الاتفاق التركي - الروسي حول إدلب

أفضت المباحثات التركية الروسية حول المعارك الأخيرة في مدينة إدلب، في تاريخ 5 مارس 2020، إلى توقيع اتفاق يهدف إلى وقف إطلاق النار وعودة النازحين إلى أماكن إقامتهم؛ فما مضامين هذا الاتفاق؟ وما هي دوافعه؟ وما هي المكاسب المحققة منه؟ وهل يحمل الاتفاق أسباب صموده؟

  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٩‏/٠٣‏/٢٠٢٠

أفضت المباحثات التركية الروسية حول المعارك الأخيرة في مدينة إدلب، في تاريخ 5 مارس 2020، إلى توقيع اتفاق يهدف إلى وقف إطلاق النار وعودة النازحين إلى أماكن إقامتهم؛ فما مضامين هذا الاتفاق؟ وما هي دوافعه؟ وهل يحمل الاتفاق أسباب صموده؟   

أدى تصاعد الاشتباكات في مدينة إدلب، شمال غربي سوريا، إلى توتر في العلاقات التركية الروسية، والذي بلغ ذروته في 27 فبراير 2020، بمقتل 33 جنديا من الجيش التركي على أقل تقدير إثر غارات جوية؛ وقد اتهمت أنقرة الجيش السوري بالمسؤولية عنها، بينما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن "جنودا أتراكا كانوا من بين وحدات قتالية لجماعات إرهابية هاجمها جنود سوريون"؛ الأمر الذي نفته أنقرة بطبيعة الحال، لتصل الخسائر البشرية لأنقرة في إدلب إلى نحو 55 جنديا خلال شهر فبراير. وقد جاءت هذه التطورات في ظل المهلة التي منحها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لقوات الجيش السوري للانسحاب إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية المتفق عليها بموجب بنود اتفاق سوتشي، فيما كان قد أطلق تحذيرا في 19 من الشهر ذاته، فحواه أن "الهجوم على قوات الجيش السوري قد صار وشيكا".  

وبعد أسابيع من التصعيد المحموم بين الأطراف المتنازعة، خسرت قوات المعارضة المنطقة الأهم استراتيجيا "سراقب" الواقعة على مفترق الطريقين الدوليين "إم 4" و"إم 5"؛ وذلك بعد سيطرة الجيش السوري عليها، بالإضافة إلى "معرة النعمان" و"شير مغار" "وخان شيخون" و"مورك"، ومحاصرة نقاط المراقبة التركية في تلك المناطق. كذلك استعاد الجيش السوري السيطرة على طريق "إم 5" الدولي الذي يربط بين دمشق وحلب، وعلى مساحات جغرافية كبيرة كانت تقع ضمن حدود اتفاق سوتشي الموقّع عام 2018 بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، والذي تم بموجبه تجنيب إدلب أي هجوم عسكري من قبل قوات الجيش السوري. 

دوافع الطرفين الروسي والتركي

تقف موسكو وأنقرة على طرفي نقيض من الأزمة السورية وتطوراتها الميدانية المتلاحقة؛ لا سيما في إدلب التي تمثل بالنسبة لأنقرة الخاصرة الرخوة للأمن القومي التركي، في الوقت الذي تدعم فيه روسيا عمليات الجيش السوري للسيطرة على آخر معاقل المعارضة المسلحة وإنهاء حرب دامت 9 سنوات. إلا أن العلاقات الروسية التركية أعمق من أن يوقع بها ملف إدلب وحده؛ إذ تجمع الطرفان مصالح مشتركة في عدة مجالات: كالطاقة والغاز والأسلحة والسياحة. وعلى الرغم من تشابك الملفات الإقليمية والدولية التي تؤثر على صفو تلك الروابط؛ كملف "اللاجئين وتعقيداته"، وملف "الأزمة الليبية" وملف "العلاقات الأمريكية التركية"، إلا أن حرص الرئيسين الروسي والتركي على عدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية تقوّض ما بينهما من مصالح هامة، فرض ضرورة أن يكون هناك اتفاق يحفظ العلاقات الثنائية ولو بصورة مرحلية وبالحد الأدنى من أسباب الديمومة. وبالإضافة إلى عامل العلاقات الروسية التركية الذي يشكل المنطلق الأبرز في المباحثات الأخيرة، فثمة عوامل عدّة دفعت كل طرف للتوصل إلى الهدنة؛ وهي كالتالي:

الدوافع الروسية

1. الوصول إلى نسخة معدلة من اتفاقية "أضنة"؛ أي بما يضمن لتركيا أمن حدودها فقط، وينص الملحق الرابع من اتفاقية أضنة الموقعة بين تركيا وسوريا عام 1998، على أنه "في حالة إخفاق الجانب السوري في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية المنصوص عليها في هذا الاتفاق؛ فإن ذلك يعطي الحق لتركيا في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم". 

2. إفشال مسار جنيف، الذي تشرف عليه منظمة الأمم المتحدة وواشنطن، من خلال تأسيس عمليات تفاوضية جديدة تشرف عليها موسكو مباشرة، وبالتالي سحب البساط من تحت الأوروبيين وواشنطن فيما يتعلق بتسوية الأزمة السورية.

3. تصفية وجود "هيئة تحرير الشام" والتي كانت تعرف بـ "النصرة" سابقا، والفصل بين مقاتلي المعارضة والمقاتلين التابعين لجماعات إرهابية.

4. تمثل سوريا المركز الاستراتيجي للوحدات البحرية الروسية ومحط إمداد لسفنها في البحر المتوسط، وبالتالي فإن أي خطوة لحل "معضلة إدلب"، ستنعكس إيجابا على التواجد الروسي في المنطقة.  

الدوافع التركية

1. تحقيق منطقة آمنة في الشمال السوري، تستوعب اللاجئين وتخفف من معاناتهم.

2. التقليل من ضغوط الداخل التركي؛ لا سيما أحزاب المعارضة التي ارتفع حدّة خطابها ضد حزب العدالة والتنمية بعد خسارة عدد من الجنود الأتراك في معارك إدلب.

3. عدم تنفيذ حلف شمال الأطلسي "الناتو" لوعوده المتعلقة بمساندة تركيا؛ لا سيما بعد تفعيله للمادة رقم 4 من ميثاقه والتي تنص على أنه "يحق لأي عضو من الحلف طلب التشاور مع الحلفاء كافة، عند شعوره بتهديد لسلامته الإقليمية أو استقلاله السياسي أو أمنه"؛ الأمر الذي دفع تركيا للجوء إلى مهادنة الروس وعدم التعويل على الدعم الغربي أو الأمريكي. 

4. في ظل غياب الدعم الأمريكي بعد طلب أنقرة المباشر لصواريخ "باتريوت" من واشنطن، وبسبب عدم تحرك حلف "الناتو" أيضا لمساندة تحركات القوات التركية في إدلب، فإن معركة طرفها الآخر هو قوة دولية كبرى كروسيا قد تبدو غير مضمونة النتائج، لذا فقد كان لا بد لأنقرة من التوجه نحو الهدنة، للحفاظ على مكاسبها على الأرض؛ وإلا فإن خسارتها ستكون مضاعفة.

مضامين الاتفاق

أفضت قمة الكرملين التي جمعت بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب إردوغان، يوم الخميس في 5 مارس 2020، إلى الإعلان عن اتفاق يمثل ملحقا لمباحثات سوتشي التي انطلقت في 17 سبتمبر 2018 لتثبيت اتفاق خفض التصعيد في مدينة إدلب. وتضمنت مخرجات القمة أيضا إيقاف كافة الأنشطة العسكرية على طول خط التماس في منطقة خفض الصعيد في إدلب اعتبارا من منتصف ليلة الخميس – الجمعة (في 5 مارس 2020؛ أي في نفس اليوم الذي عقدت فيه القمة)، بالإضافة إلى إنشاء ممر آمن على عمق 6 كم من شمالي الطريق الدولي "إم 4" وعلى عمق 6 كم أيضا من جنوب هذا الطريق، ونشر دوريات تركية وروسية كذلك بدءا من تاريخ 15 مارس على امتداد طريق "إم 4" من منطقة "طرنبة" (التي  تبعد 2 كم عن غرب سراقب) وحتى منطقة "عين الحور"، فضلا عن الحد من إجبار المدنيين على النزوح، وتسهيل عودة النازحين إلى أماكن إقامتهم الأصلية، ومكافحة الإرهاب بكافة أشكاله؛ لا سيما مكافحة التنظيمات المُدرجة على لوائح مجلس الأمن الدولي للإرهاب. 

ويبدو أن غموض الاتفاق قد بات جليا، إذ لم توضح بنوده مصير نقاط المراقبة التركية الواقعة تحت سيطرة قوات الجيش السوري، ولم توضح أيضا مصير المنطقة الواقعة في جنوب الممر الآمن المحيط بطريق  حلب – اللاذقية "إم 4"، فضلا عن عدم تقديمها لأية توضيحات حول الطريق السريع بين حلب ودمشق "إم 5"، كذلك فإنها لم توضح آليات عودة مئات الآلاف من اللاجئين إلى أماكن إقامتهم، فيما غابت منطقة حظر الطيران المنشودة من قبل الطرف التركي، ومصير "هيئة تحرير الشام" المعروفة بـ "النصرة" سابقا عن دائرة النقاش؛ الأمر الذي يرجّح كفة الدولة السورية لكسب الجولة الأخيرة من معركة السيطرة على آخر مناطق خفض التصعيد في البلاد، وطي صفحة الصراع المستمر منذ 9 أعوام.  

مكاسب الطرفين الروسي والتركي من هذا الاتفاق 

المكاسب الروسية

1. نجحت موسكو في جذب أنقرة، عضو حلف "الناتو"، إلى جانبها؛ ولو بشكل مؤقت.

2. حققت موسكو هدفها بسيطرة قواتها مع الجيش السوري على طريق حلب – دمشق الدولي "إم 5"؛ وهو الطريق الذي غاب عن مخرجات قمة الكرملين بشكل مطلق.

3. أعادت موسكو في المحصلة ترتيب أوراق اللعبة على الأرض بين حلفائها: السوريين والإيرانيين، في مقابل عدم خسارتها لشريكها الاستراتيجي أنقرة. 

المكاسب التركية 

على الرغم من خسارة أنقرة للمناطق التي سيطر عليها الجيش السوري، ومن عدم تحقيق مطامحها في إقامة المنطقة الآمنة رغم جهودها المضنية وخسائرها الجسيمة في سبيل تحقيق ذلك، إلا أنها نجحت في:

1. إخماد أصوات المعارضة الداخلية الرافضة للدور التركي في إدلب، بعد تذرعها بخسارة أفراد من الجيش الوطني التركي في تلك المعارك؛ لا سيما وأن حزب العدالة والتنمية يعاني من أزمات داخلية وتراجع في قبوله انعكس ذلك في خسارته للانتخابات البلدية الأخيرة خلال العام الماضي 2019. 

2. وقف التقدم الروسي على الأرض؛ ففي حال استمرت المواجهة العسكرية لتضاعفت خسائر أنقرة المتمثلة في خسارة مكاسبها على الأرض، وخسارة العلاقة الاستراتيجية مع موسكو على مختلف الأصعدة.

مستقبل الاتفاق

على الرغم من تأكيد الرئيسين التركي والروسي على أن الحل العسكري لن يسهم في إنهاء الصراع في سوريا، وأن "الحل الوحيد يتمثل في الجانب السياسي بقيادة السوريين وحدهم ورعايتهم، وبشكل يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254"، وعلى الرغم أيضا من إيجابيات الاتفاق المتمثلة بوقف إطلاق النار، وتحييد العنصر البشري عن النزاع السياسي، والبدء في تحديد مسار عودة اللاجئين إلى ديارهم؛ إلا أن غموض الاتفاق وشح مضامينه والقضايا التي تعالجها، يرشح خيار التصعيد في المستقبل القريب؛ لا سيما مع احتفاظ تركيا بحق الرد على أي خرق من قبل قوات الجيش السوري، وتمسكها بضرورة إقامة المنطقة الآمنة للتخفيف من حركة اللجوء المتزايدة، بالإضافة إلى مواصلة إرسال حشودها العسكرية إلى إدلب، وردودها المتكررة على ضربات الجيش السوري.

في المقابل لا تزال روسيا تتذرع بـ "الجماعات الإرهابية"؛ تحديدا "هيئة تحرير الشام" المعروفة بـ "النصرة" سابقا، وستبرر أي عمل ميداني مقبل لقواتها بأنه ضروري للقضاء على تلك الجماعات؛ وفقا لبنود الاتفاق الأخير. 

هذا ويعد الموقف الأمريكي أيضا محددا هاما لاستمرارية الاتفاق؛ إذ عكست واشنطن موقفها السلبي من إبرامه من خلال السعي الجاد لعرقلة جهود المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، للحصول على إعلان من مجلس الأمن يدعم الاتفاق التركي الروسي حول إدلب إذ اعتبرت واشنطن أن "الأمر سابق لأوانه"، في الوقت الذي يتوقع فيه مراقبون أن تقوم واشنطن بإزالة "هيئة تحرير الشام" من قائمة التنظيمات الإرهابية بهدف إعادة إشعال فتيل التوتر بين الطرفين في إدلب. وتسعى واشنطن أيضا جاهدة إلى ثني أنقرة عن شراء المنظومة الدفاعية الروسية "S-400"؛ الموقف الذي مفاده أن "تركيا لا يمكنها التحالف مع الولايات المتحدة وروسيا في آن واحد". 

وفي المحصلة، يبدو أن الاتفاق قد جاء كإجراء مؤقت للحفاظ على العلاقات التركية الروسية وليس كتسوية نهائية لملف آخر "مناطق خفض التصعيد في سوريا"؛ الأمر الذي يبقي ديمومة الاتفاق ومرونة تطبيقه مرهونا ببعض التطورات التي قد تحدث مستقبلا، كاتخاذ حلفاء تركيا ــــ لا سيما أمريكا وحلف "الناتو" ــــ مواقف أكثر جدّية، أو التوصل إلى توافقات حول الملف الليبي بين الطرفين الروسي والتركي.