عودة العراق إلى الساحة الإقليمية: الاحتمالات والفرص
في ظل التطورات التي شهدها العراق خلال السنوات الأخيرة، خاصة على مستوى الأمن والتجربة السياسية وإنتاج النفط، وفي ظل التغيرات على الساحتين العربية والإقليمية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات العربية – الإيرانية؛ تناقش هذه المادة بعض التساؤلات ذات الصلة؛ مثل: هل يمكن للعراق خلال الفترة القادمة أن يعود إلى ممارسة دور مؤثر في معادلة التوازن على المستويات الخليجية والعربية والإقليمية؟ وهل يمتلك مقومات هذا الدور والرغبة في ممارسته؟ وما هي المعوقات التي تقف أمام عودته إلى الساحتين الإقليمية والدولية؟
الكاتب حازم سالم الضمور
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٠/٠٨/٢٠١٩
كان العراق على الدوام عنصراً أساسياً في معادلة التوازن السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وذلك بحكم مقوماته الحضارية والتاريخية والروحية والمادية، والدور الذي لعبه عبر التاريخين العربي والإسلامي. لكن الغزو العراقي للكويت في عام 1990 مثّل ضربة قوية لدور العراق وحضوره على الساحتين العربية والإقليمية، بعد أن كان يقدم نفسه على مدى ثماني سنوات خلال فترة الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988، عاملاً وازناً في الأمن الإقليمي.
ثم جاء التدخل الأمريكي للعراق في عام 2003 ليخرجه بشكل كامل من معادلة التوازن في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط؛ حيث أدى هذا التدخل إلى تحول جذري في معادلة التوازن على الساحة الداخلية العراقية، ما أثار جدلاً كبيراً تجاه الهوية السياسية والثقافية العراقية، وبرز في هذا السياق دور الأكراد كهوية أخرى في المنطقة رأت في كل هذه الظروف فرصة للاستقلال، ولا يمكن إنكار أن انهيار القوة المادية للعراق، خاصة العسكرية والاقتصادية، قد أخرجه تماماً من حسابات توازن القوى في المنطقة.
كأي دولة تبحث عن مصالحها الحيوية، عملت إيران على توظيف الأحداث التالية لصالحها، بداية من سقوط نظام البعث، وحالة الفوضى والاضطراب التي لحقت بالبلاد، ثم سيطرة القوى الشيعية على مقاليد السلطة، وصولاً لعدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على ضبط الأمور وضعف معرفتها بتفاصيل وتعقيدات الخريطة السياسية والمذهبية العراقية، فساهمت هذه الأمور في التمدد على الساحة العراقية، ما اضطر واشنطن إلى العمل على التنسيق معها خاصة على المستوى الأمني والاعتراف بدورها ونفوذها في العراق.
وزاد من ابتعاد العراق عن العرب وغيابه عن معادلة التوازن في المنطقة، أن العرب أنفسهم لم تكن لديهم استراتيجية واضحة في التعامل معه، بل كان التوجس تجاهه وتجاه التحولات فيه خاصة فيما يتعلق بتجربته السياسية ومآلاتها هو عنوان الموقف العربي بشكل عام، فضلاً عن أن بعض الدول العربية تعاملت مع العراق لسنوات طويلة بعد 2003 باعتباره بلدا محتلا، وبعضهم الآخر نظر إليه على أنه قضية أمريكية وشأن خاص بالولايات المتحدة، ما ترك فراغا سياسيا استفادت منه إيران وقامت ببناء نقاط ارتكازها على أسس أمنية وعسكرية.
فضلا عما سبق فإن الاضطرابات الأمنية والصراعات الأهلية التي وصلت ذروتها في عامي 2006 و 2007، ومشروعات التقسيم التي طُرحت لتجزئة البلاد إلى ثلاث دويلات في الجنوب والوسط والشمال ومشروع تنظيم داعش لإقامة دولة على أراضي العراق وسوريا، جعل العراق يتحول إلى ساحة للتفاعلات بين العديد من القوى الدولية والإقليمية، ما استنزف القدرات العراقية بشكل كبير، وجعله منشغلا على الدوام بالداخل وغير قادر على استثمار قدراته وموارده في لعب الدور الإقليمي والعربي الذي كان يمارسه على الدوام.
لكن التطورات التي شهدها العراق خلال السنوات الأخيرة، خاصة على مستوى الأمن والتجربة السياسية وإنتاج النفط، والتغيرات على الساحتين العربية والإقليمية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات العربية-الإيرانية، تدفع إلى طرح عدة تساؤلات من قبيل:
هل يمكن للعراق أن يعود إلى ممارسة دور مؤثر في معادلة التوازن على المستويات الخليجية والعربية والإقليمية خلال الفترة القادمة؟ وهل يمتلك مقومات هذا الدور والرغبة في ممارسته؟ وما هي المعوقات التي تقف أمام عودة العراق إلى الساحتين الإقليمية والدولية؟
أولا: مقومات الدور العربي والإقليمي للعراق
العراق من الدول المهمة والرئيسية في المنطقة، والتي لا يمكن أن تكون دون دور مؤثر في محيطها، ولو غاب هذا الدور أو تراجع لبعض الوقت لأسباب داخلية أو خارجية، فإنه يعود ويطرح نفسه على أذهان النخبة السياسية في الداخل من ناحية، وعلى القوى في المنطقة من ناحية أخرى؛ حال تهيأت الظروف لذلك. وبالإشارة إلى مقومات الدور الإقليمي والعربي للعراق خلال المرحلة الحالية والقادمة، يمكن القول إن العراق يمتلك العديد من مقومات هذا الدور، بعضها قديم وبعضها مستحدث، يمكن الإشارة إلى أهمها في الآتي:
1- القدرات المادية: لدى العراق قدرات اقتصادية ضخمة؛ فبالإضافة إلى توفر المياه «نهري دجلة والفرات» والأراضي الصالحة للزراعة، يمتلك العراق 147 مليار برميلا من احتياطي النفط، بينما توجد مزيد من الكميات المحتمل ضخها والتي تبلغ 200 مليار برميل، وهذا يجعله خامس بلد في العالم بعد فنزويلا والسعودية وإيران امتلاكا للاحتياطي النفطي، كذلك فإن لدى العراق 3,100 مليار متر مكعباً معيارياً من احتياطيات الغاز حسب بيانات الأمم المتحدة. وتبلغ القدرة الإنتاجية من النفط حاليا ما يقارب 3.9 مليون برميل، ويخطط لرفعها إلى نحو 7 ملايين و500 ألف برميل يوميا بحلول عام 2025، وفي يوليو 2018 أعلن البنك المركزي العراقي أن عائدات البلاد من تصدير النفط منذ العام 2005 بلغت أكثر من 700 مليار دولار.
2- المقومات الحضارية والروحية "القوة الناعمة": بينما يُسجل العراق حضوراً تاريخياً عريقاً، وحضارة غنية تمتد إلى آلاف السنين، فهو أيضاً يتمتع بالأهمية الدينية المذهبية، متمثلة في مدينتي كربلاء والنجف، اللتين تعدّان وجهةً روحية مهمة لدى ملايين الشيعة في المنطقة والعالم. وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة بين العراق وإيران منذ عام 2003، فإن النجف تُطرح على الدوام على أنها منافس لمدينة «قم» الدينية في إيران، ويشكل صعود «النجف» تحديا لسلطة «قم»؛ ما يعني التقليل من سلطة ونفوذ الدولة الإيرانية كزعيمة سياسية وروحية للطائفة الشيعية في العالم. وفي الجانب الآخر يؤدي هذا الصعود إلى تعزيز دور العراق على الساحة الإقليمية.
3- التجربة الديموقراطية: على الرغم مما يلحق بتجربة العراق الديموقراطية منذ عام 2003 من تبعات وإشكالات معقدة، ثمة مؤشرات على أن هذه التجربة ربما بدأت في السير في طريقها الصحيح، أولها أنه رغم الظروف الأمنية والسياسية الصعبة التي مرت بها البلاد خلال السنوات الماضية، فإن هذا لم يعق الاستمرار في إجراء الانتخابات البرلمانية وما تنطوي عليه من تغيير سياسي في البلاد، حيث تناوب على رئاسة العراق أربعة رؤساء للجمهورية منذ عام 2003، وعدد كبير من رؤساء الوزارات، وتبدو عملية التغيير السياسي أكثر سلاسة خلال الفترة الأخيرة مما سبق. وثانيها التداخل المعقد بين الاعتبارات الطائفية والعملية السياسية وخيارات الناخبين، وثالثها أن الخلافات على مستوى النخبة السياسية قد بدأت تميل بشكل أكبر إلى الرشد مقارنة بالسنوات الماضية. ورابعها أن تدخّل المؤسسات الدينية في العملية السياسية قد تراجع بشكل ملحوظ بعد أن كان هذا التدخل قوياً ومباشراً بعد عام 2003. وهذا بلا شك، يزيد من الثقة الدولية في التجربة السياسية العراقية بشكل تدريجي، ومن ثم يزيد من دعم العالم لهذه التجربة.
4- الاستقرار النسبي والحفاظ على كيان الدولة: على الرغم مما عاناه العراق من توترات أمنية خطيرة بعد عام 2003 وتهديدات لكيان الدولة؛ فإن ثمة مؤشرات مهمة على قدرة البلاد على استعادة الاستقرار تدريجيا والحفاظ على كيان الدولة، وهي:
• لم تنجح خطط التقسيم التي طرحت بقوة بعد عام 2003 في تجزئة البلاد.
• رغم الاستفتاء الذي أجراه الأكراد للاستقلال عن الدولة في عام 2017، لم تنجح عملية انفصالهم ولم يتلقوا أي تأييد إقليمي أو دولي في مسعاهم.
• نجح العراق في تجاوز أخطر تهديد لكيان الدولة في العصر الحديث، ممثلاً في تنظيم داعش، على الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمها في الحرب على داعش سواء على المستوى البشري أو المادي.
5- إدراك "مقومات الدور": إن امتلاك دولةٍ ما لقدرات ومقومات للعب دور إقليمي أو عالمي لا تكفي وحدها للقيام بهذا الدور، ولكن لابد من توفر عدة شروط لذلك، وفق "نظرية الدور"، أهمها وعي صانع القرار أو النخبة السياسية والثقافية في الدولة لهذه القدرات وامتلاكها الرغبة والإرادة، لتحويلها إلى مركز مؤثرٍ في محيطها الخارجي؛ ومن الواضح أن ثمة إدراك من قبل النخبة السياسية في العراق للدور الذي يمكن أن يلعبه ضمن الإطار الإقليمي، وهذا يتضح جلياً بمحاولات القادة العراقيين إعادة دولتهم إلى الإطار أو المنظومة العربية، وسعيهم إلى إعادة بناء العلاقات العراقية-العربية بأشكال مختلفة، ولعل إصرار العراق على استضافة القمة العربية في عام 2012 على الرغم من الظروف المضطربة التي كان يعانيها، والحضور العربي الضعيف فيها على مستوى القادة والزعماء، كان تعبيراً واضحاً عن رغبة العراق في التأكيد على بعده العربي ودوره الذي يمكن أن يقوم به في المنطقة.
6- الإدراك العربي والإقليمي والدولي لدور العراق: وهو ما يتضح من تواتر الزيارات التي يقوم بها المسؤولون من دول العالم المختلفة إلى بغداد خلال عام 2019. ولعل الزيارات التي حظي بها العراق في ضوء التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، تؤكد بوضوح طبيعة نظرة العالم والإقليم إلى بغداد وإلى الدور الذي يمكن أن تلعبه في مسار هذه الأزمة؛ ففي خلال شهورٍ قليلة زارها العديد من المسؤولين الأوروبيين والعرب والإيرانيين وغيرهم؛ حيث زارها الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في مارس 2019، ووزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في مايو 2019، ووزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في الشهر نفسه. كما زارها وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في أبريل من عام 2019، وهناك تقارير تُفيد بأن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سوف يزور العراق نهاية العام الجاري 2019، وفي أبريل 2019 أيضا زارها وفد سعودي ضم 9 وزراء برئاسة وزير التجارة والاستثمار، ماجد القصبي، لبحث تطوير العلاقات والتعاون الاقتصادي بين الدولتين. كما زار العراق وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، في يونيو 2019، وفي الشهر نفسه زارها وزير خارجية سلطنة عمان، يوسف بن علوي، وكانت زيارته هي الأولى من نوعها منذ عام 2003، والتي لحقت قرار إعادة فتح السفارة العُمانية في بغداد في مايو 2019. فضلاً عما سبق فإن هناك حديث عن أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سوف يزور العراق قبل نهاية العام 2019.
7- استدعـاء عربي لدور العراق: إضافة إلى ما سبق فإن هنالك استدعاءً عربياً، لدور العراق في إطار البحث عن توازن القوى مع إيران في المنطقة، وهو ما تعبر عنه التحركات العربية تجاه بغداد، خاصة تلك التي تقوم بها كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتبدو السعودية، بوجه خاص، مهتمة بتعزيز علاقاتها مع العراق في ظل صراعها مع إيران، ففي عام 2017، زار رئيس وزراء العراق في ذلك الوقت، حيدر العبادي، المملكة مرتين، وعادت الرحلات الجوية بين البلدين، كما عاد العمل إلى معبر عرعر البري بينهما، وزار زعيم التيار الصدري العراقي، مقتدى الصدر، الرياض في يوليو 2018، كما زارها رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، في أبريل 2019. فضلا عن ذلك، فقد تم تأسيس مجلس التنسيق السعودي-العراقي، وأعلنت المملكة عن بناء مدينة رياضية في العراق، ودعمه بمليار دولار، وإنشاء أربع قنصليات في ثلاث مدن عراقية، وافتتاح قنصليتها ببغداد في أبريل 2019، والتوقيع على ثلاث عشرة اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الجانبين، وإتاحة الفرصة للسعوديين للاستثمار في العراق، بما يبلغ 189 فرصة استثمارية، وتشجيع المصارف السعودية على فتح فروع لها في العراق، وفتح فرع لمصرف التجارة العراقي في السعودية. في تحركٍ لإعادة العراق كعنصر في معادلة التوازن الإقليمي مع إيران بعد أن أدى غيابه إلى حدوث خلل كبير في هذه المعادلة.
ثانيا: أشكال ومداخل التأثير الممكنة للعراق على الساحتين العربية والإقليمية
هناك عديد من أشكال ومداخل التأثير التي يمكن للعراق من خلالها أن يمارس تأثيره على الساحتين العربية والإقليمية خلال الفترة القادمة، يمكن الإشارة إلى أهمها في الآتي:
1- جسر بين العرب وإيران: على الرغم من أن العراق يواجه أزمة كبيرة في سياسته الخارجية وتوجهاته الاستراتيجية؛ من حيث التوفيق بين علاقاته مع إيران التي تتسم بالعمق والتنوع، وعلاقاته العربية، فإن أحد المداخل الممكنة لعودة العراق إلى ممارسة دور سياسي ما في الساحة العربية والإقليمية، هو أن يكون جسراً بين العرب وإيران، سواء من خلال الوساطة بين الجانبين، أو المساهمة في وضع أطر ثابتة ومستقرة للعلاقات العربية-الإيرانية.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى مؤتمر رؤساء برلمانات دول جوار العراق الست (السعودية والكويت وإيران وتركيا وسوريا والأردن)، الذي استضافه في أبريل 2019، بدعوة من رئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي، وكان التجمع الأول من نوعه الذي يجمع دولاً تتناقض في سياساتها حيال بعضها في المنطقة، وسعى العراق عبر الدبلوماسية الشعبية إلى تجسير الفجوة بينها، خصوصاً أن عقد هذا المؤتمر يأتي بعد جولة قام بها رئيس البرلمان العراقي، إلى هذه الدول خلال الشهور الماضية.
ولكن هذا الدور "الجسر بين العرب وإيران" يقتضي وجود رغبة في ممارسته من قبل صانع القرار العراقي، بدلاً من الاستسلام للتعقيدات والمشاكل التي تعيق هذا الدور خلال الفترة الحالية، التي تشهد توترا كبيرا في مسار العلاقات العربية-الإيرانية.
ومع ذلك فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه العراق في أي محاولة اتخاذ دور الوساطة بين إيران والدول العربية ، هي أنها تمثّل تحدياً كبيراً له بل معضلة أيضاً، لأن خيارات بغداد في التعامل مع هذا الدور ضيقة ومعقدة بشكل كبير.
2- طرف في تيار عربي بأولويات وتوجهات مختلفة: بمعنى أن يكون العراق طرفا في تيار أو تكتل عربي، يحاول أن يكسر حدة ارتباط السياسة العربية بالصراع مع إيران وتوجيهها نحو مصادر خطر أخرى؛ مثل إسرائيل، ولعل القمة الثلاثية التي عقدت في القاهرة في مارس 2019، وضمت كلا من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني بن الحسين، ورئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، قد أوحت لبعض المراقبين والمحللين بوجود محاولة لإعادة ترتيب الأوليات العربية خلال المرحلة التي تمر بها المنطقة، وما يثار حول "صفقة القرن" لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي. وثمة دول عربية عدة لا ترى أن الصراع مع إيران يمثل أولوية رئيسية؛ ومن أبرز هذه الدول المغرب والجزائر والكويت وسلطنة عُمان وغيرها.
فضلا عن ذلك، فإن ثمة تحليلات ترى أن الأردن، وفي ظل مخاطر "صفقة القرن"، يتجه إلى توسيع خيارات تحركه وتعزيز علاقاته مع العراق وبعض الدول العربية الأخرى خاصة المغرب ومصر وغيرهما، وأن عمان قد تجاوزت نظرية "الهلال الشيعي" الذي حذّر منه العاهل الأردني بعد عام 2003، نحو رؤية أخرى دعا إليها الأمير الحسن بن طلال، منذ سنوات، ومفادها "أن السنة والشيعة مذاهب لا يُفترض لها أن تقسّم العالم العربي والإسلامي، وأن المملكة الأردنية تحديداً هي مظلّة جامعة للجانبين".
3- دور مؤثر في سوق النفط العالمية: وفي هذا السياق أشار تقرير لوكالة بلومبيرغ الأمريكية، في أبريل 2019، إلى أن العراق قد أصبح منافسا للمملكة العربية السعودية في التأثير على سوق النفط العالمية، وله دوره المؤثر في القرارات التي يتم اتخاذها داخل منظمة "أوبك" حول الإنتاج والأسعار، بعد سنوات من الابتعاد. وأضافت الوكالة في تقريرها أن مضاعفة إنتاج العراق من النفط الخام في العقد الماضي أعطى له صوتاً في مناقشات النفط ودفع إلى إدراجه في آخر جولة من التخفيضات، كما أنه انضم إلى اللجنة التي تراقب الامتثال بالحصص داخل منظمة أوبك. وجاءت هذه الخطوة، بعد نحو عقدين من بقاء العراق على الهامش في أوبك، نتيجة عدم قدرته على رفع إنتاجه النفطي والمساهمة في قرارات التحكم بالأسعار التي تتخذها المنظمة.
ولا شك في أن زيادة إنتاج العراق من النفط واتساع تأثيره في سوق الطاقة العالمي، سوف يمنحه دوراً وتأثيراً على المستويين العالمي والعربي-الإقليمي؛ فالمستوى العالمي سيكون من خلال تحوله إلى طرف فاعل في تحديد مسار أسعار النفط العالمية من ناحية، وزيادة اهتمام دول العالم المختلفة بتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري معه من ناحية أخرى، وأما الإقليمي-العربي فيتمثل في اتساع التعاون الاقتصادي العراقي-العربي، لأن زيادة المداخيل الوطنية نتيجة زيادة إنتاج النفط سوف تفتح المجال لنشاط اقتصادي عراقي كبير سواء على المستوى الداخلي – مشاريع إعادة الإعمار- أو على مستوى العلاقات مع دول العالم العربي الأخرى، وتبدو مصر على وجه الخصوص من أكثر الدول العربية اهتماما بتعزيز روابطها الاقتصادية مع بغداد خاصة في مجال الطاقة والاستثمار.
ثالثا: معوقات عودة العراق إلى الساحتين العربية والإقليمية
على الرغم من أن العراق يمتلك مقومات عديدة للعودة إلى ممارسة دور مهم في الساحتين الإقليمية والعربية، في ظل المتغيرات التي تمر بها المنطقة من ناحية والتحولات العراقية الداخلية من ناحية أخرى، فإن هناك الكثير من المعوقات البنيوية أو الهيكلية التي تعيق هذه العودة أو تحدّ من فاعليتها، ما يدعو إلى القول بأن هذه العودة محكومة بالوقت، أهم هذه المعوقات هي:
1- التأثير الأمريكي: على الرغم من مضي أكثر من 15 عاما على التدخل الأمريكي بالعراق في عام 2003، فإن تأثير الولايات المتحدة الأمريكية على السياسة العراقية الداخلية والخارجية لا يزال حاضراً، خاصة في ظل الوجود العسكري الأمريكي في العراق من ناحية، ودورها في المساعدة على تحرير العراق من تنظيم داعش من ناحية أخرى. ولا شك في أن وطأة التأثير الأمريكي على القرار العراقي يضيق الخيارات أمام بغداد ويضعها في مواقف معقدة وأمام خيارات صعبة.
2- النفوذ الإيراني: على الرغم من أن استطلاعاً للرأي أجرته شركة "المستقل" للأبحاث، المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط في عام 2018، قد أظهر تراجع نسبة الشيعة العراقيين الذين لديهم تفضيلات تجاه طهران من %88 في 2015، إلى %47 في خريف 2018، وزيادة نسبة من لديهم اتجاهات غير منسجمة مع إيران من %6 إلى %51، وتراجع نسبة الشيعة الذين يعتقدون أن إيران شريك يعول عليه في العراق من %76 إلى %43 في نفس الفترة المذكورة، على الرغم من ذلك، فإن إيران تمارس نفوذا لا يستهان به على القرار العراقي. وهذا يجعل إيران تنظر إلى العراق باعتباره منطقة نفوذ ومصالح حيوية لها، وثمة من يرى أن طهران تعمل عبر آليات مختلفة لإبعاد العراق عن محيطه العربي.
فضلاً عن ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، تعترف بالطبيعة الخاصة للعلاقات الاقتصادية بين العراق وإيران وهذا ما دفعها الى إعفاء العراق أكثر من مرة من الالتزام بالعقوبات الأمريكية على إيران كان آخرها في مارس 2019، ما يتيح لها استيراد الطاقة الكهربائية منها، حيث يستورد العراق ما يصل إلى 28 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي من طهران لمصانعه، كما يشتري بشكل مباشر 1300 ميغاواط من الكهرباء الإيرانية.
3- أزمة الخيارات: في ظل التوتر الشديد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، يجد العراق نفسه أمام تحدٍ كبير، وفي مواجهة خيار صعب بين واشنطن وطهران، خاصة أن كلا البلدين لديهما تأثير كبير في العراق على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وبالتالي فإن انحياز بغداد تجاه أحد الطرفين قد يكلف ثمناً كبيراً، قد لا يستطيع العراق تحمله، وتزداد الأمور تعقيداً كلما زاد التوتر الإيراني-الأمريكي أو تراجعت فرص الحوار أو التسوية السلمية بين الجانبين.
وعلى الجانب الآخر، فإن رغبة العراق في لعب دور للتهدئة أو الوساطة بين إيران والسعودية، تواجَه بعقبة أساسية هي أن كلا الطرفين، إيران والسعودية، يطالب العراق بأن يحدد خياره: إما معه أو مع الطرف الآخر؟، وهذا يجعل العراق غير قادر على الانضمام إلى التيار أو الحلف العربي المعادي لإيران، وفي الوقت نفسه فإنه غير قادر على الانخراط بشكل كامل في المحور الإيراني. ولا شك في أن العراق سوف يكون من أكثر المتضررين في حال اتساع أو انفجار الصراع الإيراني- السعودي أو الإيراني-الأمريكي، حيث سيؤثر ذلك بالسلب على الساحة الداخلية العراقية.
4- أزمة الهوية: وهي أزمة بدأت تظهر وتطفو على السطح بقوة بعد عام 2003، خاصة مع بروز تطلعات الأكراد إلى مزيد من الاعتراف بحقوقهم الثقافية والسياسية والاقتصادية، وقد ظهرت هذه الأزمة بشكل واضح في المناقشات التي سبقت إقرار الدستور العراقي في عام 2005، ومن ثم جاءت المادة الثالثة لتنص على أن "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها وجزء من العالم الإسلامي"، ما يشير إلى اختلاف الدستور الحالي عن جميع الدساتير العراقية السابقة من 1958 إلى 1990، حيث حلت عبارة "العراق بلد متعدد الأعراق والقوميات" بدلا من عبارة "العراق جزء من الأمة العربية" التي كانت مألوفة في الدساتير السابقة.
تؤثر هذه الأزمة بشكل واضح على الدور العراقي على الساحتين العربية والإقليمية، وتجعل مواقفه السياسية غير واضحة في بعض الأحيان، ولعل المثال البارز في هذا الخصوص هو موقف العراق من البيان الختامي لقمة مكة العربية الطارئة التي عقدت في رمضان 2019؛ ففي الوقت الذي كانت فيه السعودية وبعض الدول العربية الأخرى تعمل على تعزيز علاقاتها مع العراق، اعترض العراق على البيان الختامي للقمة والذي ندد "بتدخل" إيران في شؤون الدول الأخرى.
5- هشاشة البناء الأمني والسياسي: على الرغم من أن التجربة السياسية في العراق قد قطعت شوطاً لا بأس به إلى الأمام، وتجاوزت الكثير من المشاكل والمخاطر التي كانت تعترضها، ونجاح العراق في تحقيق استقرار نسبي في البلاد خاصة بعد انهيار مشروع داعش من ناحية، وتراجع التوترات الطائفية من ناحية أخرى، إلا أنه لا يزال يعاني من هشاشة في المحور السياسي والأمني؛ حيث أن تنظيم داعش، رغم انهيار مشروعه في العراق، فإنه لا يزال قادرا على تهديد الأمن في بعض المناطق من خلال عناصره وخلاياه التي لا زالت قائمة، ما يشير إلى أن الوضع الأمني، رغم تحسنه، لا يزال غير مستقر.
في ضوء كل ما سبق يمكن القول إن العراق دولة لديها إمكانيات اتخاذ دور في الساحة العربية والإقليمية، وثمة تحسن ملموس في مصادر أو عناصر القوة العراقية خلال السنوات الأخيرة، بالتزامن مع ظهور معطيات ساهمت في الاهتمام بالدور العراقي في المنطقة من قبل قوى عديدة، لكن في الوقت ذاته؛ فإن هناك العديد من الأسباب أو التحديات التي تعيق هذا الدور أو تحدّ من تأثيره وتضع حدوداً له سواء خلال الفترة الحالية أو الفترة القادمة، وأن الحديث عن دور عراقي مؤثر وحاسم على الساحتين العربية والإقليمية ربما يحتاج إلى بعض الوقت.
حازم سالم الضمور
مدير عام المركز/ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية