الحالة السورية بين خيارات المركزية واللامركزية
تُعد مسألة المركزية واللامركزية في سوريا مسألة بنيوية تتجاوز النقاش الفكري لتلامس جوهر إعادة بناء الدولة وتحديد ملامح الهوية الوطنية وشكل الحكم. فالمركزية، وإن اعتبرها البعض ضمانة لوحدة البلاد، أثبتت التجربة أنها عمّقت التهميش وأضعفت المشاركة السياسية. في المقابل، ينظر العديد من المكونات السياسية إلى اللامركزية كمدخل لإصلاح مؤسسي شامل، غير أن الإسراع في اعتمادها قد يهدد الاستقرار والسيادة، خاصة في ظل تعقيدات الواقع السوري.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٤/١٠/٢٠٢٥

تُشكّل قضية المركزية واللامركزية أحد المحاور الجوهرية في فهم الأزمة السورية الراهنة، إذ لا تقتصر على كونها نقاشاً تقنياً حول أنماط الحكم والإدارة، بل تمتد لتشمل تساؤلات تتعلق بالهوية الوطنية، وتوازن العلاقات بين المكونات المجتمعية، ما يجعلها عاملاً حاسماً في رسم ملامح المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد. يركز هذا التقرير على تقديم تحليل معمّق لمفهوم المركزية واللامركزية في السياق السوري، من خلال استعراض جذوره التاريخية، وتفكيك أبعاده السياسية والاجتماعية، إلى جانب تقييم مواقف الفاعلين المحليين والدوليين تجاه هذه القضية. كما يسعى إلى تقديم السيناريوهات المحتملة لمسارات اللامركزية في سوريا، وذلك في ضوء التحولات الجارية والتحديات البنيوية التي تواجه إعادة بناء الدولة.
مدخل نظري: التعريف والأنماط
يتطلب تحليل قضية المركزية واللامركزية في السياق السوري تمييزاً دقيقاً بين المفهومين، نظراً لما ينطوي عليه كل منهما من انعكاسات مؤسسية وسياسية. وعليه يمكن تعريفهما كما يلي:
المركزية: تركيز صلاحيات اتخاذ القرار ضمن سلطة واحدة أو في يد جهة محددة، الأمر الذي يحدّ من قدرة المستويات الأدنى على المبادرة والتصرف المستقل.
اللامركزية: عملية نقل السلطة والمسؤوليات من الحكومة المركزية إلى مستويات حكم أدنى، مثل المجالس المحلية أو الحكومات الإقليمية والبلدية، بما يعزز من قدرة هذه الجهات على إدارة شؤونها وفقاً لخصوصياتها المحلية.
ويُمكن التمييز بين أنماط اللامركزية من خلال:
- اللامركزية الإدارية: تُفوَّض في هذا النمط السلطات الإدارية إلى المجالس المحلية، مع احتفاظ الحكومة المركزية بحق اتخاذ القرار النهائي في القضايا الجوهرية. وغالباً ما يُستخدم بهدف تحسين كفاءة تقديم الخدمات العامة من خلال إعادة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات والموارد المالية.
- اللامركزية السياسية: تتمثل في نقل صلاحيات صنع السياسات والتشريعات من السلطة المركزية على المستوى الوطني إلى هيئات منتخبة ديمقراطياً ضمن المستويات المحلية، بما يتيح تمثيلاً أوسع للمجتمعات المحلية في عملية صنع القرار.
أما خصائص اللامركزية، فهي كالآتي:
وفي السياق السوري، لا يُعد التمييز بين أنماط اللامركزية مجرد مسألة نظرية أو أكاديمية، بل يمثل محوراً جوهرياً في الخلافات السياسية القائمة. إذ تُظهر النقاشات الدائرة حول اللامركزية في سوريا وجود تناقض بنيوي بين رؤيتين متعارضتين: الأولى ترى في اللامركزية شرطاً أساسياً لتحقيق الاستقرار السياسي وبناء دولة حديثة، وتعدّها مدخلاً ضرورياً لإعادة هيكلة الدولة على أسس ديمقراطية وتشاركية. أما الرؤية المقابلة، فتدعم اللامركزية باعتبارها خياراً مستقبلياً بعد تحقيق الاستقرار، والذي يُخشى بدونه أن تغدو اللامركزية عاملاً محتملاً لتفكيك الدولة، خاصة في ظل الانقسامات المجتمعية والتوترات الأمنية المستمرة.
يعكس هذا التباين في المواقف حالة التعقيد في الواقع السوري، حيث تتداخل مسألة اللامركزية مع الديناميكيات السياسية والأمنية، وتُعد من أكثر القضايا حساسية في مسار إعادة بناء الدولة. كما يُشكل تناقض وجهات النظر حولها أحد أبرز العقبات أمام التوصل إلى توافق سياسي، نظراً لما تثيره من مخاوف وجودية لدى مختلف الأطراف، وما تتطلبه من إعادة نظر شاملة في طبيعة العلاقة بين المركز والأطراف، ضمن إطار وطني جامع.
ورُبما تعود حساسية الموقف من اللامركزية السياسية، رفضاً أو قبولاً، إلى الإرث التاريخي للحكم المركزي الصارم الذي ساد لعقود، لا سيما خلال فترة حكم "حزب البعث"، حيث تم احتكار السلطة والموارد على نحو ممنهج، ما أدى إلى تهميش الأطراف المحلية وإضعاف الهياكل المؤسسية خارج المركز. وقد ترك هذا السياق أثراً عميقاً في الخطاب السياسي والنقاشات العامة حول جدوى تبني نموذج لا مركزي، وخلق حالة من التردد تجاه أي إصلاحات مؤسسية قد تُفضي إلى إعادة توزيع السلطة بشكل فعلي.
المركزية كسبيل للحفاظ على الوحدة الوطنية
يُظهر المشهد السوري تمسكاً واسعاً، يشمل شرائح من المعارضة، بفكرة الدولة المركزية القوية باعتبارها ضمانة لوحدة البلاد في ظل التحديات الراهنة. ولا ينبع هذا الموقف بالضرورة من تأييد للنظام السابق، بل يعكس مخاوف متجذرة من تفكك الدولة نتيجة لتصدّع النسيج الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، تُقابل الدعوات إلى اللامركزية السياسية أو الفدرالية بقدر كبير من الريبة، حيث يُنظر إليها من قبل العديد من الفاعلين على أنها مدخل محتمل لتقسيم سوريا.
تتعزز هذه المخاوف من خلال استدعاء نماذج إقليمية شهدت اضطرابات ناجمة عن تطبيق أنظمة فدرالية في بيئات مجتمعية هشة، حيث ارتبطت اللامركزية السياسية في بعض الحالات بتفاقم الانقسامات الإثنية والطائفية، وتنازع السلطات المحلية على الموارد والصلاحيات، ما أدى إلى إضعاف الدولة المركزية وتراجع قدرتها على ضبط التوازن الوطني. في هذا الإطار، تُطرح تساؤلات جوهرية حول مدى قابلية النموذج اللامركزي للتطبيق في سوريا، في ظل غياب توافق سياسي داخلي، وتعدد الولاءات المحلية، وتفاوت مستويات الجاهزية المؤسسية بين المناطق.
من جهة أخرى، تتغذى المواقف الرافضة للامركزية السياسية في سوريا، جزئياً، من الذاكرة السياسية المرتبطة بمشاريع التقسيم التي طرحتها القوى الأجنبية في مراحل تاريخية سابقة، وعلى رأسها اتفاقية سايكس–بيكو، التي لا تزال تُستحضر بوصفها رمزاً لتفتيت الجغرافيا السياسية للمنطقة. ويُنظر في هذا السياق إلى اللامركزية، من قبل بعض ممثلي السلطة الحالية، باعتبارها امتداداً لتلك المشاريع الخارجية، تهدف إلى تقويض وحدة الدولة وإضعاف السلطة المركزية. ولا يقتصر هذا التصور على السلطة وحدها، بل يلقى صدى لدى قطاعات واسعة من المعارضة التقليدية، التي ترى في اللامركزية السياسية، ولا سيما الفدرالية، تهديداً لوحدة البلاد، وتعتبرها "تسمية مخففة" لمخططات التقسيم.
تحديات المركزية المستدامة
على الرغم من أن الخطاب المؤيد للمركزية يستند غالباً إلى اعتبارات أمنية وقومية تهدف إلى الحفاظ على وحدة الدولة، إلا أن التجربة السورية أظهرت محدودية هذا النموذج على المدى الطويل. فقد أدى تبني الحكم المركزي الشمولي في العقود السابقة إلى نتائج عكسية، تمثلت في احتكار السلطة والموارد من قبل نخبة ضيقة، وإهمال المناطق الطرفية وتهميش المكونات المجتمعية خارج المركز.
ولقد ساهم هذا التمركز في صنع القرار وتوزيع الموارد في تعميق الفجوات التنموية بين العاصمة والمحافظات، وأدى إلى تفاوت صارخ في الخدمات والبنية التحتية، ما عزز من مشاعر التهميش والإقصاء. ولا عجب أن هذا الاستياء الشعبي قد تراكم مع الوقت ليشكل أحد المحركات الأساسية للحراك الذي انطلق مطلع عام 2011، في تعبير غير مباشر عن رفض النموذج المركزي وغياب العدالة في توزيع السلطة والثروة.
كذلك من المنظور القانوني والمؤسسي، يشير عدد من الخبراء والحقوقيين إلى أن النموذج المركزي للحكم، بما ينطوي عليه من مقاومة لمنح السلطات المحلية هامشاً فعلياً لاتخاذ القرار، قد أثبت محدوديته في الاستجابة للاحتياجات اليومية للمواطنين، وأدى إلى القصور في تقديم الخدمات الأساسية، والعجز في التعامل مع التحديات المحلية المتنوعة، ما ساهم في تعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع.
ويُعد هذا القصور أحد العوامل البنيوية التي ساهمت في اندلاع الصراع السوري، والذي كشف عن هشاشة النموذج المركزي وعدم قدرته على إدارة التنوع المجتمعي أو تحقيق العدالة في توزيع الموارد. هكذا تحولت المركزية من أداة للحفاظ على وحدة المجتمع، لتصبح عامل تفجير للانقسامات الاجتماعية والسياسية التي سببها تراكم مظاهر التهميش والإقصاء في مختلف المناطق السورية.
اللامركزية كأداة للتوافق وبناء الدولة
تُطرح اللامركزية في الخطاب السياسي السوري، غير الحكومي، كأحد الخيارات المؤسسية الممكنة لتعزيز التوافق الوطني وإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة ومكوناتها المجتمعية. ويعتبرها مؤيدو هذا النموذج بمثابة "طوق نجاة" للحفاظ على وحدة البلاد، من خلال إعادة توزيع السلطة بشكل يراعي التعددية المجتمعية ويعزز من فعالية الإدارة المحلية.
ولا تقتصر أهمية اللامركزية على بعدها السياسي في بناء نظام حكم توافقي، بل تمتد لمعالجة جملة من الإشكاليات البنيوية على مستوى السياسة الداخلية السورية، أبرزها التهميش التاريخي للمناطق الطرفية، وضعف تقديم الخدمات، والاختلال في توزيع الموارد. كما تُعد اللامركزية أداة محورية في ترسيخ مبدأ المواطنة، وتوسيع نطاق المشاركة الشعبية في صنع القرار، مما يعزز من الممارسة الديمقراطية ويحدّ من إعادة إنتاج أنماط الحكم الاستبدادي.
ويرى عدد من الخبراء، أن اللامركزية تمثل ضمانة أساسية لمنع نشوء ديكتاتوريات جديدة عبر تفكيك احتكار السلطة وتوسيع قاعدة التمثيل المحلي. كما يكتسب هذا الطرح مشروعيته من الإرث القانوني السوري ذاته، حيث تنص الوثائق الدستورية والتشريعية، مثل دستور عام 1973 وقانون الإدارة المحلية لعام 1956، على مبادئ اللامركزية الإدارية، ما يوفّر أرضية قانونية يمكن البناء عليها لتطوير نموذج لا مركزي أكثر شمولاً واستدامة.
التحديات والمخاطر العملية لتطبيق اللامركزية
لا يُعد توفر الإرادة السياسية، أو التشريعية أو المجتمعية، شرطاً كافياً لضمان نجاح تطبيق اللامركزية في سوريا، إذ تواجه هذه العملية مجموعة من التحديات البنيوية والمعوقات التنفيذية التي قد تُقوّض فعاليتها. فعلى الصعيدين الإداري والمالي، غالباً ما تصطدم الدول النامية التي تسعى إلى تبني نماذج لا مركزية بعقبات تتعلق بضعف الدعم المؤسسي من المركز، واستمرار النزعة المركزية في صنع القرار، إلى جانب الإخفاق في تحويل الموارد المالية بشكل كافٍ إلى السلطات المحلية.
كما تُعد مسألة بناء القدرات المؤسسية على المستوى المحلي من أبرز التحديات التي تواجه التحول نحو اللامركزية، خاصة في السياقات التي تشهد تفاوتاً تنموياً حاداً بين المركز والمناطق الطرفية. إذ يؤدي غياب الكفاءات الإدارية، وضعف البنية التحتية، وتفاوت مستويات الجاهزية المؤسسية إلى إضعاف قدرة الكيانات المحلية على ممارسة صلاحياتها بفعالية، ما يهدد بتحويل اللامركزية إلى مجرد إجراء شكلي لا يحقق أهدافه التنموية والسياسية.
وفي السياق ذاته، تبرز على الصعيدين السياسي والأمني، مخاوف أكثر تعقيداً بشأن تطبيق اللامركزية، لا سيما في ظل هشاشة الدولة السورية وتعدد الفاعلين المحليين. إذ يُخشى أن يؤدي تفويض السلطة من المركز إلى السلطات المحلية إلى تمكين نخب محلية من السيطرة على الحكم ضمن مناطقها، ما قد يُفضي إلى نشوء أنماط سلطوية متعددة ومتطرفة، تُعيد إنتاج الاستبداد في صور مجزأة، وتُضعف من قدرة الدولة على الحفاظ على وحدة القرار والسيادة الوطنية.
تُعد هذه المخاوف جميعها امتداداً للهواجس المرتبطة بتفتيت الدولة، حيث يُنظر إلى اللامركزية السياسية، في بعض الأوساط، على أنها مدخل محتمل لتفكيك سوريا وزيادة التردي المؤسسي، بدلاً من أن تكون أداة لإعادة البناء. ويُعزز هذا التصور غياب الضمانات المؤسسية، وتعدد الولاءات، وتفاوت مستويات الجاهزية بين المناطق، ما يجعل من تطبيق اللامركزية تحدياً يتطلب مقاربة دقيقة ومتدرجة، تأخذ بعين الاعتبار التوازن بين تعزيز المشاركة المحلية من جهة، والحفاظ على وحدة الدولة من جهة مقابلة.
ديناميكيات القوة ومواقف المكونات الرئيسية
كما أُشير سابقاً، تتباين مواقف الأطراف الفاعلة في المشهد السوري تجاه اللامركزية بشكل ملحوظ، ويعود هذا التباين إلى ارتباط كل طرف بالدفاع عن مصالحه السياسية، وباصطفافاته الإقليمية والمحلية، وبطبيعة نفوذه على الأرض. فالموقف من اللامركزية لا يُبنى على أسس نظرية أو مؤسسية فحسب، بل يتشكل ضمن سياقات معقدة من التنافس السياسي، والتحالفات، والاعتبارات الأمنية.
وفي هذا السياق، يمكن تصنيف مواقف أبرز الفاعلين على النحو الآتي:
أولاً: موقف الحكومة الجديدة في دمشق
تاريخياً، كما تبنّى النظام السوري موقفاً رافضاً تجاه "اللامركزية الشاملة"، مدفوعاً بمخاوف من أن تؤدي إلى تفكيك الدولة وتقويض وحدة البلاد، فقد استمر هذا النهج في ظل الحكومة الانتقالية الحالية، التي ترفض بشكل قاطع أي طرح للفدرالية، وتُصر على الحفاظ على مركزية الدولة كإطار حاكم. ومع ذلك، تُبدي الحكومة استعداداً، على المستوى النظري، لمنح هوامش محدودة من اللامركزية الإدارية. وهو ما يعدّه البعض استمراراً لسياسة احتكار السلطة، حيث يُنظر داخل مؤسسات الحكم المركزي إلى أي تقليص في صلاحيات المركز باعتباره تهديداً مباشراً لنفوذ الدولة. ومن هذا المنطلق، يمكن تفسير قبول السلطة باللامركزية الإدارية المحدودة باعتباره خطوة تكتيكية تهدف لخلق انطباع بالانفتاح السياسي، دون أن يُترجم ذلك إلى تحول فعلي في بنية السلطة أو إعادة توزيع حقيقية للصلاحيات.
ثانياً: موقف المكون الكردي
تُعد الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، ممثلةً بمجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، من أبرز الأطراف الداعمة للامركزية السياسية، بما في ذلك النموذج الفدرالي. ويستند هذا الموقف لديها إلى رؤية تعتبر الفدرالية ضمانة دستورية لحقوق المكونات القومية، وعلى رأسها الأكراد، وأداة ناجعة لتحقيق مشاركة عادلة في إدارة شؤون الدولة.
ولتعزيز وجاهة مطالبه وأحقيتها، يستند الخطاب السياسي لدى المكون الكردي إلى اعتبار الفدرالية صيغة تنظيمية لوحدة طوعية، لا تهدف إلى تقسيم البلاد، بل إلى منع احتكار السلطة من قبل فئة واحدة، وإلى تعزيز التوازن بين المركز والأطراف، فينظر إلى النموذج اللامركزي الموسع كإطار مؤسسي يتيح تمثيلاً سياسياً أكبر لجميع المكونات، ويُسهم في بناء دولة متعددة الهوية، قائمة على مبادئ الشراكة والديمقراطية.
وما يميز قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن الأطراف الأخرى الداعمة للامركزية هو امتلاكها لقوة عسكرية منظمة وفاعلة على الأرض، وهو ما يُضفي على مطالبها طابعاً يتجاوز النقاش الإداري أو الدستوري، ليصل إلى مستوى الصراع على السيادة الوطنية وإعادة تعريف العلاقة بين المركز والمكونات المسلحة، فوجود قوة عسكرية مستقلة عن مؤسسات الدولة التقليدية يُعد عاملاً حاسماً في إعادة تشكيل موازين السلطة، ويطرح تحديات جوهرية أمام أي مشروع لإعادة بناء الدولة السورية على أسس لا مركزية.
ويُعد فشل جهود دمج القوات الكردية ضمن المنظومة العسكرية الرسمية أحد أبرز الإشكاليات التي تعمّق هذا التوتر، إذ إن استمرار وجود قوة مسلحة خارج إطار الدولة المركزية يُغذي المخاوف من أن تتحول المطالب السياسية إلى خطوات انفصالية تشمل الجوانب الأمنية، والإدارية، والاقتصادية. وبالتالي، لا يمكن فصل مسألة اللامركزية في هذا السياق عن النقاش الأوسع حول مستقبل المؤسسة العسكرية، ووحدة القرار السيادي، وشكل الدولة في مرحلة ما بعد النزاع.
ثالثاً: موقف المعارضة السورية
تتسم مواقف المعارضة السورية تجاه اللامركزية، ولا سيما الفدرالية، بتباين واضح يعكس تعدد المرجعيات السياسية وتفاوت التصورات حول مستقبل الدولة. فغالبية أطياف المعارضة تُبدي رفضاً لمبدأ الفدرالية، وتتحفظ على اللامركزية السياسية استناداً إلى جملة من الاعتبارات التاريخية والسياسية. من بينها غياب الثقة في نوايا الجهات التي تتبنى الفدرالية كخيار سياسي. بالإضافة إلى التوجس من تقويض الهوية الوطنية الجامعة لصالح صعود هويات مناطقية أو عرقية فرعية.
في المقابل، تتبنى بعض أطراف المعارضة السورية موقفاً أكثر مرونة تجاه اللامركزية، حيث تدعم فكرة "اللامركزية الإدارية الموسعة" باعتبارها جزءاً من مشروع بناء دولة ديمقراطية جديدة، تُعيد تنظيم العلاقة بين المركز والمجتمع المحلي على أسس أكثر عدالة وفعالية. ومع ذلك، يُظهر تحليل مواقف المعارضة أن فهمها للامركزية غالباً ما يبتعد عن التصور الدولي السائد (والذي يرى فيها أداة لتقاسم السلطة ضمن إطار تفاوضي مع النظام القائم)، وتتعامل معها بوصفها وسيلة لتغيير النظام بالكامل، لا بوصفها أداة لإعادة توزيع الصلاحيات ضمن تسوية سياسية. وقد ساهم هذا الفهم، الذي يتعارض مع المقاربات الدولية، في إضعاف قدرة المعارضة على تقديم تصورات قابلة للتطبيق، ما انعكس سلباً على موقعها التفاوضي وعلى تعزيز فرص بناء توافق وطني مستدام.
رابعاً: حالة الدروز في السويداء
تُجسّد حالة الطائفة الدرزية في محافظة السويداء نموذجاً مصغراً يعكس تعقيدات المشهد السوري الأوسع، لا سيما فيما يتعلق بمسألة اللامركزية وإعادة توزيع السلطة. فقد عبّر بعض مراجع الطائفة وقادتها المحليين عن توجه واضح نحو المطالبة بـ "حكم ذاتي" أو استقلال إداري، يُفهم ضمن إطار الحفاظ على وحدة الدولة، وتجنّب الطرح الصريح للانفصال أو التقسيم.
وتتمحور مطالب الدروز حول ضرورة إقامة دولة مدنية قائمة على دستور يضمن الحقوق المتساوية لجميع المواطنين، ويُرسّخ مبادئ العدالة والمواطنة. كما تواكب هذا الطرح مع موقف معلن يتسم بالوضوح والحزم تجاه السلطة الانتقالية الجديدة، حيث عبّرت الطائفة عن انعدام الثقة في حكومة دمشق تجاه تمثيل تطلعات المجتمعات المحلية أو ضمان التغيير المنشود.
ويُعدّ الموقف الدرزي عاملاً مهماً في إبراز خصوصية التفاعل بين الهويات المحلية والمركز السياسي، كما يُسلط الضوء على أهمية بناء نموذج حكم يراعي التعددية المجتمعية دون المساس بوحدة الدولة، في ظل تصاعد المطالب المحلية وتراجع الثقة بالمركز، خاصة وأن تأكيد الطائفة الدرزية على مطلب اللامركزية لم يعد مجرد توجه محلي فحسب، بل بات جزءاً من ديناميكيات إقليمية ودولية متشابكة، إذ كشفت اجتماعات عمان، التي جمعت بين ممثلين عن الأردن، والحكومة الانتقالية السورية، والمبعوث الأمريكي في 12 أغسطس 2025، عن تحول قضية السويداء من ملف داخلي إلى ورقة سياسية تُناقش ضمن أجندات إقليمية أوسع.
يعني هذا أن المطالب الدرزية، التي كانت تُطرح سابقاً في إطار إداري محدود، أصبحت تُوظّف ضمن سياق الضغط السياسي على الحكومة المركزية الجديدة. إذ باتت الأطراف الخارجية تنظر إلى ملف السويداء كأداة تفاوضية يمكن استخدامها لإعادة تشكيل موازين القوى داخل سوريا، أو لدفع باتجاه إصلاحات مؤسسية تتجاوز البُعد المحلي، ما يُضفي على القضية طابعاً استراتيجياً يتجاوز حدود المحافظة.
على صعيد آخر، وفي ظل تصاعد الاهتمام الإقليمي والدولي بقضية السويداء، تحاول الطائفة الدرزية تبني خطاب سياسي يحذر من استغلال مطالبها من قبل أطراف خارجية، وتحويل هذه المطالب إلى أدوات ضغط جيوسياسي.
وأخيراً؛ تُعد مسألة المركزية واللامركزية في سوريا من القضايا البنيوية التي تتجاوز الجدل الفكري النظري لتلامس جوهر إعادة بناء الدولة. فهي ليست مجرد خيار تقني في تنظيم السلطة، بل تعكس تصورات متباينة حول الهوية الوطنية، وشكل الحكم، ومستقبل التعايش بين المكونات المجتمعية. وإذا كان البعض يرى في المركزية ضمانة لوحدة البلاد، فقد أظهرت التجربة التاريخية أنها ساهمت في تعميق التهميش وإضعاف المشاركة السياسية. في المقابل، رغم تبني عدة أطراف ومكونات سياسية سورية للنظام اللامركزي كمدخل لإصلاح مؤسسي شامل، لكن المسارعة في تطبيقه لا تخلو من مخاطر تتعلق بالاستقرار والسيادة، خاصة في ظل السياق السوري المعقد. وإن تجاوز هذا التناقض يتطلب توافق السوريين جميعاً على مقاربة متدرجة وشاملة، تُبنى على أسس الحوار الوطني والثقة المتبادلة بين جميع مكوناتهم وأطيافهم.

ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات