ملف المقاتلين الأجانب في سوريا: بين الاستحقاق والمخاطرة

تتناول هذه الورقة الوضع المعقّد لملف المقاتلين الأجانب في سوريا بعد تغيير النظام السابق، وتفصل تركيبتهم، وتستكشف التحديات والمخاطر طويلة الأجل الناشئة عن اندماجهم في الجيش السوري الجديد، وأدوارهم القيادية، وتبعات ذلك محلياً ودولياً، وتتطرق إلى قضية آلاف المقاتلين الأجانب المعتقلين من تنظيم "داعش. وتستعرض السيناريوهات المستقبلية لهؤلاء المقاتلين، سواء المُنخرطون منهم في هياكل الدولة الجديدة، أو معتقلو تنظيم "داعش" لدى قوات سوريا الديمقراطية.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ٢٩‏/٠٥‏/٢٠٢٥

شهدت الجوانب الأمنية والعسكرية في سوريا تحولاً جذرياً بعد تغيير النظام في ديسمبر 2024، والتي كان أحد معالمها صعود المقاتلين الأجانب الذين شاركوا مع قوى المعارضة المسلحة في القتال محلياً ضد قوات النظام السابق بعد عام 2011، واندماجهم بالهياكل الأمنية للسلطة الجديدة، ما أثار جملةً من ردود الفعل المحلية والدولية متعددة الأوجه، وسط مخاوف من التداعيات الأمنية الإقليمية والدولية الناجمة عن أنشطة هؤلاء المقاتلين وتحركاتهم. وعليه، تُقيّم هذه الورقة الوضع المعقّد لهؤلاء المقاتلين، تفصّل تركيبتهم، وتستكشف التحديات والمخاطر طويلة الأجل الناشئة عن وجودهم، وتتطرق إلى قضية آلاف المقاتلين الأجانب المعتقلين من تنظيم "داعش"، والتي لا تزال تشكل خطراً كبيراً على عدم الاستقرار في المنطقة وخارجها.

مشهد المقاتلين الأجانب في سوريا

تتفاوت تقديرات عدد المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في الأزمة السورية (2011–2024) بشكل كبير، ولكنها تتراوح عموماً بين 40,000 وأكثر من 60,000 مقاتل من أكثر من 100 دولة خلال سنوات ذروة الأزمة (2013–2017)، حيث تذبذب تدفّق المقاتلين الأجانب إلى سوريا مع مرور الوقت، وشهدت الفترة التي تزامنت مع صعود تنظيم "داعش" الإرهابي بين عامي 2014–2016 ذروةً في الأعداد.

فأولاً، في الفترة بين عامي 2013–2015، أفاد الجيش الأمريكي بوصول ما معدّله 2000 مقاتل أجنبي إلى سوريا والعراق شهرياً، وفي ديسمبر 2013، قدّر المركز الدولي لدراسة التطرّف أن ما يصل إلى 11 ألف فرد انضموا إلى المعارضة المسلحة في سوريا، وبحلول يناير 2014، قدّر مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية آنذاك جيمس كلابر وجود أكثر من سبعة آلاف مقاتل أجنبي في سوريا على الجانب المتمرد وحده.

وثانياً، في الفترة بين عامي 2016–2018، تباطأ ذلك المعدّل بشكل ملحوظ، حيث انخفض إلى أقل من 500 مقاتل شهرياً عام 2016، واستمر في الانخفاض بسبب الخسائر في ساحة المعركة والإجراءات المضادة الدولية. وبحلول عام 2018، كان السوريون يشكّلون غالبية المقاتلين في جماعات المعارضة المسلحة.

وفي الواقع؛ اختلفت دوافع المقاتلين الأجانب المشاركين في الأزمة، لكن معظمهم جاء مدفوعاً بالأيديولوجية السلفية المتطرفة، وقد جاءت أكبر مجموعات المقاتلين الأجانب من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصة تونس (حوالي 6000)، والمملكة العربية السعودية (2500)، وتركيا (2100)، والأردن (أكثر من 2000)، فيما ساهمت أوروبا الغربية بحوالي 5000 مقاتل، معظمهم من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وبلجيكا والسويد، ومن روسيا شارك نحو (2400)، وشملت المصادر البارزة الأخرى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق (4700)، وجنوب شرق آسيا (900)، والبلقان (875)، وأمريكا الشمالية (289). وقد توزّع هؤلاء على جماعات متعددة في مقدمتها تنظيم "داعش"، وجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام لاحقاً)، وتنظيم القاعدة (حراس الدين لاحقاً)، وغيرها من الجماعات السلفية المسلحة والمتطرفة.

لكن، لا تقتصر حالة المقاتلين الأجانب في سوريا على قوات المعارضة فحسب، خاصة بعدما اكتسبت الأزمة طابعاً إقليمياً ودولياً، إذ سارعت إيران لدعم النظام السابق بمقاتلين إيرانيين ومن دول أخرى، مثل مشاركة الفصائل المسلحة العراقية وحزب الله اللبناني، ومن المقاتلين الباكستانيين والأفغان، مثل لواء فاطميون الذي بدأ نشاطه فرقة عسكرية قبل أن يتوسّع ليُصبح لواءً عام 2015. وبالمجمل شهدت أعداد المقاتلين الموالين لإيران في سوريا تصاعداً ملحوظاً مع تعمّق نفوذها هناك، وارتفع من نحو 10 آلاف مقاتل عام 2013، إلى 15–25 ألف مقاتل بحلول عام 2016، وفق ما قدّرته صحيفة فايننشال تايمز حينذاك. لكن هؤلاء المقاتلين غادروا سوريا مع تغيير النظام، وبالتزامن مع انسحاب قوات الحرس الثوري الإيراني.

ملف-المقاتلين-الأجانب-في-سوريا-بين-الاستحقاق-والمخاطرة-in-1.jpg

في المقابل، وبينما انخفضت نسبة المقاتلين الأجانب في صفوف جماعات المعارضة المسلحة منذ عام 2018، إلا أن من بقي منهم، خصوصاً ضمن الفصائل الموالية لهيئة تحرير الشام، قد لعبوا دوراً في الهجوم الأخير الذي أدى إلى انهيار قوات النظام السابق. وعلى النقيض من هؤلاء، لا يزال عدد كبير من الأفراد الأجانب الذين انضموا إلى تنظيم "داعش" قيد الاحتجاز، وتحتجزهم في المقام الأول قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمال شرق سوريا، وتشير التقديرات إلى أن نحو 8200 إرهابي أجنبي من تنظيم "داعش" موجودون حالياً في قبضة "قسد"، في حين تُحتجز عائلاتهم في مخيمات مثل الهول والروج. ويشكّل هذا التجمّع المنفصل من المقاتلين الأجانب، غير المتحالفين مع الحكومة الجديدة، تحدّياً أمنياً بارزاً ومستمراً للمنطقة، كما يُشكّل وجود هذه المخيمات وضعاً إنسانياً معقّداً، مع مخاوف طويلة الأمد من زيادة تطرف الأفراد المحتجزين فيها.

الاندماج في النظام السوري الجديد

بقي عدد من المجموعات المقاتلة الأجنبية المتحالفة مع "هيئة تحرير الشام" بعد تغيير النظام السابق في سوريا، وعلى الرغم من عدم وجود تقدير دقيق لعدد المقاتلين الأجانب المتبقين، إلا أن أبرز هذه المجموعات تشمل الحزب الإسلامي التركستاني الذي يُقدّر عدد مقاتليه بنحو 2500 مقاتل؛ وأنصار التوحيد التي تضم حوالي 200 مقاتل؛ وأجناد القوقاز التي يبلغ عدد مقاتليها نحو 250 مقاتلاً؛ وجماعة أجناد الشام الشيشانية التي تضم نحو 300 مقاتل. مع تشكيل الجيش السوري الجديد، جرى دمج هؤلاء المقاتلين ضمن التشكيلات العسكرية الرسمية وتحت هيكل القيادة الموحدة، حيث تم تفكيك مجموعات المقاتلين الأجانب المستقلة وضم أعضائها رسميًا إلى الجيش السوري. وقد ركز الرئيس السوري أحمد الشرع على المساهمات الكبيرة لهؤلاء المقاتلين الأجانب في إسقاط النظام السابق، مشيرًا إلى أن من ساهم في "إسقاط الأسد يستحق المكافأة"، وألمح إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية مقابل جهودهم.

من الناحية النظرية، ثمة سوابق تاريخية لأدوار بارزة لعبها المقاتلون الأجانب في جيوش وطنية مختلفة، ومن أبرز الأمثلة الفيلق الأجنبي الفرنسي، الذي يتمتع بتاريخ طويل في دمج الرعايا الأجانب، إضافة إلى دمج الجنود المولودين في الخارج في الحرب الأهلية الأمريكية، ومشاركة المقاتلين الأجانب في الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين إلى جانب الجمهوريين ضد القوميين بقيادة الجنرال فرانكو. وفي السياق المعاصر، تواجه أوكرانيا نموذجًا معقدًا مماثلًا، إذ يقاتل فيالق أجنبية إلى جانب الجيش الأوكراني ضد القوات الروسية منذ اندلاع الحرب في ربيع 2022، ومن بينها الفيلق الدولي للدفاع الإقليمي لأوكرانيا، الذي يضم بولنديين وفرنسيين وجورجيين، حيث تُقدّر روسيا عدد مقاتليه بحوالي 18 ألف مقاتل من 85 دولة حول العالم.

وتلك النماذج التاريخية والراهنة تُشكل جزءاً محورياً من محاولات الحكومة السورية المؤقتة إضفاء الشرعية على المقاتلين الأجانب في صفوف المعارضة وتجاه دمجهم في الجيش السوري. مع ذلك، قد تختلف الدوافع والأيديولوجيات والتداعيات الجيوسياسية المحددة لهذه الأمثلة التاريخية اختلافاً كبيراً عن الوضع الراهن في سوريا، ولذلك ينقسم الرأي حولها بشدة بين السوريين، بين من يعتبر دمجهم تعبيراً عن امتنان السلطة الجديدة لهؤلاء المقاتلين الأجانب، ومن رأى فيه براغماتية واضحة، كون هؤلاء قوة يمكن الاستفادة منها مستقبلاً إذا اقتضت الحاجة، وبين من اعتبر أن لا خيار آخر لدى السلطة، لأن عدم احتوائهم يُهدد بتشكيلهم تهديداً كبيراً للاستقرار الناشئ والهش في البلاد. فيما لم يحظَ هذا الدمج بقبول تيار آخر من السوريين، ويعود ذلك إلى عوامل مختلفة، كالمخاوف بشأن ولاء هؤلاء المقاتلين على المدى الطويل، وإمكانية سعيهم وراء أجندات لا تتوافق مع المصالح الوطنية، بالإضافة إلى مخاوف لدى الأقليات في سوريا من التشدد الذي يبديه الأجانب، ومستوى العنف الأعلى الذي يُنسب إليهم.

إلى جانب ذلك؛ ترتبط إشكالية المقاتلين الأجانب بتوازنات القوى داخل الفصائل المسلحة المعارضة وتحالفاتها، حيث يشعر عدد من السوريين الذين شاركوا في القتال بالتهميش بسبب الأهمية المُعطاة للعناصر الأجنبية، خاصة تجاه نفوذ هؤلاء المقاتلين الأجانب، الذين حصل بعضهم على مناصب قيادية رئيسة، فوفقاً لتقارير إعلامية كُلّف حوالي 50 منهم في مناصب قيادية، من بينهم ستة في مناصب عُليا داخل جهاز المخابرات والجيش والحرس الجمهوري، ومن بين أبرز التعيينات، تم تعيين عبد الرحمن حسين الخطيب، وهو أردني الجنسية برتبة عميد، قائداً لقوات الحرس الجمهوري، إلى جانب تكليف حوالي 50 قائدًا آخر، منهم عبدل بشاري، وعمر محمد جفتشي، والمصري علاء محمد عبد الباقي، بالإضافة إلى عبد العزيز داوود خدابردي، الذي ينتمي إلى الأقلية التركستانية في الصين. أما على الصعيد الدولي، فقد أثار اندماج المقاتلين الأجانب، وخاصة أولئك الذين لديهم انتماءات سلفية متطرفة معروفة، قلقاً كبيراً بين الحكومات الغربية، فقد طالبت واشنطن الحكومة السورية بإبعاد المقاتلين الأجانب، ووقف منح هؤلاء المقاتلين الأجانب مناصب حكومية حساسة.

ملف-المقاتلين-الأجانب-في-سوريا-بين-الاستحقاق-والمخاطرة-in-2.jpg

تحديات ومخاوف بشأن المقاتلين الأجانب

يتمثل التحدي الرئيس في إمكانية قيام المقاتلين الأجانب بزعزعة استقرار المنطقة أو تشكيل تهديد للأمن الدولي، خاصة بالنظر إلى الانتماءات الأيديولوجية للعديد منهم، كما يُخشى أن يستغلّ أفرادٌ لهم تاريخٌ في الانخراط في جماعاتٍ متطرفةٍ مواقعهم في السلطة داخل الحكومة السورية الجديدة لخدمة أجنداتهم الأيديولوجية، ما قد يُحوّل سوريا إلى منطلقٍ لهجماتٍ على الدول المجاورة أو الغرب، خاصة في وقت لا تزال فيه سوريا تواجه تهديدات أمنية مختلفة، بعضها ناتج عن الجماعات الإرهابية القائمة مثل تنظيم "داعش"، وعن عدد من المجموعات المسلحة المتنافسة التي قد لا تكون مندمجة بالكامل في الهيكل العسكري الجديد.

ومن شأن وجود مقاتلين أجانب داخل الحكومة أن يُعقّد هذه التهديدات، إذ قد لا تتوافق ولاءات هذه العناصر الأجنبية وأولوياتها دائماً مع المصالح الأمنية الوطنية الأوسع لسوريا. وعلاوة على ذلك، قد يُعارض عدد منهم السياسة الخارجية التي تنتهجها الحكومة المؤقتة بالانفتاح على العلاقات مع الولايات المتحدة واستعدادها للنظر في التطبيع مع إسرائيل. وبالنظر إلى محدودية خيارات هؤلاء المقاتلين وانحسارها في الداخل السوري مع عدم رغبة دولهم في استقبالهم، فذلك يعني أنهم أمام خيارين: فإما التمرد على الحكومة، أو الانضمام إلى التنظيمات الإرهابية مثل "حراس الدين" وتنظيم "داعش". وقد دعا الأخير، في مايو 2025، عبر صحيفة "النبأ" التابعة له، المقاتلين الأجانب في وزارة الدفاع إلى الالتحاق بخلاياه، مُعتبراً أن السلطة الجديدة تستغلهم لخدمة مشروعها. وقد شمل في دعوته تلك المقاتلين غير الراضين في "هيئة تحرير الشام"، والذين اتجه عدد منهم للانشقاق والانضمام إلى الفصائل خارج إطار وزارة الدفاع، من بينها "سرايا أنصار السنة"، التي يتبنى منهجاً مشابهاً لتنظيم "داعش".

من جهة أخرى؛ هناك مخاوف وراء هؤلاء المقاتلين تجاه انخراطهم في أعمال عنف انتقامية، خاصة الذين شارك بعضهم في انتهاكات سابقة أو لديهم تاريخ في العمل خارج نطاق القانون، وقد أفادت تقارير متعددة بتورط المقاتلين الأجانب في الانتهاكات المرتكبة في أحداث الساحل خلال عملية عسكرية حكومية في مارس 2025. وذلك يسلط الضوء على التعقيدات التي يُضفيها دمج هؤلاء المقاتلين وانعكاسها على جهود المصالحة، لا سيما في ظل التاريخ الطويل من التعقيدات الاجتماعية والطائفية في الحالة السورية، وفي ضوء سنوات الأزمة التي عمّقت هذه الانقسامات، والسمة السائدة تجاه المقاتلين الأجانب باعتبارهم متحيزين تجاه مجموعات معينة أو شارك بعضهم في العنف الطائفي.

على صعيد متصل؛ تُشكّل قضية المعتقلين والمشتبه بهم الأجانب من تنظيم "داعش" وعائلاتهم المحتجزين حالياً في شمال شرق سوريا تحدياً كبيراً ومعقداً للمجتمع الدولي، فبعد نحو ست سنوات من انهيار ما يُسمى بـ"الخلافة" عام 2018، لا يزال احتجاز نحو 26 ألف شخص أجنبي مستمراً. وقد أتاحت التغييرات القيادية الأخيرة في كل من واشنطن العاصمة ودمشق فرصةً محتملة، وإن كانت ضيقة، لمعالجة هذه القضية المزمنة، ومن الممكن أن يلعب الرئيس السوري أحمد الشرع دوراً في تنشيط الجهود الهادفة لحل هذه القضية، خاصة في ضوء اتفاقه السياسي والعسكري مع الأكراد في منطقة شمال شرق سوريا، التي لا تزال تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي.

ورغم دعوة الولايات المتحدة باستمرار جميع الدول إلى إعادة مواطنيها من المخيمات مثل الهول والروج، مؤكدة على أن هذه المخيمات بمثابة حاضنات للإرهاب، ما قد يؤدي إلى المزيد من التطرف لجيل آخر، فقد أبدت العديد من البلدان ترددها الشديد في استعادة مواطنيها الذين انضموا إلى تنظيم "داعش"، نتيجة المخاوف الأمنية، والتعقيدات القانونية المتعلقة بمقاضاة الأفراد عن الجرائم المرتكبة في بلد أجنبي، والاعتبارات السياسية المحلية. ولطالما أعربت أجهزة الأمن الغربية عن مخاوفها من أن المقاتلين الأجانب العائدين إلى بلدانهم الأصلية قد يشكلون تهديداً إرهابياً كبيراً، بحكم اكتسابهم مهارات قتالية عالية، وإقامتهم علاقات مع شبكات إرهابية دولية، وزيادة مستوى تطرفهم خلال فترة وجودهم في سوريا، حيث يكمن القلق في إمكانية استغلالهم هذه التجارب للتخطيط لهجمات إرهابية وتنفيذها في بلدانهم الأصلية أو في غيرها من الدول، كما يتفاقم هذا التهديد بفعل حثّ بعض الجماعات السلفية المتطرفة أتباعها في الغرب على تنفيذ مثل هذه الهجمات.

وبذلك، اتبعت تلك البلدان أساليبَ مختلفةً في التعامل مع مقاتليها الأجانب؛ فبعضها اختار إعادة مواطنيه إلى أوطانهم لمحاكمتهم ضمن أنظمتها القانونية، بينما حاولت دولٌ أخرى منع عودة مواطنيها بتجريدهم من جنسياتهم أو بالطعن في صحة جنسيتهم، فيما تمثل النهج الثالث في تجنّب تسهيل عودة المقاتلين الأجانب، ما يعني في الأساس تركهم في عهدة قوات سوريا الديمقراطية أو كيانات أخرى في سوريا. وفي الوقت نفسه، ساهم غياب استراتيجية دولية موحدة بشأن هذه القضية في استمرار احتجاز هؤلاء المقاتلين الأجانب وأسرهم، وفي تفاقم الوضع الخطير الذي يعيشون فيه. كما يُشكّل مصير قواعد البيانات والمعلومات الاستخباراتية المتعلقة بهؤلاء المقاتلين الأجانب تحدياً إضافياً، إلى جانب صعوبة التمييز بين الأفراد الذين يُشكّلون تهديداً أمنياً حقيقياً، وأولئك الذين كانوا ضحايا لتنظيم "داعش" أو أُجبروا على الانضمام إليه، مما يُعقّد عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بنقل المعتقلين أو تبادل المعلومات الاستخباراتية.

ملف-المقاتلين-الأجانب-في-سوريا-بين-الاستحقاق-والمخاطرة-in-3.jpg

وبشكل عام، فإن وجود عدد كبير من المقاتلين الأجانب في سوريا، ولا سيما ذوي الأيديولوجيات المتطرفة والخبرة القتالية، يحمل في طياته خطراً كبيراً بامتداده إقليمياً ودولياً؛ فقد سبق أن شارك بعض المقاتلين الشيشان، الذين كانوا ناشطين سابقاً في شمال غرب سوريا، في الصراع في أوكرانيا، وهو ما يُسلّط الضوء على استعداد بعض هؤلاء الأفراد للانتشار في مناطق نزاع مختلفة كلما سنحت لهم الفرصة. ذلك أن الخبرة القتالية المكتسبة في الأزمة السورية، إلى جانب الأيديولوجيات المتطرفة التي يتبناها العديد من هؤلاء المقاتلين، تجعلهم مستعدّين وقادرين على الانخراط في صراعات أخرى أو تنفيذ أعمال إرهابية في بلدانهم الأصلية أو في مناطق أخرى من العالم.

سيناريوهات المقاتلين الأجانب في سوريا

ينقسم ملف المقاتلين الأجانب في سوريا إلى فئتين رئيسيتين بناءً على وضعهم الحالي: وهما المقاتلون المُنخرطون في هياكل الدولة الجديدة، ومعتقلو تنظيم "داعش" لدى قوات سوريا الديمقراطية. وفي الواقع، تختلف السيناريوهات الخاصة بكل فئة عن الأخرى.

أولاً: سيناريوهات مقاتلي الفصائل المنضوية ضمن "هيئة تحرير الشام"


السيناريو الأول: التوطين والاندماج الكامل

يمثّل هذا السيناريو استمراراً للاتجاه الحالي الذي بدأته السلطة السورية الجديدة. ويتضمن منح المقاتلين الأجانب الجنسية السورية، وتمكينهم من الاستمرار في شغل مناصب قيادية في الجيش والأجهزة الأمنية. ويتعزّز هذا السيناريو بالنظر إلى عوامل عدة، من بينها حاجة الحكومة المؤقتة إلى قوة عسكرية موالية تدعم سلطتها، والرغبة في مكافأة هؤلاء المقاتلين على دورهم أثناء الأزمة، والتخوّف من تمرّدهم إذا تم استبعادهم.

مع ذلك، يُواجه هذا السيناريو تحديات عديدة، في مقدمتها الضغوط الدولية، خاصة من الدول الغربية، التي وضعت شرط وقف منح المقاتلين الأجانب مناصب عليا في الدولة مقابل الانفتاح واستدامة رفع العقوبات عن البلاد، إلى جانب المخاوف المحلية من الولاءات المتعددة لهؤلاء المقاتلين وأجنداتهم الجهادية المحتملة، لا سيما في ظل احتمالية تفاقم التوترات الطائفية، خاصة مع تورّط بعضهم في انتهاكات ضد الأقليات في الساحل السوري خصوصاً.

السيناريو الثاني: التسريح التدريجي

يُمثّل هذا السيناريو حلاً وسطاً أمام الحكومة المؤقتة، للاستجابة للضغوط الدولية من جهة، والحيلولة دون انقلاب المقاتلين الأجانب عليها من جهة أخرى. ويتضمن هذا السيناريو تسريح المقاتلين الأجانب تدريجياً من المناصب الحكومية والعسكرية الحساسة، واستبدالهم بكوادر سورية، مع إمكانية إدماجهم في قطاعات مدنية أو تقديم حوافز لمغادرتهم الطوعية.

وتزداد احتمالية تطبيق هذا السيناريو مع تفاقم الضغوط الدولية على الحكومة، وتصاعد الاستياء الشعبي من أدوار هؤلاء المقاتلين، وربما جراء تصاعد نفوذهم داخل مفاصل صنع القرار في الدولة، بما يشكّل مصدر تأثير سلبي على السياسات المحلية والخارجية. وفي الواقع، سبق لعدد من المقاتلين الأجانب أن تركوا النشاط العسكري وباشروا بأعمالهم وتجاراتهم الخاصة، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك في إدلب، ما يجعل من توسّع هذا النموذج خياراً قائماً، خاصة إذا اتبعت الحكومة آليات تنفيذ منضبطة، تتضمن مثلاً: برامج إعادة تأهيل وإدماج في المجتمع المدني، وتقديم تعويضات مالية مقابل التخلي الطوعي عن المناصب العسكرية، والإحالة التدريجية إلى التقاعد مع ضمان امتيازات معينة.

السيناريو الثالث: الإعادة إلى الأوطان الأصلية

يتضمن هذا السيناريو إعادة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم الأصلية، سواء طوعاً أو قسراً، تحت ضغط دولي، أو كجزء من صفقات ثنائية مع الدول المعنية. وفي هذا السياق، تداولت الأنباء أخباراً عن حملات اعتقال تقوم بها الأجهزة الأمنية السورية تستهدف المقاتلين الأجانب (من العرب تحديداً). وقد يكون الترحيل هو الخطوة اللاحقة، خاصة بالنسبة للمقاتلين العرب، فإعادتهم أسهل من أولئك الذين ترفض دولهم استعادتهم، لمخاوف أمنية أو تعقيدات قانونية وسياسية، أو لأن دولهم جردتهم من الجنسية أصلاً.

 السيناريو الرابع: الصراع والتصفية

يشير هذا السيناريو إلى احتمالية اندلاع صراع داخلي بين الفصائل المختلفة، أو إلى تصفية بعض المقاتلين الأجانب بأوامر من القيادة الجديدة. وتزداد احتمالية هذا السيناريو مع بقاء الوضع الحالي دون تغيير، إذ إن استمرار دمج المقاتلين ذوي الأيديولوجيات المتطرفة في هياكل الدولة قد يؤدي إلى تنامي التطرف وتعميق الانقسامات بين التيارات. كما يُمكن وقوع هذا السيناريو في حال اتخذت السلطة قرارات لمعالجة ظاهرة المقاتلين الأجانب بطرق لا تُرضيهم أو تُقصيهم من مواقع النفوذ بشكل حاد.

ثانياً: سيناريوهات معتقلي "داعش" المحتجزين لدى قوات سوريا الديمقراطية

1- سيناريو الإعادة إلى بلدانهم: ويتضمن إعادة المعتقلين إلى بلدانهم الأصلية لمحاكمتهم هناك، وهو ما دعت إليه الولايات المتحدة بشكل مستمر، إلا أنه يُواجه بممانعة عدد من الدول، خاصة الأوروبية منها.

2- سيناريو المحاكمة المحلية: ويتضمن محاكمة معتقلي "داعش" ضمن النظام القضائي السوري الجديد، أو عبر إنشاء محكمة دولية خاصة تُشرف على محاكمتهم في سوريا.

3- سيناريو برامج إعادة التأهيل والاندماج: ويتضمن تطبيق برامج شاملة لنزع التطرف وإعادة تأهيل المعتقلين ذوي الخطورة المنخفضة، تمهيداً لإعادة دمجهم في المجتمع أو إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية.

4- سيناريو الهروب وصعود "داعش" مجدداً: وهو السيناريو الأخطر، وقد يترافق مع أي تدهور أمني جديد في سوريا أو انسحاب مفاجئ لقوات دولية من مناطق الاحتجاز، ما قد يُفضي إلى فرار جماعي لعناصر التنظيم وإعادة تشكّله.

وأخيراً؛ من المرجح أن تشهد الفترة المقبلة نهجاً تدريجياً يتضمن تقليص نفوذ المقاتلين الأجانب في هياكل الدولة تحت ضغط دولي، مع تطبيق برامج إعادة تأهيل وإدماج للعناصر الأقل خطورة، واتخاذ إجراءات أمنية مشددة للتعامل مع العناصر الأكثر تطرفاً. أما بالنسبة لمعتقلي "داعش"، فمن المحتمل أن تستمر المفاوضات الدولية حول مصيرهم، مع احتمال عودة بعضهم إلى بلدانهم ضمن اتفاقيات ثنائية محدودة. وبشكل عام، تمر سوريا في مرحلة معقّدة وغير مستقرة، ويظل المقاتلون الأجانب خطراً يُهدّد بتصادم الأيديولوجيات، وبمثابة إنذار دائم بإمكانية عودة التطرف والإرهاب، سواء عبر تنظيم "داعش" أو تنظيمات أخرى قد تنشأ في المستقبل.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات