التصعيد الحوثي ومؤشرات الاهتمام الإيراني المتنامي في البحر الأبيض المتوسط
تحاول إيران دفع حلفائها لزيادة نشاطهم في مناطق شرق البحر الأبيض المتوسط، لكن التصورات الإيرانية في القدرة على العمل والتأثير هناك تواجه بمحددات وتعقيدات عدة، منها ما يرتبط بالعوامل الجغرافية أو بالقدرات العسكرية أو في عدم القدرة على ضبط التصعيد والتداعيات.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٧/٠٧/٢٠٢٤
تصاعدت العمليات العسكرية الحوثية المرتبطة بالتجارة البحرية كماً ونوعاً منذ إعلان الحركة في 3 مايو 2024، عن دخول عمليات "المرحلة الرابعة" بتوسيع استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط، بالتزامن مع الاهتمام المتزايد لدى كافة أطراف "وحدة الساحات" بادعاء تنفيذهم الهجمات أو عمليات التجسس على المنشآت الإسرائيلية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبشكل يُشير إلى أن إيران تحاول فرض تصور حول قدرتها وقُدرة حلفائها على التأثير في بيئة البحر المتوسط. ومع ذلك لا يبدو أن هذا التصور مدعوم بمعطيات وأدوات حقيقية، ويواجه بتحديات وتعقيدات واعتبارات دولية وإقليمية متعددة.
ملامح التصعيد ودلالاته
جاء إعلان "المرحلة الرابعة" من التصعيد الحوثي في بيان المتحدث العسكري باسم الحركة يحيى سريع، والتي تشتمل على استهداف جميع السفن التي "تخترق قرار حظر الملاحة إلى إسرائيل" في جميع المناطق التي تصلها أسلحتهم. ما يعتبر توسعاً للعمليات العسكرية الحوثية التي بدأت بالمرحلة الأولى في نوفمبر 2023، باستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، وانتقالها إلى ضم سفن تحالف "حارس الازدهار" والسفن الأمريكية والبريطانية، وثُم توسيع نطاق عملياتهم حتى المحيط الهندي وخليج عدن وبحر العرب. قبل وصولها إلى البحر الأبيض المتوسط، بالتزامن مع بدء إسرائيل عملياتها العسكرية في مدينة رفح، والسيطرة على معبرها في 7 مايو. وفي إطار هذه المرحلة ادعى الحوثيون تنفيذ أكثر من 6 عمليات في البحر المتوسط ضدّ سفن إسرائيلية وأخرى حليفة متجهة لميناء حيفا.
وفي الواقع، منذ اليوم الأول للحرب، دفعت إيران بالحوثيين لقيادة التصعيد نظراً لميزتهم العسكرية والسياسية، من حيث استبعاد أن يتسبب تصعيدهم ذلك باندلاع حرب إقليمية، أو بردة فعل عسكرية أمريكية وبريطانية تتعدى الضربات الوقائية، بخلاف مخاطر التصعيد عند حزب الله الذي قد يُنذر بتوسعه إلى حرب مباشرة مع إسرائيل، أو بالفصائل المسلحة في العراق التي اختبرت سابقاً مخاطر التصعيد الواسع من الولايات المتحدة، إثر الضربة الواسعة التي نفذتها القوات الأمريكية ضد كتائب حزب الله بعد هجومها على قاعدة (البرج 22). من جهة ثانية يُحاول الحوثيون نظرياً تعزيز موقف الفصائل الفلسطينية التفاوضي، في وقت اختلطت فيه أوراق حركة حماس في مفاوضات وقف إطلاق النار، نظراً لاختلاف أولوياتها، خاصة مع الوجود الإسرائيلي الميداني داخل القطاع، وعمليات الهندسة الجغرافية والسياسية للقطاع. ويندرج ضمن هذا السياق ما أشارت إليه تصريحات قادة الحوثيين عن وضع مصير السفينة "غالاكسي ليدر" المحتجزة لديهم منذ 19 نوفمبر 2023، لدى حركة حماس، بالرغم من عدم انعكاس ذلك كورقة ضغط حقيقية بيد الفصائل الفلسطينية.
الاهتمام الإيراني المتزايد بالبحر الأبيض المتوسط
تُظهر آلية العمل المشتركة للمحور الإيراني ككل، وتحركات أطراف "وحدة الساحات"، اهتماماً متزايداً بمنطقة البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة الأخيرة، إذ أعلنت الفصائل المسلحة العراقية عن استهدافات عدة للمناطق الإسرائيلية المطلة على البحر، سواء بشكل مشترك مع الحوثيين كما في ادعاء استهداف "هدف حيوي" في حيفا، في 27 يونيو وثُم في 2 يوليو. أو بشكل منفرد، كما في ادعاء استهداف محطة "اوروت رابين" لتوليد الطاقة والواقعة على ساحل البحر المتوسط في 10 يوليو.
وفي منتصف يونيو، نشر حزب الله مقطعاً مصوراً يظهر مسحاً جوياً باستخدام طائرة مسيرة لمناطق عسكرية وأمنية وموانئ بحرية ومطارات إسرائيلية في مدينة حيفا، بالإضافة إلى مواقع لم يُحددها المقطع ضمن المنطقة الاقتصادية الخاصة في البحر، وفي 19 يونيو حذر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، قبرص من أنها قد تصبح هدفاً للحزب إذا سمحت لإسرائيل باستخدام منشآتها العسكرية لمهاجمة لبنان.
في الواقع تُحاول إيران وحلفائها اختبار الحدود القصوى للضغط على إسرائيل، حيث يعتبر البحر الأبيض المتوسط البوابة الرئيسة لحركة التجارة الإسرائيلية والملاحة البحرية، ويتضمن منشآت إسرائيل الاستراتيجية سواء المتواجدة على سواحل البحر مثل ميناء حيفا أو المناطق الصناعية والعسكرية ومنشآت التخزين والطاقة، أو تلك المتواجدة في المياه الإقليمية مثل حقل كاريش للنفط والغاز الطبيعي، والذي سبق لحزب الله أن هدد باستهدافه في يونيو 2022. كما يعكس تواتر البيانات من أطراف "وحدة الساحات" حول استهداف المواقع الإسرائيلية المطلة على ساحل البحر الأبيض، الإشارة إلى الجاهزية الاستخباراتية والعملياتية في حالة اندلاع صراع أوسع لا سيما بين حزب الله وإسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك؛ يُظهر التلويح المستمر من قبل تلك الأطراف بتهديد أو بمزاعم الاستهداف للوجود العسكري البحري الأمريكي، إذ زعم الحوثيون استهدافهم للقوات الأمريكية في 22 يونيو 2024، حينما أعلن يحيى سريع عن تنفيذ هجوم ضد حاملة الطائرات الأمريكية "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور CVN-69" ، وسط نفي أمريكي لذلك. وفي خطابه الأول في نوفمبر 2023، هدد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، باستهداف الأسطول الأمريكي الذي تمركز حينذاك بقيادة حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد فورد - USS Gerald R. Ford"، مع الإشارة إلى عدم ثبوت امتلاك أي من إيران وحلفائها أسلحة لديها القدرة على استهداف حاملات الطائرات الأمريكية.
محددات العمل الإيراني في البحر الأبيض المتوسط
إن محاولات إيران دفع حلفائها لزيادة نشاطهم في مناطق شرق البحر الأبيض المتوسط، لا تتعلق بمجريات الحرب في قطاع غزة فحسب، أو في التصعيد المرافق للحرب في الساحات الثانوية، بقدر ما تسعى إلى خلق تصور عام حول قدرتها على التأثير في مختلف المناطق الاستراتيجية والممرات المائية المحيطة في الشرق الأوسط، وما ينطوي عن ذلك من تداعيات استراتيجية على المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الإقليمية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وكذلك على حركة الملاحة والتجارة الدولية. خاصة وأنها أظهرت سابقاً قدراً لا يستهان به من زعزعة الاستقرار في مضيق هرمز عبر الحرس الثوري الإيراني، وفي البحر الأحمر عبر الحوثيين وبالاعتماد على الدعم المعلوماتي والاستخباراتي والعسكري الذي تقدمه طهران لهم، وصولاً إلى اختبار قُدرتها وقدرة حلفائها على العمل في البحر الأبيض المتوسط.
مع ذلك؛ تواجه التصورات الإيرانية تلك بمحددات وتعقيدات عدة، منها ما يرتبط بالعوامل الجغرافية أو بالقدرات العسكرية أو عدم القدرة على ضبط التصعيد والتداعيات المرافقة للعمل في البحر الأبيض المتوسط.
فمن جهة؛ يعتبر إعلان الحوثيين دخول عملياتهم المرحلة الرابعة واستعدادهم للمراحل المقبلة "الخامسة والسادسة"، فعلاً دعائياً أكثر من كونه عملاً عسكرياً، وصحيح أنهم أظهروا قدرا لا يستهان به من التهديد في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيث ذكر قادة في البحرية الأمريكية لوكالة أسوشيتد برس في يونيو 2024، أن الحملة البحرية ضد الحوثيين هي الأكثر كثافة منذ الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى تداعياتها الاقتصادية، إذ يواجه ميناء إيلات المستهدف الرئيسي بالحصار الذي فرضه الحوثيون على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، مخاطر اقتصادية قد تؤدي وفقاً الرئيس التنفيذي للميناء جدعون جولبر، إلى تسريح نصف عماله البالغ عددهم 120 موظف. إلا أن التصعيد نحو البحر الأبيض المتوسط مشكوك بفعاليته ونتائجه.
فبالرغم من امتلاك الحوثيين أسلحة بعيدة المدى مثل صواريخ "طوفان" التي يبلغ مداها حوالي 1950 كيلومتر، ومسيرات "شاهد" الإيرانية التي تحلق لمسافات تتجاوز 2000 كيلومتر، فمن غير الواضح مدى قدرة الحوثيين على تهديد حركة الملاحة باتجاه إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط، أو تهديد الأصول الاستراتيجية لإسرائيل في المياه الإقليمية، ففي السابق أضعف العامل الجغرافي؛ الهجوم الإيراني المُركب تجاه إسرائيل في 14 أبريل 2024، حيث أعلنت إسرائيل تصديها لـ 99% من الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي شاركت بالهجوم، إضافة للدور الذي لعبته منظومات الدفاع الجوي لدول المنطقة والولايات المتحدة في التصدي له.
وينطبق الأمر ذاته على الفصائل العراقية التي تُعلن عن استهداف منشآت مطلة على البحر الأبيض المتوسط، حيث أن عمليات الاستهداف تختلف بشكل جوهري عن تبني الهجمات أو تأكيد تنفيذها خاصة فيما يتعلق بنتائج الاستهداف، والتي لا تعني بالضرورة إصابة الهدف، حيث تعلن إسرائيل بالمقابل عن اعتراضها لأهداف جوية بين الحين والآخر قادمة من جهة الشرق، وهو المصطلح الذي يستخدمه الجيش الإسرائيلي في الإشارة إلى الهجمات التي تنفذها "المقاومة الإسلامية في العراق".
مع ذلك؛ فإن حزب الله اللبناني قد يكون الجهة الوحيدة بين أطراف "وحدة الساحات" القادرة على تهديد المنشآت الإسرائيلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط أو تهديد الملاحة فيه، إلا أن ذلك يترافق مع تداعيات بالغة الخطورة، خاصة في رد الفعل الإسرائيلي والأمريكي، والذي قد يستدعي عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في لبنان، إلى جانب المخاطرة المتمثلة بعمليات اغتيال قد تطال القادة الكبار في الحزب أو البنى التحتية الاستراتيجية له، خاصة في ضوء الانكشاف الاستخباراتي الواسع للحزب أمام إسرائيل كما أظهرته الضربات الجوية التي طالت قادة بارزين في الحزب.
وأخيراً؛ فإن قدرة إيران وحلفائها لا تزال محدودة للعمل والتأثير في البحر الأبيض المتوسط، ويُمكن قراءة الاهتمام الإيراني المتزايد في تلك المنطقة بأنه اختبار لقدرتها وللاستجابة الإقليمية والدولية لتلك التهديدات، ومن المهم أن تحظى خطواتها الأخيرة بالمراقبة والمتابعة، خاصة في سياق مجريات التصعيد وما قد يكشفه عن قدرات جديدة أو مخاطر محتملة.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات