صندوق باندورا ... الراديكالية والراديكالية المضادة في فرنسا

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠٥‏/١١‏/٢٠٢٠
لم يتوقع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما ألقى خطابه في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، والذي عرض فيه رؤيته الاستراتيجية في مواجهة "الإسلام السياسي"، أنه سيفتح على نفسه صندوق باندورا (الذي تقول الأسطورة الإغريقية إنه مملوء بالشرور)، لتتوالى الأحداث بشكل دراماتيكي غير متوقع، فتقلب حقائق الخطاب وتحوله من خطة عمل ضد "الانعزالية الإسلامية" ومشروع "المجتمع المضاد للجمهورية" في فرنسا، إلى خطاب كراهية وعداء للإسلام.
تعدُّ الجالية المسلمة في فرنسا الأكبر في أوروبا الغربية إذ يبلغ عدد أعضائها نحو 6 ملايين مواطن يمثلون حوالي 9 في المئة من إجمالي عدد السكان، ليكون الدين الثاني في البلاد. كما أن ملف الإسلام في فرنسا ليس جديداً، ويعود الجدل حول علاقته بالدولة والمؤسسات والمجتمع إلى بضعة عقود مضت، ولطالما شكّل تربة خصبة للاستغلال السياسي والتنافس الحزبي على المستويات كافة.
ورغم اصطناع حالة المفاجئة إزاء خطاب ماكرون "المناهض للانعزالية"، بخاصة على المستوى الخارجي، إلا أنه كان متوقعاً منذ مدة، لا سيما بعد الاستطلاع الذي أجراه أخيراً "المعهد الفرنسي للرأي العام IFOP" وأفاد بأن نحو 74 في المئة من المسلمين الفرنسيين تحت سن 25 سنة قد عبّروا صراحة أنهم يعطون عقيدتهم الدينية أولوية على قوانين الجمهورية الفرنسية. بالإضافة إلى أنه، وبحسب مصادر فرنسية، تم تأجيل الخطاب عدة مرات. وحتى "الضجة" التي أثارها ماكرون كانت إلى حد ما متوقعة، بخاصة في صفوف المستثمرين في انعزالية الإسلام في فرنسا، أي تركيا تحديداً.
لذلك ليس من الحصافة حصر السجال بين أنقرة وباريس حول ما جاء في الخطاب وحسب، إذ لم تتوانَ الحكومة التركية سابقاً عن التدخل في مسلمي فرنسا، ما أدى في حالات كثيرة إلى توتر العلاقات بين البلدين. ولا ننسى أن تركيا ترسل إلى فرنسا 140 من أصل 290 إماماً أجنبياً يعملون فيها. كما تمول منظمة "الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية" عدة مساجد فرنسية. وقد وصل الأمر بتركيا إلى التشجيع على تأسيس حزب مرتبط بحزب "العدالة والتنمية"، وهو حزب "المساواة والعدالة" (Parti Égalité et Justice PEJ) الذي أسسه شاكير شولاك وذلك عام 2015.
كان لهذه التدخلات الخارجية في المؤسسات الإسلامية الفرنسية تأثيراً ملحوظاً، حتى باتت بعيدة تماماً من التنوع الذي كان لعقود طويلة سمة المجتمع المسلم في فرنسا. ويكاد يكون الهدف الرئيس من تشديد ماكرون على محاربة "الانفصالية" ومواجهة جماعات الإسلام الراديكالي، وما تبع ذلك عملياً من إعلان إنهاء تدريب الأئمة المسلمين في الخارج والتشديد على مراقبة تمويل الجمعيات الإسلامية، هو الحد من التلاعب التركي بمسلمي فرنسا.
ورغم تعالي الأصوات المنددة بالخطاب، وكيل الاتهامات جزافاً لماكرون بمعاداة الإسلام والمساهمة في نشر "الإسلاموفوبيا"، لا يمكن القول إن الخطاب كان هو المشكلة. فعلى الرغم من بعض العبارات التي أُسيء تأويلها، حظيت رؤية ماكرون في مواجهة التطرف الإسلامي بدعم اثنين من قادة الجالية المسلمة في فرنسا (محمد موسوي، رئيس المجلس الفرنسي للمسلمين "CFCM"، وغالب بن الشيخ، رئيس مؤسسة "إسلام فرنسا" إيماناً منهما أن الخطاب تضمن مجموعة من الأفكار والقضايا المهمة التي يمكن أن تؤسس لمشروع تنويري معاصر ليس في فرنسا وحسب، بل حتى في بعض البلدان العربية والإسلامية التي تعاني إرهاب الإسلام السياسي. فقد أكد الرئيس على وجوب تدريب الأئمة على أراضي فرنسا وببرامج فرنسية محلية تتوافق مع قيم الجمهورية وإرثها الإنساني الذي يتصف بالعراقة والعالمية، بالإضافة إلى إصلاح التدريس في الجامعات لتشمل المناهج مفكرين وفلاسفة مسلمين "تقدميين"، من أمثال ابن رشد وابن خلدون يجب أن يدرسهما الفرنسيون. ودعا إلى "فهم أفضل للإسلام وتعليم اللغة العربية"، بما يمكن أن يسهم في ترسيخ التوافق بين الاعتقاد الديني والهوية الوطنية بالنسبة الى مسلمي بلاده.
مقابل دعوة الرئيس الفرنسي هذه، كان لافتاً اعترافه بأن سلطات بلاده تتحمل المسؤولية أيضاً في تطوير ظاهرة "تحول الأحياء إلى غيتوات". فهو قال: "قمنا بتجميع السكان بموجب أصولهم، لم نعمد إلى إحلال ما يكفي من الاختلاط، ولا ما يكفي من تمكينهم من التدرج الاقتصادي والاجتماعي"، لينتهي إلى خلاصة لافتة للإشكالية التي يمكن تعميمها خارج الحدود الفرنسية أيضاً، ومفادها أن "الإسلاميين بنوا مشروعهم على تراجعنا وتخاذلنا"، مؤكداً أن أفضل حماية ضد التطرف هي التماسك الوطني، ووجود دولة تضمن لكل مواطنيها، وفي كل مكان، حقوق المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص.
يكشف هذا كله أن غاية الخطاب، الموجه أصلاً  إلى الأمة الفرنسية، المحافظة على السلم المجتمعي من التطرف أياً كان نوعه، والذي يتجلى في الحالة الفرنسية في مظهرين اثنين متعارضين بشكل تام، المظهر الأول: هو "الراديكالية الإسلاموية" التي لا تتضمن أجندتها تبني قيم المواطنة الفرنسية والالتزام بمبادئها. فهذه الجماعات قامت على مخالفة القيم والقوانين الفرنسية، ودعمت تجمعات البؤس من خلال حضّها على الانعزالية عن المجتمع الفرنسي، ورفض خطط الاندماج المجتمعي، وعملت على تأجيج الكراهية والتعصب ضد علمانية الدولة، وبالتالي تحولت هذه الجماعات إلى غرباء عن المجتمع الفرنسي، وليس إلى مهاجرين إليه، مع العلم أن العلمانية الفرنسية قد نشأت وتطورت في مواجهة السلطة الدينية المسيحية منذ عدة عقود مضت.
أما المظهر الثاني، فيتعلق بالتهديد المباشر من الفرنسيين غير الإسلاميين أنفسهم، سواء من اليمين المتطرف أو من دعاة "العلمانية الراديكالية" التي لا تخفي عداءها للدين أياً كان. وعلى هذا ذهب كثير من المحللين إلى أن محاولة ماكرون استمالة اليمين، كانت الدافع الرئيس للشدّة التي اتصف بها الخطاب، والتي اعتُبرت لدى البعض ترتيباً سياسياً لا بدّ منه للحد من تنامي شعبية "لوبان"، والاستعداد لانتخابات 2022. ومع أن بعض الأصوات فضلت وصف ذلك بالأزمة التي يعاني منها ماكرون، إلا أن الحصافة السياسية تقتضي في هذه الحالة تقديم الدعم اللامشروط له، بخاصة من المسلمين الذين رفضوا مشروعه، إلا إذا كانوا يرون في فوز "لوبان" بالانتخابات يوفر وضعاً أفضل للمسلمين ولغيرهم من ذوي الأصول غير الفرنسية.
وفي كل الأحوال، لا يمكن اختزال أهمية خطاب ماكرون إلى مجرد دعاية سياسية، بحسب ما أراد البعض تكريسه لإفراغ مشروع "إصلاح الجمهورية" من مضمونه، فمشكلة الإسلام الراديكالي في فرنسا طفت على السطح منذ الثمانينات من القرن الماضي، وتناولها جميع الرؤساء، وخصوصاً ساركوزي، كما استخدموها في معاركهم الانتخابية، لكن من دون تقديم أي مشروع جدّي لحلّها. وحده ماكرون، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، أراد التحول من استثمار المشكلة إلى العمل على حلّها، ربما بعد أن بلغت خطورتها درجة لم يعد مجدياً معها تأجيل الحلول، بخاصة بعدما كشف الربيع العربي المزعوم عن أعداد الإرهابيين الأوروبيين الذين انضموا لـ"داعش" وغيره من التنظيمات الراديكالية، والذين كان لفرنسا حصة الأسد منهم.
ومع أن وضوح ماكرون قد أزعج الكثير من المسلمين حول العالم، فهو لم يقصد إلا تشخيص مشكلات المجتمع الفرنسي، كونه المسؤول عن حماية دستور الجمهورية والحفاظ على وحدة الأمة الفرنسية. لذلك فإن أي نقاش خارج حدود فرنسا عن اعتدال خطابه أو عدم اعتداله هو تعبير عن رأي لا ينبغي أن يمس السياسة الفرنسية.
اللافت أن المشكلة برزت أولاً في البيئة السياسية المستقطبة، التي تلقت الخطاب، في فرنسا والعالم. وثانياً في الأحداث التي تلته (جريمة قتل المدرس باتي وعرض رسوم "شارلي إيبدو") فاتخذ الرئيس مواقف حادّة، اعتبرها البعض انحرافاً عن الوسطية نحو "العلمانية الراديكالية"، ورفض تقديم اعتذار عما اعتبُر مساساً بالمقدسات الدينية من جهة أخرى.
حدث ذلك كله تزامناً مع بدء إعادة محاكمة 14 شخصاً بتهمة مساعدة المسلحين في الهجوم على مجلة "شارلي إيبدو" عام 2015. وهي أعادت، بهذه المناسبة، نشر الرسومات التي عرضها باتي على تلاميذه بعدما نصح الطلاب المسلمين بالمغادرة إذا أرادوا. وانتقاماً منه، قطع لاجئ من أصل شيشاني رأس مدرس التاريخ، في جريمة مروعة أثارت سخطاً واستنكاراً شديدين في أنحاء البلاد كافة.
ونقل الناطق باسم الحكومة الفرنسية غابرييل أتال عن الرئيس الفرنسي قوله في جلسة مجلس الوزراء "المذنب معروف: هو الإسلام السياسي الذي يدعم منهجياً تفكيك الجمهورية. إنها معركة أمنية وتربوية وثقافية ومعركة طويلة". وفي حفل التأبين الذي أقيم للمدرس، قال ماكرون إن باتي قُتل "لأنّه كان يجسّد الجمهورية"، مؤكداً أنّ بلاده لن تتخلى عن "الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر البعض، سنقدم كل الفرص التي يجب على الجمهورية أن تقدمها لشبابها من دون تمييز وتهميش، سنواصل أيها المعلم مع كل الأساتذة والمعلمين في فرنسا، سنعلم التاريخ بمجده وشقه المظلم وسنعلم الأدب والموسيقى والروح والفكر".
أشعلت كلمة الرئيس الفرنسي، وما عرض من أغلفة مجلة "شارلي إيبدو" على مبانٍ حكومية فرنسية، غضباً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر عبر وسوم من قبيل #ماكرون_يسيء_للنبي و #إلا_رسول_الله. وطالب المستخدمون بمقاطعة المنتجات الفرنسية. ناهيك عن خطاب الكراهية، والتنمر، والاصطفاف الديني والتحريض على الإرهاب.
هكذا وجد ماكرون نفسه عالقاً بين مطارق وسنادين كثيرة، على رأسها غضب الشارع الفرنسي حيال جريمة القتل ومطالبة الدولة بالتحرك من جهة، واليمين المتطرف المتربص به من جهة ثانية، وتركيا ومثيلاتها من الدول الداعمة للإسلام السياسي والتي ستجيّر أي مهادنة للرئيس لتعدها انتصاراً، وأخيراً المسلمون البسطاء الحقيقيون الذين انتابهم غضب أصيل من المساس بأحد أهم مقدساتهم. لكن لا يمكن إنكار أن هذا الغضب جاء بتحريض سياسي وإعلامي خارجي، اعتمد أسلوب الشعبوية بغية إقحام السياسة الفرنسية في معارك التصريحات الاستفزازية التي لا تتفق مع نهج الإليزيه في إدارة علاقاته الدولية.
طُلب من ماكرون الاعتذار، وتوضيح موقف فرنسا من الإسلام، وهذا ما حاولت الخارجية الفرنسية توضيحه، غير أن حوار الدبلوماسية الهادئة لا يمكن أن يترافق مع خطاب الانفعال الشعبوي الذي واجهته فرنسا من سدنة الإسلام السياسي وداعميه، إذ دائماً ما يتأخر خطاب العقل عندما يتصدر المشهد خطاب التحريض والاستفزاز.
إن الاعتذار الحقيقي الذي يحتاجه المسلمون، ومسلمو فرنسا تحديداً، من الرئيس الفرنسي، ليس بالقول وحده؛ بل يجب أن يتجسد بأفعال ترمي مثلاً إلى توفير الأمن والدعم لأولئك المسلمين، الفرنسيين وغير الفرنسيين، الذين يقفون بشجاعة ضدّ الإسلام السياسي والتطرف الراديكالي، الذين يحكّمون العقل ويفصلون بين الدين والدولة لضمان استقلالها، بين السياسة والإيمان لضمان نقائه، وينادون بتجديد الخطاب الديني، ويرفضون محاولات التجييش التعصبي أياً كان مصدرها، ويبحثون دائماً عن السلام. 
كما يجب أن يؤسس ماكرون اعتذاره على التصدي للراديكالية العلمانية، لأنها كالراديكالية الإسلامية ترسخ ثقافة الاقصاء والكراهية، فلا تفصل بين المسلمين والإسلامويين، وتسم الإسلام كله بالتطرف والإرهاب، وترى أنّ المشكلة لا تكمن في تنظيمات متطرفة، بل في الدين الإسلامي نفسه، فتضيّق الخناق على المسلمين المهاجرين واللاجئين الذين احتموا بأوروبا وآمنوا بديمقراطيتها وقيمها، وتصل إلى حد المطالبة بمنع الهجرة بالكامل.
وينبغي أن يتجسد الاعتذار في سياسة خارجية، تتصدى للتطرف الأيديولوجي الذي تنشره حكومة تركيا في أوروبا، وفي موقف صارم  ضد النظام الإيراني، وأنشطته العدائية وجهوده الهادفة إلى تصدير "الإسلاموية الثورية"  إلى كل أنحاء الشرق الأوسط. وسيكون لهذا المدّ من التطرف ارتدادات ستأخذ شكلاً عابراً للدول والقارات، ولن تكون فرنسا في مأمن منه.
وأخيراً وليس آخراً، ينبغي السعي بشكل حثيث لتوظيف ما لفرنسا من علاقة مقربة من المشرق أو حتى من أفريقيا، واستثمار ذلك في إصلاح العلاقة بين الشرق والغرب على أساس الاحترام المتبادل ومعرفة الآخر وتقبله، فعلى ذلك ينعقد الأمل بمزيد من السلام والاستقرار في المنطقة والعالم، ويمحو إلى حد كبير ذاكرة التوجس ومخلفات زمن الاستعمار.
العلمانية بالنسبة لفرنسا، كما يراها الفرنسيون أنفسهم، هي "روح الجمهورية" و "جوهر هويتها الوطنية"، وسياج وحدتها وأمنها واستقرارها ولسنا على ذلك مختلفين، لكن التعبير عن الآراء المتنوعة، بما فيها مسائل الإيمان، هو أيضاً شرط لأي ديموقراطية تعددية ولمدنيّة أي مجتمع. وعندما يُظهر الرئيس الفرنسي الشجاعة ليس فقط للمناداة بمواجهة دعاة التطرف الراديكالي، ولكن أيضاً لاتخاذ خطوات حقيقية وعملية لدحره، عندها سيجد المسلمون أنفسهم يقفون في صفه، لأنهم المتضررون الأوائل من أنشطة "الإسلام السياسي" ومن تشويهه المستمر والمدعوم من بعض الحكومات لصورة الإسلام الحقيقي المعتدل، لخدمة أغراض سياسية وأطماع شخصية في النفوذ والسيطرة واستعادة الأمجاد المندثرة، باستغلال الإيمان والتفريط بمصائر المسلمين ومستقبلهم.
وختاماً أقول: إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء قد اعزهم الله وحفظهم بقدرته، ولا ينتظرون خروج الملايين للتظاهر في الشوارع للدفاع عنهم. فالدول الداعمة للإسلام السياسي والتي تمارس على  شعوبها أنواع القمع والقهر والذل والهوان كافة، ولا تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم، نسيت أن أوروبا والغرب قد احتضنت الملايين من المسلمين وتعاملت معهم كمواطنين يتمتعون بالحقوق الكاملة، وهكذا تحققت مقولة المفكر الشيخ الجليل محمد عبده عندما رجع من أوروبا والغرب قائلاً شاهدت هناك "إسلاماً بلا مسلمين وشهدت في بلادنا الإسلامية مسلمين بلا إسلام".
هكذا، وهكذا فقط يعتذر إيمانويل ماكرون من المسلمين.
 
 
 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS