إضاءة على التوجهات الاقتصادية لإدارة ترامب

تقوم المادة بتسليط الضوء على التناقضات الاقتصادية التي صاحبت ونتجت عن وصول ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تناولها للرؤى الاقتصادية الرئيسية التي يتبناها الفريق الرئاسي الأمريكي الحالي.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGEICS
  • تاريخ النشر – ٢٠‏/٠١‏/٢٠٢٠

إنه لمن التبسيط المُخلّ، عند دراسة التوجهات السياسية للإدارة الأمريكية، التركيز فقط على شخصية الرئيس الأمريكي الحالي وتصريحاته الرسمية سواء عبر المؤتمرات الصحفية أو وسائل التواصل الاجتماعي، وحصر النقاش حول خلفيته الثقافية والاجتماعية، ومسلكياته قبل وخلال فترة الرئاسة، وما إلى ذلك من الأبعاد الشخصية؛ فعلى الرغم من أهمية هذا الجانب، إلا أنه لا يمكن أن يكون وحده المحدد لهذه التوجهات، بل لا بد من تحليل التيارات الاجتماعية المتصارعة و/ أو المتقاطعة مصلحياً من أجل تمثيل مصالح الشعب الأمريكي في الداخل والخارج، هذا التمثيل تحديداً ليس بالضرورة أن ينسجم مع مصالح جميع الطبقات والفئات الاجتماعية الموجودة في المجتمع الأمريكي، أو في أي مجتمع قيد الدراسة.

تزامن فوز ترامب بمنصب رئاسة الولايات المتحدة في نوفمبر 2016 مع مجموعة من الأحداث التي ساهمت بتكوين وتنامي صورة إعلامية واجتماعية مضادة لبرنامجه وأنصاره، ليس داخل الولايات المتحدة فقط، وإنما على الصعيد العالمي أيضاً، وهذه الأحداث متمثلة بتصاعد الحركات اليمينية في أوروبا، وتصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

إن هذا المد اليميني، الذي يتغلغل شيئا فشيئا في المجتمعات الغربية وقياداته السياسية، يتم التعامل معه من قبل بعض المحللين على أنه خلل في عملية المشاركة السياسية، وأنه ناتج عن فقدان الثقة بالتيارات والأحزاب الليبرالية من قِبل طيف واسع في تلك المجتمعات، وعن انتهاء التعويل عليها في تحقيق التطلعات المادية والمعنوية للناخبين، لكن تجدر الإشارة هنا، إلى أن جزءاً كبيراً من المحاكمات النظرية للأفكار اليمينية تكتفي فقط بالتصريحات الإعلامية والعواطف الإنسانية وقياس مدى بعدها عن القيم الديمقراطية بمعزل عن أساسها الاجتماعي الاقتصادي، وهذا سيؤدي إلى إنتاج مقاربات بعيدة نسبياً عن الواقع الموضوعي الملموس الذي يعيشه المجتمع.

كيف ظهر نموذج ترامب؟

لقد مر المجتمع الأمريكي، كما هو الحال في مجتمعات البلدان الأوروبية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، بفترة من الرفاه الاجتماعي المُعتمِد بالدرجة الأولى على قيام الدولة بتأمين "الطلب الفعال" على مختلف السلع والخدمات، دافعة بتسارع القدرات الإنتاجية للقطاعات الاقتصادية، ومُستندة على تطور تكنولوجي متنامي، وموجهة بنزاع شمل جميع المجالات والحقول مع المعسكر الاشتراكي، وهذا ما أدى إلى تقديم العديد من التنازلات لصالح الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة عموماً.

بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، وإعلان الولايات المتحدة انتصارها في الحرب الباردة، بدأ العالم الغربي "المتقدم" بنشر قيمه الليبرالية على نطاق جغرافي واجتماعي - اقتصادي أوسع، بحكم ظهور أسواق جديدة وُضعت على سكة الاقتصاد الرأسمالي، وهذا ما كان من شأنه توليد مشاكل في العناصر المكونة لهذا العالم فيما يتعلق بالصيغة المصلحية التي تجمعها من جهة، وعلاقتها بالاقتصاديات النامية من جهة أخرى.

عمل التطور التكنولوجي في الولايات المتحدة على تحديد نوعية العمالة، حيث ظهرت العديد من الشروط المفروضة على المواطنين القادرين على العمل والذين لا بد لهم أن ينخرطوا في العملية الإنتاجية، وذلك من حيث حجم الخبرة المطلوبة والتعليم الجامعي المناسب، ولكن ليس الجميع قادرا على مواكبة التفاعل مع هذه المتطلبات، إذ اقتصر ذلك إلى حد ما على الفئات العليا من الطبقة الوسطى، مما أدى إلى وجود اضطراب في بنية القوى العاملة الأمريكية.

صاحب هذا الاضطراب خلل بنيوي في توزيع القطاعات الإنتاجية، من ناحية تشجيع أحدها على حساب الآخر؛ ما أثر على هيكل الاقتصاد بشكل عام، حيث تراجعت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي في الخمسين سنة الماضية من 27% إلى 12%، وانخفض حجم الوظائف في هذا القطاع في الفترة ما بين (2000 – 2010) من 17 مليون وظيفة إلى أقل من 12 مليون، وانخفض الاستثمار في الرأسمال الثابت (أبنية وتكنيك) بحلول عام 2000 بمقدار 1.8% في 15 حقلا صناعيا من أصل 19.

ويبلغ عدد الشركات متوسطة وصغيرة الحجم في الولايات المتحدة ما يُقارب الربع مليون، وتُمثل بدورها ما يقارب 86% من مؤسسات التصنيع هناك، هذه الشركات لم تحظَ بالبيئة المناسبة للبقاء على اتصال مع مستجدات التطور التقني، وبالتالي هُمش دورها في الاقتصاد لصالح القطاعات المختصة بتكنولوجيا المعلومات والصناعات الدقيقة والتداول في الأسواق المالية والتجارة الخارجية، وأدى ذلك إلى الرفع من أهمية الاستهلاك الذي وصلت حصته بالنسبة للناتج الإجمالي في عام 2018 إلى 69% وهذا مؤشر سلبي بالنسبة إلى مركز رأسمالي عالمي مثل الولايات المتحدة.

لم تركز الإدارات الأمريكية خلال الثلاثين سنة الماضية على تعزيز مكانة الصناعات التحويلية والصناعات الثقيلة، واتجهت بدلاً من ذلك إلى الاعتماد على الواردات مما أنتج مزاحمة في السوق المحلية، إلى جانب توجه الشركات الكبرى إلى تصدير رأسمالها إلى الخارج بحثاً عن ظروف استثمارية أوفر بالنسبة لتكلفة الإنتاج.

منذ بداية القرن الحالي، تعالت أصوات نواب في الكونغرس رافضة للوضع الاقتصادي غير المنحاز للمصنعين، ويمكن فهم فوز ترامب على أنه امتداد لهذا الاحتجاج السياسي الذي يمتلك أساساً اقتصادياً عميقاً ومعقداً. 

إعادة الألق للقاعدة التصنيعية من خلال الحرب التجارية

بيتر نافارو حاصلٌ على درجة الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة هارفارد، وعُين كمستشار للبيت الأبيض للشؤون التجارية في صيف 2017؛ هذا الرجل يُعتبر عراب السلوك التجاري الأمريكي في عهد ترامب، ابتداء من الانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، مروراً بصياغة اتفاقية جديدة "منحازة أكثر" لمصالح الولايات المتحدة بالمقارنة مع اتفاقية التجارة الحرة "النافتا" مع كل من المكسيك وكندا، وليس انتهاء بالحرب التجارية مع الصين، التي بدأت في مارس 2018.

يمتلك نافارو العديد من الكتب التي تتكلم عن "الخطر" العسكري والاقتصادي الصيني على المجتمع الأمريكي، ومنها: "حروب المستقبل مع الصين"، و"الموت على يد الصين"، وكان قد عرض على ترامب تطوير برنامجه الانتخابي بالتعاون مع المستثمر العالمي، ويلبر روس، الذي تبوأ منصب وزير التجارة فيما بعد، واشتهر "روس" بشراء المنشآت الصناعية المُفلسة مثل مصانع الصلب وغيرها من الصناعات التحويلية.

يعتقد ترامب ومن يتفق مع أعضاء فريقه الرئاسي أنه بإمكانهم فرض إعادة تموضع للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، من خلال العمل على زيادة تنافسية الصادرات عبر "تثوير" القوى الإنتاجية، وفرض الرسوم الجمركية على الصادرات المتجهة إلى الأراضي الأمريكية، وتعزيز المنتجات المحلية، والعمل على إجبار الشركات الكبرى الأمريكية على تصنيع  منتجاتها داخل البلاد، وبموازاة ذلك؛ العمل على تعزيز مكانة القوى العاملة الأمريكية، من خلال وضع قيود شديدة على تأشيرات العمل والهجرة.

وعملت إدارة ترامب على تخفيض معدلات البطالة حتى بلغت مع حلول سبتمبر 2018 معدل 3.7%، وهذه النسبة تُعد الأكثر اقتراباً من أدنى معدل بطالة سُجل في تاريخ الولايات المتحدة، في 1969 والذي بلغ حوالي 3.5%، كما ارتفع متوسط دخل ساعة العمل إلى 5%، وجرى تخفيض الضرائب بشكل عام من 35% إلى 21% حتى نهاية عام 2018.

إلا أنه وبسبب حجم الاعتمادية الكبير بين أقطاب الاقتصاد العالمي، أدت وستؤدي السياسات الاقتصادية الحالية للإدارة الأمريكية  ـــ بحسب مراقبين ـــ إلى اهتزازات عنيفة في الاقتصاد العالمي، حيث أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين أدت إلى انخفاض الإنتاج الصناعي الصيني بواقع 4.8% في يوليو 2019 وهذه النسبة هي الأكبر منذ عام 2002، كما قلل صندوق النقد الدولي من توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي في 2019 إلى 3.2% و3.5% في 2020.

ويظهَر تناقض المصالح الطبقية، بين أصحاب "السياسة الحمائية" ومتبني منهج "السوق الحر"، في الخلاف المتصاعد بين البيت الأبيض والاحتياطي الفيدرالي، حيث يطالب ترامب بتخفيض قيمة الدولار لتعزيز قيمة الصادرات ومكانتها في الميزان التجاري الأمريكي الذي وصل العجز فيه عام 2018 إلى 621 مليار دولار، وبالتالي فإن الدولار القوي يهدد الأجندة الاقتصادية للرئيس الأمريكي، ويخفض حظوظه في الفوز في ولاية ثانية، بحسب وكالة "بلومبرغ".

ويعتبر دونالد ترامب أن الاحتياطي الفيدرالي يشكل أكبر عقبة في وجه "ازدهار" الاقتصاد الأمريكي، وأنه ينافس المصنعين الأمريكيين أكثر من الشركات الأجنبية.

 إن عدم وجود توافق بين ترامب والاحتياطي الفيدرالي إلى جانب قيام العديد من البنوك المركزية في دول كثيرة بتخفيض أسعار الفائدة، يعمل على زعزعة ثقة المستثمرين المتداولين للسندات الأمريكية التي انخفضت قيمتها بسبب عدم استقرار الدولار، حيث أقدم الاحتياطي الفيدرالي على تخفيض سعر الفائدة ثلاث مرات خلال عام 2019 بمجموع بلغ ثلاثة أرباع نقطة مئوية، في ظل عدم رضا الرئيس الأمريكي على هذا التخفيض باعتباره "بسيطاً جداً"، وتعتبر السندات الأمريكية "ملاذاً آمناً" للاستثمار في أوقات الضغط في سوق التداول، وهي ـــ أي السندات ـــ تشكل مصدر تمويل رئيسي للحكومة الأمريكية لا يمكن الاستغناء عنه.

وتقوم العديد من الدول منذ الإعلان عن خفض أسعار الفائدة ببيع جزء من حيازتها للسندات الأمريكية خوفاً على اقتصادياتها، وعملية البيع قد تكون وسيلة ضغط على الحكومة الأمريكية من جانب دول مثل: روسيا والصين، فعلى سبيل المثال، انخفضت حيازة السلطات الصينية من السندات الأمريكية إلى أدنى مستوى منذ 2016 بواقع 1.1 تريليون دولار،  بسبب تصدّر اليابان للمرتبة الأولى في حيازة السندات الأمريكية عند مستوى 1.22 تريليون دولار في يونيو 2019.

لكن في المقابل، هنالك العديد من الأصوات في البيت الأبيض التي تستبعد حدوث ركود اقتصادي بسبب التقلب في أسواق السندات العالمية، داعيةً المستثمرين إلى عدم الاكتراث للأصوات الإعلامية المتشائمة؛ التي قد تقود أسواق التبادل إلى مؤشرات سلبية دون وجود أرضية اقتصادية لذلك.

ماذا بعد؟

لقد جاء فوز ترامب بمنصب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، تعبيراً عن تضرر طيف واسع من المجتمع الأمريكي من العولمة الاقتصادية وفقدانهم للعديد من المكتسبات والمزايا الاقتصادية التي كانوا يمتلكونها في الماضي، وهذه المطالبات الاقتصادية على الصعيد المحلي وبالتالي العالمي، غُلفت بخطاب يميني متطرف تجاه مختلف القضايا الاجتماعية (حقوق الأقليات، التعددية، المرأة، الدين)، ذلك لأن خصوم ترامب من "النيوليبراليين" الساعين إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه بالنسبة للاقتصاد الأمريكي مع بعض التعديلات على الرتوش، يطرحون خطابا ديمقراطيا و"إنسانيا" تجاه ذات القضايا.

إن التوجهات الاقتصادية لإدارة ترامب ما هي إلا تعبير عن بداية لرسم حقبة جديدة من العلاقات الاقتصادية على مستوى العالم، حقبة قد تعود بالكوكب إلى مرحلة الاقتصاديات القومية من خلال ما يمكن تسميته بـ"العولمة المعكوسة"، والتي تبدؤها الولايات المتحدة بانسحابها من تأدية دورها الاقتصادي دولياً، دون الالتفات إلى العواقب الوخيمة التي سيخلّفها ذلك على الاستقرار النقدي والمالي العالمي.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات