هل حقًا "الحرب" قادمة؟!

لم يغب شبح الحرب الكبرى يوما عن التاريخ السياسي الحديث؛ لكن هل هذه‎ العبارة تعني أن الحرب بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية قادمة لا محالة؟ وفي حال كان هناك حرب قادمة؛ فما هي نوعية هذه الحرب؟ وما هي الأدوات التي سيتم توظيفها من خلالها؟ وفي حال لم يكن هناك حرب مباشرة قادمة؛ فما هي أهم العوامل التي تضعف أو تمنع من احتمالية اندلاعها؟

الكاتب حسن إسميك
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٦‏/٠٥‏/٢٠٢٠

لطالما كانت "الأزمات الدولية" أحد أهم ميادين البحث السياسي، فهناك من يراها بأنها مبرر لخفض التصعيد، وهناك من يراها بأنها دافع لزيادة الاحتقان الموجود أصلاً.

وبعد تفجر ملف جائحة "كورونا"، وما سببه من أضرار متعددة الأبعاد - على المستوى الاقتصادي والصحي والاجتماعي والسياسي - راج عند كثير من المختصين والهواة على حد سواء، الجزم بأن الحرب حتمية واندلاعها هو مجرد مسألة وقت فقط.

وينطوي هذا الرأي على مغالطة جوهرية تتمثل في أن ميدان العلاقات الدولية يتسم بصعوبة التنبؤ نظراً لاستحالة التيقن من تقدير النوايا الدولية وتقييم القدرات للدول المعنية، لذلك من الضروري الابتعاد عن الجزم في هذا الميدان، وينبغي بدلاً من ذ‎لك اتباع الترجيح المنطقي البعيد عن العواطف، فلكل قضية وجهتا نظر في الحد الأدنى، ومن الضروري اتباع منهج علمي يناقش الآراء المتضاربة، بعيداً عن أي تحيز أو أحكام مسبقة.

إذ‎ لا يكفي تصاعد المشاعر المعادية للصين "Anti-China"، وتزايد وزن الصين الاستراتيجي في النظام الدولي، للجزم بأن هنالك حالة من "توتر ما قبل الحرب". وصحيح أن تراشق الاتهامات على أعلى المستويات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، قد بلغ حدوداً قصوى، إلا أن ما يحدث قد يكون فقاعة متعمدة لتشتيت أنظار الرأي العام المضطرب عن التبعات الصحية والاقتصادية لأزمة "كورونا"، فحتى الأنظمة الديمقراطية تتبع تكتيك توجيه الرأي العام للناخبين نحو قضايا غير رئيسية نسبياً، وفي هذا العام الانتخابي للولايات المتحدة الأمريكية، يمكن تفسير مثل هذه الاتهامات الحادة من هذا المنظور.

وذلك لا يعني التقليل من عمق التوتر الاستراتيجي بين كلا القوتين، فقد تم التطرق في مادة نشرت بعنوان "كورونا والتنافس الجيوستراتيجي المتجدد: هل يشعل الوباء حرباً نووية؟" إلى أهم ملامح التنافس بين الصين والولايات المتحدة.

وفي التقرير التالي، نناقش أهم العوامل التي تُضعف من احتمالية اندلاع حرب مباشرة بين الصين والولايات المتحدة، والتي يُمكن إجمالها في ما يلي:

أولاً: غياب الحماس الأيديولوجي

مقارنةً بالسباق نحو الهيمنة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبين الاتحاد السوفييتي؛ فإن حالة التنافس الأمريكي الصيني الراهنة تعتبر حالة "صحية" من السعي البراغماتي نحو تحقيق المكاسب الحيوية، إذ تغيب "البروباغندا العقائدية" لصالح خطاب وطني لا يدعو إلى تدمير العدو، فحتى أشد التصريحات الصادرة عن واشنطن وبكين، لا وجود فيها لأي تحريض على شن حرب.

كما أن التحالفات التي تعقدها كل من الصين والولايات المتحدة مع غيرهما من دول العالم، تقوم على أساس المصالح المشتركة، وليس على أساس التحالف ضد خطر مشترك، وبذلك تنخفض حدة التطرف السياسي ويُحافظ على إمكانية وجود فرصة لخفض التصعيد.

وإن كانت الأيديولوجية الرأسمالية هي أحد أهم سمات الدول الغربية، فإن الصين تستخدم نفس أدوات الرأسمالية في تفاعلها الخارجي مع باقي دول العالم. فالاقتصاد والقوة الناعمة هما من أهم مظاهر سلوك السياسة الخارجية الصينية، فلا وجود لأدوات أيديولوجية خاصة تستخدمها الصين في المشهد الدولي. لا بل يمكن القول إن الصين في هذه المرحلة تشدد في الحفاظ على "نظام دولي قائم على القواعد" في وقتٍ تنخفض فيه أهمية القانون الدولي والاتفاقات متعددة الأطراف؛ بحسب منظور الإدارة الأمريكية الحالية وآراء العديد من المحافظين الذ‎ين يؤيدون السياسة الحمائية؛ وهو ما يشير إلى تغير أيديولوجي بانزياح الولايات المتحدة عن العولمة، وبتوجه الصين نحوها.

وبحسب ثالوث الجنرال البروسي، كارل فون كلاوزفيتز، وهو أحد رواد الاستراتيجيات الحديثة (1780-1831)؛ فإن قيام حرب هو نتيجة اشتباك 3 عناصر حيوية لطرفي النزاع:

الأول: وجود حكومتين تسعيان إلى تحقيق هدف سياسي من وراء الحرب المرتقبة، وتُسخران كل الإمكانيات المتاحة بهدف الإعداد للحرب؛ سواء على الصعيد اللوجستي أو على صعيد جمع المعلومات.

الثاني: وجود شعبين يُكنان مشاعر العداء المتبادل ويجمعهما الشغف بالحرب كأولوية.

والثالث: وجود جيشين متحمسين للحرب بناءً على قناعة بحتمية النصر وضرورته.

وبتطبيق نموذج كلاوزفيتز على العلاقات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة، يبدو أن القوتين بعيدتان عن حالة الحرب، فالحكومة والشعب والجيش في كلا الدولتين، في مرحلة تتطلب حلولاً لمعالجة تبعات أزمة "كورونا" بعيداً عن أي تعصب أيديولوجي للحرب.

ثانياً: الردع العسكري

من جانب نظري، تُعبّر الحرب العسكرية عن حالة رياضية يتم فيها حساب مختلف الاحتمالات لنتيجة الحرب النهائية. وحتى يكون قرار شن أي حرب عقلانياً، فإن المعادلة النهائية المتمثلة في (الحصيلة= المكاسب - الخسائر) يجب أن يكون حاصلها موجباً. وبالنظر إلى تنامي القوة العسكرية الصينية، لا سيما في مجال أسلحة الدمار الشامل، فإن حصيلة المعادلة بحسب المنظور الأمريكي ستكون سلبية، فلا مكاسب يمكن تحقيقها من وراء دمار واسع النطاق في الأراضي الأمريكية، أو في المصالح الأمريكية الحيوية التي تحيط بالأراضي الصينية.

وقد حذر آخر تقييم سنوي للقدرات العسكرية الصينية والصادر عن البنتاغون في مايو 2019 والمكون من 136 صفحة؛ من أن الدولة الصينية تواظب العمل على تطوير قدراتها العسكرية لردع وثني وهزيمة أي قوات مسلحة تسعى إلى إحداث تدخل واسع النطاق في "المسرح الإقليمي" للصين. ووفقاً للتقرير، يُظهر الجيش الصيني العزيمة والقابلية لممارسة مظاهر القوة في المحيط الهادئ وما ورائه.

وفي هذا الصدد، نشرت صحيفة "Global Times" الصينية في مايو 2020 تقريراً اعتبرت فيه أن شبح الحرب ما زال بعيداً ما دامت الولايات المتحدة بعيدة عن تحقيق تفوق نوعي على الصين وروسيا، فلا أفضلية ساحقة للقدرات الأمريكية على نظيرتها الصينية و/أو الروسية.

وحتى عامل البعد الجغرافي تستطيع القدرات الصينية العسكرية التغلب عليه بتقنيات عسكرية كلاسيكية، فهنالك أرض أمريكية تبعد قرابة الـ 3 آلاف كيلو متراً عن بحر الصين الجنوبي، وهي جزيرة "غوام" ذات النظام الخاص والتي يتمتع سكانها البالغ عددهم نحو 165 ألف نسمة بحقوق مدنية أمريكية لكن لا يتيح لهم الدستور الأمريكي حق التصويت في الانتخابات الأمريكية منذ أن أقر الكونغرس أنها جزء من أراضي الولايات المتحدة عام 1950. وتعد هذه الجزيرة قاعدة عسكرية مدنية أمريكية في غرب مياه المحيط الهندي، وبنظرة بسيطة على خرائط "Google Maps" لمكان الجزيرة، يمكن القول بأن العسكريين الأمريكيين المنتشرين في قواعد جزيرة "غوام" والبالغ عددهم حوالي 7 آلاف عسكري، سيكونون في مرمى الضربة الانتقامية الصينية، إذ‎ا ما اتخذت واشنطن قراراً بتوجيه ضربات مباشرة إلى مواقع صينية.

وعليه، هنالك شبه إجماع بين الخبراء على أن عناصر الردع المادي متحققة بوجود إدراك متبادل لدى كلا الطرفين بقدرة كل منهما على جعل الحرب وخيمة العواقب.

ولكن هنالك مخاطر عالية تتعلق بالردع المعنوي النفسي المرتبط بالنوايا والحسابات العملياتية وعوامل الاحتقان الداخلي التي قد تدفع طرف ما إلى "التهور" وتصدير الأزمات إلى الداخل.

وإن كان من المستبعد اندلاع حرب، إلا أنه من المؤكد أن هناك سباق تسلح نوعي سينطلق نحو مرحلة جديدة وبأدوات جديدة، بحيث لا يغلب عليه طابع السعي نحو إحداث دمار نووي واسع النطاق للعدو مثل ما حدث إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وإنما سيأخذ هذا السباق الجديد الطابع التكنولوجي، وستتوسع خلاله ميادين الاشتباك نحو المجالين الفضائي والسيبراني؛ كما جاء في المادة التي نشرها مركز أبحاث ستراتيجيكس في نوفمبر 2019 بعنوان (كيف تحسم التكنولوجيا العسكرية الحروب قبل بدايتها؟).

فمن أهم البرامج العسكرية الطموحة التي تعكف الصين على تطويرها هو برنامج "صولجان الاغتيال - Assassin’s Mace" المصمم للتعامل مع الأقمار الصناعية العسكرية، وفقاً لتقييمات عسكرية مختصة. وقد نشرت المجلة الإخبارية المختصة بإقليم آسيا والمحيط الهادئ، "The Diplomat"، في مارس 2017 تقريراً حول نجاح علماء صينيين في إحداث اختراق غير متوقع ضمن مشروع "صولجان الاغتيال" وذ‎لك من خلال تطوير سلاح ميكرويف عالي الطاقة "HPM" يجمع بين قدرات القتل الصلب والقتل الناعم عن طريق تشويش أو حتى تدمير الأنظمة الإلكترونية للخصم.

وبالمثل، تواصل الولايات المتحدة السعي نحو اكتساب عامل التفوق الفضائي في هذا الصراع متعدد الجوانب؛ فقد أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في احتفالٍ أقيم بهذه المناسبة في البيت الأبيض في أغسطس 2019، عن تأسيس "القيادة الفضائية الأمريكية" كفرع مستقل عن القيادة الجوية، لتصبح هذه القيادة المستحدثة سادس فروع القوات المسلحة الأمريكية. ووفقاً لما قاله ترامب في الاحتفال؛ فإن التأسيس لهذه القيادة يهدف إلى الحفاظ على "هيمنة" الولايات المتحدة في الفضاء، وعلى التفوق على منافسيها، في إشارة إلى الصين وروسيا التي حذرت بدورها من "عسكرة الفضاء الخارجي" ومن اضطرارها للرد بالمثل بإجراءات وتدابير متطابقة.

وإذا ما كان نظام الردع فعالاً، ففي أسوأ السيناريوهات يُتوقع حدوث اشتباك بحري محدود بين البحرية الصينية والأمريكية، لكن سرعان ما يفتح "الرعب النووي" الباب لمفاوضات جادة حول إعادة صياغة النظام الدولي، أو التوافق على قواعد جديدة ضمن نفس النظام.

ثالثاً: الاعتماد الاقتصادي المتبادل

تزامناً مع بدء ظهور وطأة تفشي فيروس "كورونا" المستجد في الصين، تم التوقيع في يناير 2020 على اتفاق "المرحلة 1" التجاري بين واشنطن وبكين الذي أنهى نظرياً ما أطلق عليه اسم "حرب الرسوم". وبموجب الاتفاق، تتعهد الصين بشراء سلع أمريكية بقيمة 200 مليار دولار على مدار عامي (2020 و2021) في مقابل تخلي واشنطن عن فرض حزمة جديدة من الرسوم وتخفيض جزء من الرسوم المفروضة سابقاً على بعض السلع الصينية، على أن يمهد اتفاق "المرحلة 1" الطريق لاتفاق أوسع وأشمل قد يتم فيه التباحث حول أمور اقتصادية ونقدية وليست فقط تجارية.

ورغم تأكيد وزارة الخارجية الأمريكية في بيان صدر في مايو 2020 على أن الطرفين يتفقان على وجود "تقدم جيد" لتلبية اتفاق "المرحلة 1"، إلا أن هنالك شكوكاً متزايدة ترتبط بالقدرة على الوفاء بالالتزامات في الأشهر القادمة، مما قد يبدد مكاسب التوافق التجاري المبدئي بين أكبر اقتصادين في العالم؛ إذ‎ يشكلان معاً ما نسبته "29.2%" من الناتج الإجمالي المحلي العالمي؛ وفقاً لأرقام منصة "Trading Economics".

وإن كان جوهر التوتر الحالي هو اقتصادي في الدرجة الأولى، فإن أيضاً ما يُضعف من شهية الحرب هو الاقتصاد أيضاً، فالاقتصادات العالمية في حالة من التداخل والاعتماد المتبادل، بحيث إن ما يمس اقتصاد حيوي، سيؤثر بالضرورة على باقي الاقتصادات بدرجات متفاوتة. وقد أكدت أزمة "كورونا" على أهمية انسيابية تدفق سلاسل التوريد العالمية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببعضها البعض، فالمصانع الرئيسية لكثير من كبرى الشركات الأمريكية هي موجودة في الصين. وكما يقال: (إذا عطست الولايات المتحدة أو الصين، فإن العالم أجمع يصاب بالزكام)!

وفي دلالة واضحة على مدى ارتباط الاقتصادات العالمية ببعضها البعض، جاء في بيانات نشرتها مجموعة أبحاث "Rhodium" في مايو 2020 أن الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة قد انخفضت بصورة حادة إلى 200 مليون دولار في الأشهر الأولى من عام 2020، مقارنةً بتسجيل 2 مليار دولار كمتوسط في كل ربع من عام 2019. كما كشفت المصلحة العامة للجمارك الصينية أن صادرات الصين العالمية قد انخفضت في الربع الأول من عام 2020 بمقدار 13.3% مقارنةً مع الفترة ذاتها من عام 2019.

كما أن الصين تحوز نحو 1.1 تريليون دولار من السندات السيادية الأمريكية حتى مطلع عام 2020. وصحيح أن هذه السندات هي ورقة ضاغطة تستطيع بها الصين ضخ سندات أمريكية نحو الأسواق بصورة تفوق الطلب مما يؤدي إلى انهيار قيمة هذه السندات والتأثير على سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسية؛ إلا أن أي تغيير على الدولار سيجعل من السندات الأمريكية عديمة الجدوى اقتصادياً بالنسبة للصين، وسيُضعف أيضاً من رجحان كفة ميزان التبادل التجاري الأمريكي - الصيني، التي تميل الآن بصورة واضحة لصالح الصادرات الصينية ولصالح قيمة اليوان الصيني الملائمة "للوضع التصديري الصيني".

والعامل الاقتصادي الأهم الذي قد يُضعف من احتمالية الجنوح نحو الحرب، هو التعاون الاقتصادي بين الصين وأوروبا التي تشهد علاقتها مع واشنطن تذبذباً وشكوكاً متزايدة تتعلق بمدى التزام إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بنهج واشنطن التاريخي الذ‎ي اعتادت أن تتبعه تجاه أوروبا. وقد تجلى التباين الغربي في توقيع دول أوروبية مثل: بريطانيا وإيطاليا لصفقات ذات صلة بشبكات الجيل الخامس مع شركة هواوي الصينية. وقد كانت الشركة الصينية مثار لتوتر صيني أمريكي بعد إصدار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لمرسوم رئاسي في مايو 2019 يفرض عقوبات على الشركة الصينية على خلفية مخاطر تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، مثل التجسس وسرقة المعلومات.

إن ما سبق يطرح تساؤلاً جدياً وهو: كيف يمكن لواشنطن أن تبدأ حرباً عسكرية ضد الصين، ومَن يُفترض بأنهم حلفاؤها من "دول الناتو"، يقوم بعضهم بعقد صفقات مع شركة وضعتها الولايات المتحدة في وقت سابق على القائمة الأمنية السوداء؟!

بالطبع إن لأزمة "كورونا" تعقيدات سلبية على العلاقات الاقتصادية الأمريكية الصينية، لا سيما مع مطالبة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الصريحة لبكين بدفع تعويضات اقتصادية ضخمة بسبب تفشي الفيروس في الأراضي الأمريكية، حيث أنه يتهم الصين بالتقاعس في احتواء الفيروس، وبعدم اتخاذ خطوات جادة في المراحل المبكرة من بدء انتشار العدوى في الصين، ناهيك عن حجب الصين لمعلومات طبية حول الفيروس. وقد لا تكون النوايا الأمريكية جادة في انتزاع تعويض من الصين - نظراً لوجود صعوبات قانونية وسياسية - إلا أنها قد تكون راغبة في تصعيد حدة التوتر مع الصين من أجل ممارسة ضغوط على بكين لتحسين موقفها التفاوضي في المراحل القادمة، بما يضمن توسيع المكاسب الاقتصادية الأمريكية.

رابعا: التحكم في النظام الدولي

على المستوى التاريخي، كانت القوى العظمى التي تتحكم سياسياً بالأغلبية قليلة، لذا عادةً ما تحصر هذه النخبة خلافاتها البينية وتسعى لتطويقها، ففي النهاية تكاد هذه الدول أن تتفق على أسلوب ونمط للتعامل مع باقي دول العالم، فهي وإن اختلفت أدواتها وأهدافها، إلا أن الغاية واحدة وهي اكتساب زخم استراتيجي ونفوذ دولي على امتداد رقعة العالم، ولو كان ذ‎لك على حساب مصالح الدول المتوسطة والصغيرة.

ويمكن القول إن الدولة العميقة تستفيد من وجود خطر خارجي - أو فزاعة - للحفاظ على نوع من التماسك الداخلي، فعندما يستشعر الشعب تهديداً خارجياً فإنه تلقائياً يبادر إلى الالتفاف حول الدستور والرموز السياسية. وبالنظر إلى التحديات الداخلية التي تواجه كلاً من الولايات المتحدة والصين، فإنه ذ‎لك يستقضي وجود "مخرج طوارئ" لأزمات الداخل يتمثل في توظيف التوترات الخارجية للسيطرة على التنافرات السياسية المحلية.

كما وأن كلا الدولتين تؤديان دوراً مهماً في ضبط حلفائهما، وهو ما يسهم في زيادة التعاون في ملفات حيوية. فمثلاً؛ ما كان للعقوبات الأمريكية المفروضة على كوريا الشمالية أن تنجح في دفع الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، للتفاوض مع الإدارة الأمريكية، لولا ضغط الصين على جارتها التي تربطها بها علاقات اقتصادية وثيقة تصل إلى درجة اعتبر فيها البعض أن الصين هي الشريان المغذي لكوريا الشمالية.

وعليه، بغياب أو تراجع أي من الدولتين عن المشهد الدولي، فإن الدولة الأخرى ستواجه مأزقاً في إقناع - أو إرغام - حلفاء تلك الدولة على احترام الخطوط الحمر للنظام الدولي. لذلك قد تتجه الولايات المتحدة والصين إلى إعادة رسم خطوط الاشتباك، من خلال نوع من تقاسم النفوذ على امتداد الأقاليم الحيوية وبؤر التوتر، بما يحقق التوازن في النظام الدولي. فنظرياً؛ يزداد اليقين عندما يكون النظام الدولي ثنائي القطبية لا متعدد الأقطاب أو في حالة من فراغ القيادة، فالعلاقات الدولية تتسم بالزخم الذي يستدعي وجود "كبار" لضمان سلوك سلمي للسياسة الخارجية التي تنتهجها باقي الدول.

عبء القيادة

مما لا شك فيه، أن أزمة "كورونا" ستُلقي بظلالها على الوضع الاقتصادي المضطرب حتى ما قبل الأزمة. ونظراً لتأثر الولايات المتحدة الشديد بتفشي الفيروس، ولتنامي المؤيدين لضرورة رهن العائد من السياسة الخارجية بالمكاسب المتحققة؛ فإن الكلفة العالية للسياسة الخارجية الأمريكية، قد تدفع إلى مزيد من الجنوح نحو الداخل، وإلى عدم اعتماد وسائل مكلفة لتحقيق الأهداف الخارجية الأمريكية.

وتدرك الصين أنها لا تملك الكثير من الرصيد الثقافي لتغزو به العالم، فلا يوجد إقبال على تعلم اللغة الصينية أو الدراسة في المعاهد الصينية، ولا يوجد هناك مطاعم صينية شهيرة مثل "ماكدونالدز"، ولا يوجد لدى الصين "هوليود" التي يمكنها من خلالها إبهار شاشات العالم؛ كل هذه‎ العوامل وغيرها تعقّد من مهمة الصين في إقناع شعوب العالم بأحقيتها في ممارسة دور القيادة العالمية.

كما أن الثقافة الصينية المهادنة تميل إلى تجنب الاحتكاكات الخشنة مع الحضارات المختلفة، وقد يكون سور الصين العظيم أوضح صورة لماهية العقل الجمعي الصيني؛ فرغم ترامي مساحات الصين وامتلاكها في ذلك الوقت عناصر القوة إلا أنها اختارت الاستراتيجية الدفاعية وتقوقعت خلف سور لتحصن نفسها من غزو القوى المحيطة.

وإن تغير وزن الصين نسبياً في المشهد العالمي، فإنها ستظل حبيسة لسور عظيم ترغب من ورائه في التمدد اقتصادياً وفي نسج طريق للحرير دون السعي للمبادرة في بدء حرب؛ لا سيما مع وجود قوة أمريكية جبارة تمتلك ترسانة عسكرية تكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات.

وينبغي التذكير بأن النظام الدولي مر في النصف الثاني من القرن الـ 20 بحالة اضطراب سياسي وتنافس أيديولوجي بين قطبيه الغربي والسوفييتي، حيث لم تتطرق تقديرات الخبراء إلى الحديث عن احتمالية وقوع الحرب من عدمها، وإنما عن موعد اندلاع هذه الحرب. ورغم ذلك تمكنت الدبلوماسية الصلبة من نزع فتيل أكثر من أزمة، وحافظ الطرفان على الاشتباك على أطراف "الخطوط الحمراء" ولم ينزلقا من على حافة الهاوية نحو حرب مباشرة.

وبالمثل، فإنه يمكن القول إن هنالك حرب باردة بأدوات جديدة وبدون حماس أيديولوجي، تدور رحاها بين الولايات المتحدة والصين، يرافقها سباق تسلح من نوع آخر، لا يقوم عماده على الأسلحة النووية وإنما على التكنولوجيا والاقتصاد. وهو ما يُبعد شبح الدمار المتبادل المؤكد "MAD=Mutual Assured Destruction"، ويشجع على السير في طريق وحيد للخلاص يتمثل في التنمية المتبادلة المؤكدة "MAD= Mutual Assured Development".

وخلاصة القول؛ لم يغب شبح الحرب الكبرى يوماً عن التاريخ السياسي الحديث، ولكن على التنبؤات، التي تفترض اقتراب اندلاع مثل هكذا حرب، أن تكون حذرة وأن تراعي النصف الآخر من الحكاية، فليس كل تصعيد شديد يُتلى بحرب، بل أغلبه يُتلى بطاولة مفاوضات يتقاسم عليها الكبار ما يُمكن تقاسمه؛ لذا كل ما يمكن الجزم به حول احتمالية قيام حرب أمريكية صينية، هو أن تبقى في خانة الفرضيات وليس في خانة الحتميات المسلّم بها.

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS