العلاقة مع الولايات المتحدة التي تمر في مرحلة إعادة تموضع وتغيير جذري في تناول الملفات في المنطقة بعد الانتخابات الأمريكية بما يتوافق مع مجريات الصراع في غزة. وربما لا يكون العراق في أحسن حالاته مع الإدارة الأمريكية الجديدة. 

ثانياً: ملف الجماعات الكردية المعارضة على الحدود الإيرانية

يعتبر ملف المعارضة الكردية التي تتخذ من المناطق الحدودية مع إيران، مواقع لها، أحد الملفات الشائكة في العلاقات الثنائية، وكان العراق وقع مع إيران اتفاقاً أمنياً في أواخر سبتمبر 2023 يقضي بإخلاء مقرات المعارضة الكردية الموجودة على الحدود، والتي تُشكل قلقاً كبيراً لطهران. ولأهمية هذا الملف كشف مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي قُبيل زيارة بزشكيان بساعات عن مخططات عراقية لتوطين المعارضة الكردية الإيرانية في بلد ثالث، وذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة، في مُحاولة لحسم هذا الملف.

ثالثاً: الوساطة والتهدئة

يلعب العراق دوراُ محورياً في نقل رسائل الوساطة والتهدئة بين مختلف دول المنطقة والفاعلين فيها، إذ سبق أن لعب دوراً في خفض التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران، ويقوم حالياً بدور الوسيط بين تركيا وسوريا، كما سبق أن رعت حكومة السوداني لقاء إيراني مصري بتمثيل دبلوماسي في العام 2023.

وأخيراً؛ تطرح زيارة الرئيس الإيراني، التساؤلات حول مستقبل العلاقة العراقية الإيرانية. وهل يكون العراق مقبلاً على تغييرات جذرية وحاسمة؟ مع ذلك تُشير قراءة العوامل والمتغيرات أن التغيير في العراق لن يؤثر في علاقاته بإيران سياسياً أو أمنياً. إذ أن علاقات الدولتين شديدة الارتباط وتتجاوز التغييرات السياسية والظروف الداخلية والخارجية، وهذه العلاقة قد تتعمق في حدودها وأدوارها خاصة في ضوء التغييرات الكبرى التي تشهدها المنطقة والتي تزيد من حاجة الدولتين لعلاقتهما الاستراتيجية والأمنية.

د. رنا خالد

المدير التنفيذي ورئيسة الباحثين في منتدى صنع السياسات العامة - لندن