كورونا والتنافس الجيوستراتيجي المتجدد: هل يشعل الوباء حربًا نووية؟

اتجهت العديد من التحليلات والاستشرافات إلى التنبؤ بحرب حتمية بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الصين؛ لما تمثله الصين من تهديد على الوزن الجيوستراتيجي للنفوذ الأمريكي؛ فهل اتخاذ قرار بشن حرب نووية يعد عملا عقلانيا؟ وهل العقل المركزي في واشنطن جدي حول تحييد الخطر الصيني الاقتصادي قبل أن يتحول إلى تهديد عسكري؟ وما هي نقاط القوة الصينية التي تنظر إليها الولايات المتحدة على أنها تهديد مباشر لها؟ وهل نقاط القوة هذه هي دلائل مهمة على تفاقم حدة التوتر الصيني الأمريكي الذي قد يكون محفزًا لتقوم جهات ما في الولايات المتحدة بتطوير فيروس "كورونا" المستجد كجزء من حربها الهجينة ضد الصين؟ وهل أزمة "كورونا" فجرت التناقضات في الولايات المتحدة وفاقمت الخلافات بين الدول الغربية؟

الكاتب حسن إسميك
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٠٢‏/٠٥‏/٢٠٢٠

في ظل عدم سماح الدول العظمى للصين بأن تكونَ القطبَ الأقوى والأكثرَ نفوذًا على الصعيد العالمي، وفي حال لم تنجرف الأمور إلى حرب نووية مدمرة، فإن العالم مقبل على تفكك وانقسام تلقائي إلى أقاليمَ اقتصادية وسياسية.

منذُ الحرب البيلوبونيزية التي اندلعت في اليونان في القرنِ الخامس قبل الميلاد، التفت منظرو التفاعلات الدولية إلى التموضع النسبي للقوة المهيمنة أمامَ غيرها من الفواعل في النظام الدولي. وترجع أهمية هذه الحرب إلى أنها تكادُ أن تكونُ أول حدث تاريخي تم توثيقه – على يد المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس – لصدامٍ عسكري بين قوتين؛ إحداهما قوةٌ مهيمنة تتمثل في "أسبرطة" المسيطرة والمتحكمة، والثانية قوةٌ صاعدة مثلتها "أثينا" الطامحة والحكيمة.

تصورت "أسبارطة" أخطارًا قد تتهددُها بسبب افتراضِها بمزاحمة "أثينا" لحصتها في الإقليم، ودفعَها هذا الخوف إلى الاشتباك المباشر معها؛ ولأن الخوفَ سمةٌ أصيلة في النفس البشرية، يرى بعضُ الخبراء أنه دافع حتمي لنشوب الحرب بين القوة الصاعدة والقوة المهيمنة في أي نظام دولي؛ استنادًا إلى شواهدَ تاريخية كثيرة.

هذا ما يفسر ميل كثير من التحليلات والاستشرافات نحو التنبؤ بحربٍ حتمية بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وبين الصين من جهة أخرى؛ لما تمثلُه الأخيرة من تهديدٍ على الوزن الجيوستراتيجي للنفوذ الأميركي. إلا أن التكلفةَ الباهظة للدمار ذي النطاق الواسع والناتج عن أي حربٍ بين قوتين نوويتين، يجعلُ اتخاذ قرارٍ بشن حربٍ نووية عملًا يفتقرُ إلى العقلانية؛ فالطرفان قادران على إحداث "دمارٍ حتميٍ متبادل" والمعروف بـ "MAD" اختصارًا لـمصطلح "Mutual Assured Destruction".

حربَ الرسومِ الجمركية

لأن العقل المركزي الأميركي لا بد أن يكون جادًّا في تحييدِ الخطر الصيني الاقتصادي، قبل أن يتحولَ إلى تهديدٍ عسكري صريح، فإن هذا يدعم فرضية أن تكون دوائرُ الدولة العميقة في الولايات المتحدة قد اتخذت قرارًا بممارسة الضغط على مستويات متعددة للحد من تمدد التنين الصيني في أرجاء العالم.

لعل "حربَ الرسومِ الجمركية" التي ابتدأها الرئيسُ الأميركي دونالد ترمب بين الصادراتِ الأميركية والصادراتِ الصينية، واحدة من وسائل الضغط الآخذ في التصاعد منذُ توليه الرئاسة.

من جهة ثانية، باتت أدواتُ حروب الجيلين الخامس والسادس حاضرةً دائمًا على طاولةِ التوترات الدولية، فكثيرًا ما ربطَ المراقبون بين حصول حدثٍ غامض ما وبين مثل هذه الأدوات؛ بهدف افتراض سرديات التوصيف السياسي المحتملة لما يجري.

بالطبع، كان لتفشي فيروس "كورونا" المستجد في المرحلة الأولى في الصين دورٌ في إضفاء منطقيةٍ سببيةٍ -الى حد ما - على الطرح القائل إن هذا الفيروس ما هو إلا صناعة مخبرية من جهة معينة هدفُها إضعاف الصين من دون إطلاق رصاصة واحدة، بحيث تُدمر قوتَها الاقتصادية الضاربة على المدى القصير والمتوسط.

استوعبت الصدمة الأولى

غير أن نجاحَ الصين – حتى الآن – في التصدي لهذا الوباء من جهة، وتمدُّد فيروس "كورونا" المستجد إلى مدن أوروبا الغربية، وإلى مثيلاتها في الولايات المتحدة الأهم اقتصاديًا – ككاليفورنيا ونيويورك – من جهة ثانية، يعززان الفرضية القائلة إن الصين تمكنت من استيعابِ الصدمة الأولى، وتوجيه الخطر نحو بقع جغرافية جديدة، أو ربما يكون مصنعو الفيروس قد أخطأوا الحسابات حوله، ولم يتوقعوا أنه قادرٌ على التمددِ إلى مصالحهم الاقتصادية أيضًا!

ما يزال اتهام الصين بإطلاقِ هذا الفيروس فرضية غيرَ مرفقةٍ بأية أدلةٍ دامغة، أو حتى قرائن داعمة، خصوصًا أن فرضيةَ التصنيع المخبري للفيروس ما زالت ضعيفة، تدحضُها كثيرُ من الحقائق شبه المؤكدة عن أنه ذو منشأ طبيعي. وإلى أن تنجلي الحقائق وتنقشع ضبابية "عالم ما بعد كورونا"، سيبقى لدى الصين كثيرُ من نقاط القوة التي تنظرُ إليها الولاياتُ المتحدة على أنها تهديدٌ مباشرٌ لها، ومن أهمها:

التنامي العسكري والاقتصادي الصيني

بلغ الإنفاقُ العسكري الصيني حتى عام 2018 قرابة 250 مليار دولار، بزيادة قدرها 190 في المئة مقارنةً بالإنفاق العسكري في عام 2008، والبالغ نحو 86.3 مليار دولار.

ترافقَ هذا الإنفاق مع إظهار الصين سلوكًا يمكن أن يوصفَ بالخشن إزاءَ بعض المواقف، مثل إنشاء جزرٍ اصطناعية عسكرية في بحر الصين الجنوبي، وادعائِها حقوقًا سياديةً في هذا الجزء الحيوي من العالم استنادًا إلى تبعية الجزر لها. ثم افتتحت الصين في أغسطس 2017 أولَ قاعدة عسكرية لها خارج حدودِها في جيبوتي – إحدى دول القرن الإفريقي المطلة على خليج عدن – لتأمين خطوط الملاحة البحرية لسفنِها.

يلاحظ أيضًا خلال السنوات الأخيرة تبني الصين مواقف صريحة في النزاعاتِ الدائرة في أكثر من بؤرة؛ كتصويتها مع روسيا في مجلس الأمن أكثر من مرة، ما يعني التخلي عن حيادِها السياسي الذي تتبعُه عادةً؛ كي تتفرغَ لتمددها الاقتصادي في النظام الدولي.

عليه، إن سياسةُ الصعود السلمي عالميًا التي صاغها المستشارُ السياسي الصيني زينغ بيجان قد لا تصلح لتفسير سلوكِ السياسة الخارجية الحالية، والتي لم تعد تحصر أدواتِها بوسائل القوة الناعمة فقط، لإعادة التموضع عالميًا.

تعاظمُ القوة النووية الصينية

خلافًا للشائع، لا تكتفي الصين بتطوير اقتصادِها فحسب، إنما تعمل على تطوير ترسانتِها من الأسلحة النووية أيضًا، لا سيّما الأسلحة التكتيكية. نقلت الصحيفةُ الإلكترونية الأمريكية "The Hill" عن الأكاديمية الصينية لهندسة الفيزياء قيام الصين بقرابة 200 اختبار لأسلحة نووية تكتيكية قصيرة المدى في بحر الصين الجنوبي بين سبتمبر 2014 وديسمبر 2017، بمعدل 5 اختبارات شهرية، بينما تُجري الولايات المتحدة هذا النوع من الاختبارات مرة واحدة في الشهر، بحسب بيانات المختبر الوطني في كاليفورنيا.

في مقابل ذلك، نشر البنتاغون في يناير 2018 عقيدةً نووية أميركية جديدة تنص على صنع أسلحة نووية ذات طاقة منخفضة – أي ذات أثرٍ تدميري كبير لكن على نطاق محدود –‎لك لردعِ خصومها، وعلى رأسهم الصين وروسيا. ولهذا السبب، انسحبت الولايات المتحدة من "معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى" الموقّعة في ديسمبر 1987 بين الولايات المتحدة وروسيا، وهي الاتفاقية النووية الثنائية الوحيدة من نوعها، والتي بموجبها يتعهد الطرفان عدم صنع أو تجريب أو نشر أية صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة، وبتدميرِ كافةِ منظومات الصواريخ التي يتراوحُ مداها المتوسط بين 500 و5500 كم.

كما إن إنهاء العمل بهذه الاتفاقية في أغسطس 2019 بات يهدد مستقبل اتفاقيةٍ أخرى، هي اتفاقية "ستارت–3" التي تم توقيعُها في أبريل 2010 بين الولايات المتحدة وروسيا، وينتهي العملُ بها في عام 2021، وليس من المتوقع أن يتمَ تمديدُها فترة جديدة ما لم تحقق واشنطن متطلباتها الأمنية النووية، وهي متطلبات لا تتعلق بالطرف الروسي، إنما بالطرف الجديد الصاعد عسكريًا، أي الصين التي ترغب الولايات المتحدة بـ "جرّها" إلى توقيع اتفاقيات تتحكم من خلالها بالأسلحة النووية الصينية، كمًا ونوعًا.

في الشهر نفسه الذي انتهى فيه العمل بـ "معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى"، كشفَ ترمب عن رغبته في ضم الصين إلى معاهدة جديدة تشمل روسيا. ونقلت مجلةُ "The Economist" عن العميل السابق في وكالة الاستخبارات الأميركية كريستوفر جونسون تحليلَه الذي ربط بين الانسحاب من المعاهدة، وبين التوترات حول بحر الصين الجنوبي؛ إذ إن استمرارَ الصين في تطوير ترساناتها التكتيكية متوسطة المدى هناك يجعلُ من تقيد الولايات المتحدة باتفاقية تمنعها من تطوير قدراتٍ مماثلة أمرًا خطيرًا. وأشارَ جونسون إلى أنهُ يمكنُ الأيام الأولى أن تحددَ مصيرَ أي حرب مستقبلية، وأن امتلاكَ قدراتٍ عسكرية تمكن الولايات المتحدة من الوصول إلى قلبِ الأراضي الصينية يمثل أهميةً كبيرةً بالنسبة للجيش الأميركي في أي مواجهةٍ مع الجيش الصيني. وإذا لم تملك الولاياتُ المتحدة القدرةَ على ضرب قواعد الصواريخ المضادة للسفن، والموجودة داخل الأراضي الصينية، فإن قدراتِها العسكرية في المنطقة ستقتصرُ على قواعدها الموجودة في اليابان، وسيكون إرسالُ سفنها الحربية إلى المياه القريبة من سواحل الصين مخاطرةً غير مضمونة العواقب.

مبادرةُ "الحزام والطريق"

في إطار رغبة الصين في توظيفِ العولمة الاقتصادية خدمةً لمصالحها الحيوية، أعلنَ الرئيسُ الصيني شي جين بينغ في سبتمبر 2013 عن مبادرةِ "الحزام والطريق" المعروفة باسم "طريق الحرير"، والهادفة إلى إنشاءِ شبكة ربطٍ بري وبحري للسلع والخدمات، انطلاقًا من الصين.

بتقدير الخبراء، هذا المشروع قادرٌ على التحول من الأبعاد الاقتصادية المجردة التي تؤكد الصين على إعلانها، إلى أبعادٍ أكثرَ عمقًا تتعلقُ بالتمركز العسكري. وقد حذّر تقييمٌ مفصلٌ نشرتْه وزارةُ الدفاع الأميركية في ديسمبر 2018 من أن طريقَ الحرير مهيأ ليحملَ أبعادًا عسكريةً في حال تمكنت الصين من التواجد العسكري على امتداد خطوط التجارة لتأمين قدراتها الملاحية وضمان مصالحها الاقتصادية.

مع بدء أزمة الفيروس التاجي غربيًا، سارعت الصين إلى استثمارها دبلوماسيًا بطريقة براغماتية تهدف إلى تلميع صورتها أمام دول العالم، مع إصرارها على نفي ما افترضه بعض خبراءُ الصحة من أن مصدرَ الفيروس المستجد هو تناولِ مأكولاتٍ برية وطيور الخفاش في سوقٍ تقليدي صيني! فبعدَ أن تمكنت الصينُ من امتصاص الصدمة الأولى واحتواء الموجة الأخطر للفيروس، سارعت إلى مد يد العون لكثيرٍ من الدول الأوروبية كإيطاليا، التي لم تكتفي بكين بإمدادها بالمعدات الطبية في وقتٍ شحت فيه الإمدادت فحسب، إنما بادرت إلى إرسال كوادرَ صحيةٍ مسلحة بخبرة التعامل مع الوباء في بؤرته الأولى "ووهان"، وعدّت هذه المبادرة جزءًا من بناء "طريق الحرير الصحي" بحسب تعبير الرئيس الصيني صراحةً، خلالَ محادثة هاتفية مع رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، بعد وصول أولى المساعداتِ الصينية إلى إيطاليا، خصوصًا أن روما هي أول عاصمة من مجموعة السبع الاقتصادية التي قامت بالانضمامِ إلى مبادرة "الحزام والطريق" في مارس 2019، وهو الانضمامُ الذي أثار استنكارًا أميركيًا وأوروبيًا واسعَ النطاق.

تفاقم حدة التوتر

تمثل كل هذه المعطيات وغيرها دلائل مهمة على تفاقم حدة التوتر الصيني الأميركي، هذا التوتر الذي قد يكون محفزًا لتقوم جهات ما في أميركا بتطوير فيروس كورونا المستجد كجزء من حربها الهجينة ضد الصين والتي ابتدأت بالرسوم الجمركية.

في مقابل ذلك، لا ينبغي نسيان أن طبيعة انتشار الفيروس قد تشي بأنه غير مصنع على الرغم من تركيبته العجيبة، وعلى الرغم مما أدلى به الناطق الرسمي باسم الكلية الأميركية لأمراض الحساسية والمناعة، البروفيسور طلال نصولي، الذي عبّر على عجل عن استغرابه من تركيبة الفيروس خلال استضافته على قناة العربية في 8 أبريل 2020، فكل قطعة فيه من RNA مركبة لتدمير عضو في الجسم، متسائلًا: هل هو طبيعي أم لا؟ تاركًا تحديد مصدره للسياسيين.

إلى أن يتم ذلك، على البشرية أن تحبس أنفاسها؛ إذ إن التوصل إلى أدلة دامغة حول تورط مختبر ما في تصنيعه سيؤدي إلى اندلاع حرب مباشرة بعد جولات الحرب الهجينة التي شهدناها.

إعادة الانتعاش

لا يتوقف انشغال دوائر صنعِ القرار في دول العالم خلالَ الوقت الحالي على الكيفية التي يتم تطويرُها وتجريبُها يوميًا لمحاصرة الفيروس والحدِ من انتشاره فحسب، إنما أيضًا تنشغل أيضًا في إنقاذ اقتصادياتها من الركودِ والانكماش، بهدفِ إعدادها للانتعاش لمرحلة "ما بعد كورونا" والتي من غير المعروف متى سيحينُ موعدها.

من هنا، قامت أغلبية الدول على اختلافِ أوزانها السياسية والاقتصادية على الساحة العالمية بضخ تريليوناتٍ الدولارات – كلٌ بحسْب حجمه وقدرته – لمعالجة الآثار المترتبة على فرضِ حظر التجول، والحجرِ المنزلي الصحي الإلزامي، وإيقافِ الأنشطة الاقتصادية بشكل عام، وما يتبعُها من تزايدٍ كمي كبير لجيش العاطلين عن العمل، وانخفاضٍ في سيولة القطاعات الاقتصادية المتضررة.

يبدو أن فيروس "كورونا" تحول إلى عاملٍ سياسي واقتصادي سيؤدي إلى تغييراتٍ نوعية وجوهرية في بنية النظام العالمي وتوزُع القوى فيه، كما يجري توظيفُه لإعادة تنظيم توازن القوى بين الفاعلين السياسيين من الفئات الاجتماعية وممثليهم في السلطة السياسية على الصعيد المحلي، وعلى الصعيد الإقليمي أيضًا؛ وذلك من خلال تقييمِ مدى نجاعة التحالفات المالية والمؤسسية في مواجهةٍ هذه الجائحة العالمية.

تناقض أميركي

في الولايات المتحدة الأميركية مثلًا، وبالعودة للوراء بضع سنوات، شكّلت سياساتُ فريق ترمب منذُ دخوله البيت الأبيض في 2017 منعطفًا كبيرًا لموقع الولايات المتحدة على مستوى العالم اقتصاديًا وسياسيًا، وذلك لمجموعةٍ من الأسباب التي كان أهمها عملُ الفريق المذكور على تعزيز المكانة ِالإنتاجية للسلع والبضائع الأميركية بما يضمنُ تعزيزَ مكانة صادرات القطاع الصناعي بالدرجة الأولى، وهذا ما يتطلبُ أيضًا التدخلَ الحكومي في السياسة النقدية، إذ قامَ ترمب منذُ دخوله البيت الأبيض بزيادة الضغط على متخذي القرار في البنك الاحتياطي الفيدرالي لخفضِ قيمة الفائدة، وهذا ما تحقق خلال عام 2019، حيث جرى تخفيض سعر الفائدة ثلاث مرات بمجموع بلغ ثلاثة أرباع نقطة مئوية، بهدف تعزيزِ تنافسية الصادرات الأميركية أولًا، وخفضِ قيمة العجز في الميزان التجاري ثانيًا.

من هذه النقطة الأخيرة بالذات، ظهرَ التناقضُ والتناحرُ بين الفئة التي تعبرُ عن مصالح الاقتصاد الحقيقي المادي والمتمثلة في ترمب وفريقه الرئاسي وأنصاره من الجمهوريين، وبين الفئة التي تدافعُ عن الدولار وقوته كأداة للنفوذ الأميركي في العالم، والتي يمثلها المسؤولون في الاحتياطي الفيدرالي ومن يقف في صفهم من وسائل الإعلام المحسوبة على الحزب الديمقراطي صاحب العداوة المتفاقمة مع آلية إدارة ترمب للبلاد.

إن التخفيفَ من العجز التجاري الذي تسعى إليه الإدارةُ الأميركية الحالية، والذي من أجله خاض ترمب حربًا تجارية هزّت أركانَ الاقتصاد العالمي، يعني أن كميةَ الدولارات المصدّرة إلى الخارج أقل؛ لانخفاضِ نسبة شراء البضائع من الخارج (الواردات)، ما سيؤدّي إلى فقدان الدولار مكانته الحالية كأول وأقوى عملة احتياطية عالمية.

حُزمة الإنقاذ والتحفيز المالي

في هذا السياق، يمكن عدّ حُزمة الإنقاذ والتحفيز المالي التي أقرّها الكونغرس بأكثر من تريليوني دولار لمكافحة انتشار الوباء، تعبيرًا صارخًا عن رؤيتين متضادتين لإدراة الأزمة، فأساسُ الحزمة يرتكز على طرح سنداتٍ بفائدة تقارب الصفرَ المئوي لمدة 50 سنة بحيث يتمُ ضخُها في الاقتصاد لمساعدة الأسر والأفراد إلى جانب الشركات الصغيرة والقطاعات الأكثر تضررًا، مثل الطيران والسياحة وغيرهما، على ألا تقوم الشركاتُ المستفيدة باستخدام هذه التمويلات لتوزيع الأرباح، وعدم شراء أسهمها التي انخفضت قيمتُها، إضافة إلى عدم دفع جزء من الدعم المخصص كمكافآت نهاية خدمة للمدراء وكبار الموظفين، وعليه تُعْتَبر هذه الحزمة – الأكبر في تاريخ البلاد – مختلفةً عن سابقتها التي جرى تنفيذُها في أعقاب أزمة الرهن العقاري، من جهة كونها تستهدفُ قطاعَ الاقتصاد الحقيقي الخدمي والإنتاجي بشكل مباشر، بالتوازي مع ضوابطَ تضمنُ عدمَ تسرب المبالغ المقدمة كدعم إلى خارج عناصر العملية الإنتاجية، على عكس ما تمَ في عام 2008 حيث كان للمصارفِ – وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي – اليدَ الطولى في إدارة مرحلة ما بعد الأزمة.

ثم جاءَ فيروس "كورونا" المستجد ليُفاقمَ ما يسميه عالمُ الاقتصاد الروسي فالنتين كاتاسونوف الحرب الاقتصادية بين النخبتين الصناعية والمالية في أميركا، وعليه فإن طريقَ الرئيس الأميركي سيكونُ طويلًا إذا أرادَ تنحية الاحتياطي الفيدرالي عن المشهد العام لصناعة القرار في الولايات المتحدة؛ إذ لا يمكن المغامرة بمكانة الدولار في الاقتصاد العالمي، خصوصًا أنها تعدّ من أكثر الملاذات الاستثمارية أمانًا على مستوى العالم.

هذا ما يسمح لنا بالاعتقاد أن الإدارةَ الأميركية الحالية تخلت حاليًا عن فكرة تخفيض قيمة الدولار نظرًا للظروف التي تمر بها البلاد، علمًا أن قيمتَه تُسجل ارتفاعًا مقابلَ العملات الأخرى على الرغم من تخفيض الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة ليترواح بين صفر و 0.25 للمساعدة في مواجهة الآثار الاقتصادية القاسية للوباء، ما يشكلُ إفشالًا لرؤية ترمب المتطلعة إلى تعزيزِ تنافسية الصادرات الأميركية.

عملت النخبةَ المالية في الولايات المتحدة، وما تزال، على إلصاق جميع التداعيات الاقتصادية السلبية المترتبة على الفيروس بما في ذلك سرعة تفشيه في الولايات والمدن الأميركية، بالرئيس ترمب وفريقه، بهدف إحباطِ مساعيه للفوز بولايةٍ ثانية بعد الانتخابات الرئاسية المقرر انعقادها في مطلع نوفمبر 2020.

خلافات أوروبية متفاقمة

أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد بات هذا الكيان يواجه اليوم أعظمَ تحدٍ له منذ تأسيسه، بحسْب تصريحات العديد من قادته؛ إذ تَصدرَ وسائلَ الإعلام حول العالم الحديثُ عن تذمر الدول الأوروبية الأكثر تضررًا من تفشي فيروس "كورونا" المستجد من الإجراءات المتخذة من قبل بروكسل من أجل التعامل مع الأزمة.

تتفاعلُ القارةُ الأوروبية مع أزمة تفشي الفيروس في الوقت الذي تتعاظمُ فيه وجهاتُ النظر المشككة بمدى نجاحِ الوحدة الأوروبية في خلْق تناغمٍ بين أعضاء الاتحاد على الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، بالتزامن مع خروج بريطانيا من الاتحاد في نهايةِ يناير 2020، أي قبلَ ضرب الفيروس للقارة بفترة وجيزة، وما سبقَه خلال السنواتِ الأخيرة من اتساع القاعدة الشعبية للتيارات اليمنية التي لم تؤمنُ بالوحدة الأوروبية أصلًا.

أما على صعيد الملفات الأخرى المتعلقة بالهجرة، والموازنة، والتحالفات الخارجية وغيرها، فقد فاقمت أزمة "كورونا" الخلافاتِ بين أعضاء البيت الأوروبي، وبالأخص بعد رفضِ كل من ألمانيا وهولندا مقترحَ تسع دول، في مقدمها فرنسا وإيطاليا، لإصدارَ سندات دَيْن تحت مسمى "سندات كورونا" بفائدةٍ تقاربُ الصفر المئوي، حيث تحصل الدولُ المتضررة من خلالها على مبالغَ مالية تساعدها في مكافحة الجائحة، وحل ما سيترتبُ عليها من أزمات في المرحلة القادمة.

عالم متفكك

بحسب مفوض الاقتصاديات بالاتحاد الأوروبي باولو جنتيلوني، ستحتاج دول الاتحاد إلى 1.63 تريليون دولار لمجابهة الجائحة وتبعاتها، ما يطرح التساؤل عن منطق توزيع هذا المبلغ على الدول المتضررة، خصوصًا بعد توقع صندوق النقد الدولي انكماش اقتصاديات منطقة اليورو بمقدار 7.5 في المئة، نظرًا إلى تفاوت حجم "المناعة الاقتصادية" بين دول الاتحاد.

تعدّ أغلب دول الاتحاد الأوروبي – حتى الآن – الأكثرُ تضررًا على جميع المستويات والمجالات بسبب تفشي فيروس "كورونا" المستجد، مقابل دولٍ أخرى تمكنت من احتواء آثار الأزمة، مثل الصين وكوريا الجنوبية وألمانيا، وهذا ما يمنحُها الفرصةَ لترقب الحوادث والسعي للاستفادة منها إلى الحد الأقصى.

إن انتهاءَ الأزمة الحالية المتعلقة بكيفية التعامل مع التبعاتِ الاقتصادية والاجتماعية للفيروس بشكلٍ منفصلٍ عن مسألة تفشيه سيكونُ مرهونًا بإيجاد العلاج أو اللقاح أو بكليهما معًا، علمًا أنه لا يمكن البتُ -حتى اللحظة - بأمر الفيروس مخبريًا من حيث منشأه وطريقة ظهوره، إلا أنه من شبهِ المؤكد أن الفيروس سيشكلُ أفضليةً لبعض الأطراف الدولية للتنافس الجيوستراتيجي على قيادة العالم.

بناءً على ما سبق، وفي ظل عدم سماح دول عظمى مثل الولايات المتحدة وألمانيا للصين بأن تكونَ القطبَ الأقوى والأكثرَ نفوذًا على الصعيد العالمي، وفي حال لم تنجرف الأمور إلى حرب نووية مدمرة، فإن العالم مقبل على تفكك وانقسام تلقائي إلى أقاليمَ اقتصادية وسياسية، بحيث تتسيدُ دولةٌ ما كلَ إقليم وتقومُ بتمثيله أمامَ الأقاليم الأخرى.

غير أن هذا لن يحدثَ إلا بعد معرفة المنتصر في صراع النخب في الولايات المتحدة من جهة، وبعد تبلور مصير الاتحاد الأوروبي الذي بات مهددًا بالانهيار نتيجة تصاعد حدة الخطاب المنتقد لبروكسل من جهة ثانية. كلُ هذا يجبُ أخذُه بالحسبان على امتداد فترة زمنية لا يمكن التكهن بموعد نهايتها، ولا بشكل هذه النهاية.

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS