إلى أين وصلت الأزمة المالية في لبنان؟

يعاني الاقتصاد اللبناني من مجموعة من الأزمات المركّبة التي ظهرت - في تفاعلها - إلى العيان مع نهاية عام 2019 ليبدأ بعد ذلك انهيار دراماتيكي أصاب وأثّر على مختلف جوانب الحياة العامة، فما هي أبرز مظاهر هذه الأزمات؟

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١٢‏/٠١‏/٢٠٢١

بدأت موجة جديدة من الحراك الشعبي في لبنان في أكتوبر 2019 احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية وعدم التماس أي حلول لتدهور الظروف الاقتصادية في المدى المنظور، واتضح أن هذه الموجة الجديدة لم تكن كسابقاتها، حيث إنها استمرت وإن كان بشكل متواتر ومختلف الزخم والشكل والتنظيم، هذا التواتر يجد انعكاساته ليس فقط في الشارع، وإنما في الفضاءات العامة المتعددة، كوسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، وحتى الخطاب الرسمي أيضاً؛ إن كل هذا منطقي الحدوث بالفعل، لكن ما يشير إلى أن هذا المشهد لن يكتمل أي لن ينتهي في المستقبل القريب - على الأقل - هو أن لبنان يعاني من أزمة مالية عميقة ممتدة في التاريخ الاقتصادي للبلاد ومتشابكة مع الواقع السياسي المعقد في وقتنا الحاضر.

ولما كانت الأزمة المالية في لبنان هي المحرض الرئيسي على نشوء حركة احتجاجية لا تهدأ، لا بد لنا من فهم حيثيات هذه الأزمة من أسباب وتداعيات، أو على الأقل التعرف على المظهر العام لها.

اتسم ميزان المدفوعات اللبناني، أي صافي حجم الأموال التي دخلت إلى لبنان وخرجت منه، بالعجز منذ عام 2011 وحتى وقتنا الحالي، حيث بلغ هذا العجز 16.1 مليار دولار في الفترة الممتدة ما بين 2011-2018، إلا أن هذا الانحدار ازداد بشكل هائل فيما بعد، حيث سجل العجز 10 مليارات دولار مع نهاية الفصل الثالث من عام 2020، وذلك بحسب بيانات البنك المركزي وجمعية المصارف اللبنانية.

هذا يعني أن موجودات الدولار لدى المصارف المحلية ومصرف لبنان متدنية جداً، تخوله فقط لدفع ثمن استيراد الحاجات الأساسية (قمح، وقود، أدوية وغيرها) بالسعر الرسمي المحدد عند 1507.5 ليرة مقابل الدولار، والذي يجعل هذه السلع "مدعومة"، لكن ليس لفترة طويلة من الوقت.

في مطلع مارس 2020، أعلن رئيس الوزراء آنذاك، حسان دياب، عن عدم قدرة الحكومة على تسديد 1.2 مليار دولار مستحقة لحملة سندات اليوروبوند، ليكون هذا القرار غير المسبوق في تاريخ البلاد مقدّمة لرغبة الدولة بإعادة جدولة الديون، من جانبها تعتبر المصارف اللبنانية التي تحوز نسبة كبيرة من هذه السندات، بأن التخلف عن السداد سيزيد الوضع سوءاً فيما يتعلق بحجم السيولة من العملة الصعبة في الحياة الاقتصادية.

ويشكل الديْن العام 170% من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني، بقيمة 94.8 مليار دولار مع نهاية سبتمبر 2020، 30 مليار منها مقومة بسندات اليوروبوند.

وهنا يجب الإشارة إلى جزئية في غاية الأهمية، وهي أن المصارف اللبنانية كانت تمتلك من سندات اليوروبوند - التي كان من المفترض تسديد قيمتها في 9 مارس 2020 - ما قيمته 900 مليار دولار مقابل 300 مليار دولار لصالح الشركات والمصارف الأجنبية، إلا أن الصورة تغيرت قبل أسابيع من موعد السداد، حيث أصبحت هذه الأخيرة تمتلك 720 مليار دولار مقابل 480 مليار دولار، ما يعني أن بعض المصارف اللبنانية قامت ببيع نصف ما بحوزتها من اليوروبوند من أجل تجنب كلفة إعادة الجدولة، علماً بأن عملية البيع انطوت على خسارة، هذه القضية استدعت تدخل القضاء، ذلك لأن بيع اليوروبوند جرى في الخارج، بمعنى أن العملة الصعبة لم تدخل إلى البلاد في الوقت الذي كان فيه صغار المودعين يسحبون 100 دولار أسبوعياً كحد أقصى من البنوك المحلية وذلك احتكاماً لتطبيق ما يسمى بـ "آلية ضبط السيولة".

بعد التعثر عن السداد والذي يمكن اعتباره إعلاناً غير مباشر أو خجولاً عن الإفلاس، انخفض التصنيف الائتماني للبنان إلى فئة التعثر الانتقائي SD)) وهي أدنى درجة على السلم التصنيفي لوكالة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني، ما يعني أن الدولة اللبنانية إلى جانب أزمتها بالسيولة الدولارية أصبحت تواجه أزمة ملاءة ائتمانية سدت الطريق أمام الحصول على تمويل أجنبي بسبب فقدان الثقة بالقطاع المالي اللبناني في الأسواق الدولية.

وفي سياق المديونية اللبنانية، ساد حديث على المستوى الرسمي في أبريل 2020 عن مقترحات لاحتواء الأزمة المالية في إطار خطة للإصلاح الاقتصادي تضمنت مطالبات بشطب جزء من الديْن واسترداد الأموال التي جرى تحويلها إلى الخارج، إلا أن هذه الخطة بشكل عام لم تُبصر النور، ويرى البعض أن قيام الدولة اللبنانية بشطب جزء من الديْن هو غير منطقي من حيث المبدأ، وذلك بسبب طبيعة هذا الديْن الداخلي في أغلبيته العظمى (43% لمصرف لبنان، و44% للمصارف التجارية)، وبالتالي سيكون من شأن شطب جزء منه أن يزيد من مشكلة تعقيد أزمة السيولة بالدولار، بمعنى آخر إن حل تأخير السداد أو إلغائه سيُفاقم من أزمة شح السيولة، ناهيك عن فقدان ما تبقى من ثقة في القطاع المالي اللبناني باعتبار أن مصرف لبنان والمصارف التجارية توظف ودائع للبنانيين وغير لبنانيين في عملية إقراض الدولة بشكل عام.

وعلى مستوى آخر، شهد أواخر شهر أبريل 2020 تدهوراً سريعاً لليرة اللبنانبة لتصل إلى مستوى يتراوح ما بين 3900-4200 دولار مقابل الدولار الواحد ما أثار سخط الأوساط الشعبية التي خرجت إلى الشوارع على الرغم من المحددات الرسمية لمكافحة انتشار وباء كورونا، وكاستجابة لذلك وبالتوازي معه أصدر مصرف لبنان تعميمه رقم 148 الذي يتضمن إمكانية صغار المودعين سحبَ ودائعهم الدولارية لكن بالليرة اللبنانية في إطار "سعر السوق" كما وصفه التعميم والذي تبين أنه أقل من السعر الرسمي المتداول على أرض الواقع، وما زاد الوضع سوءاً هو إصدار تعميم آخر حمل رقم 551 قضى بصرف قيم التحويلات النقدية الآتية من الخارج بالعملة الصعبة بالليرة اللبنانية مقابل "سعر السوق" الذي تبين مرة أخرى أنه أقل من سعر الصرف المتداول.

هذه الإجراءات التي من المفترض أن تكون علاجية تعني بشكل أو بآخر أنه ستكون هناك حاجة من أجل طباعة المزيد من العملة المحلية وبالتالي ارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض قيمة سعر صرف الليرة.

حالياً يتجاوز سعر صرف الليرة حاجز الـ 8000 ليرة مقابل الدولار، ليتبين في النهاية أن ربط الليرة بالدولار منح الأولى قوة لا تمتلكها مما أدى في النهاية إلى انهيارها أمام متطلبات تسديد ديونها بالعملة الصعبة وتمويل الحساب الجاري.

إن الأزمة غير المسبوقة منذ الحرب الأهلية اللبنانية، نتجت بحسب بعض المراقبين من الطبيعة البنيوية للنموذج الاقتصادي المستند على تحويلات المغتربين لتوفير العملة الصعبة، إلى جانب استناد العمل المصرفي على إقراض الدولة ودعم النشاط العقاري الذي هو في المحصلة نشاط غير إنتاجي، وبالتالي نحن هنا لا نتكلم عن حالة تنموية مستندة على قطاعات إنتاجية تدخل الدورة الاقتصادية لإعادة خلق نفسها من خلال ما اكتسبته من توظيفات مالية، وإنما عن سلاسل إمداد نقدية غير مضمونة ومتأثرة لحد كبير بدرجة الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة والعالم.

لبنان-مالياً-إلى-أين.jpg

كورونا وقانون قيصر وانفجار المرفأ

إن الأثر الاقتصادي لتفشي فيروس كوفيد-19 كان كارثياً على اقتصاديات الدول المتطورة والاقتصاديات التي يمكن تصنيفها على أنها مستقرة بالحد الأدنى، فكيف سيكون أثره على اقتصاد يمر بأزمة عميقة مثل الاقتصاد اللبناني! حيث رأت تقديرات حكومية أن الناتج المحلي الإجمالي سينكمش بمقدار 12%، وارتفع خط الفقر ليشمل أكثر من 50% من السكان، وفاقت نسب البطالة الـ 30% تقريباً، كما وصل التضخم أرقاماً خطيرة، فسجّل نسبة 89.7% خلال يونيو 2020، وبالتالي تضاعفت أسعار السلع بالترافق مع انخفاض القيمة الشرائية.

وبالطبع تزيد الطبيعة الطائفية التحاصصية للنخبة السياسية اللبنانية من ضيق وبطء الخروج بحل للأزمة الموجودة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يتم حتى هذه اللحظة إقرار قانون الـ "Capital Control" الذي من شأنه أن ينظم حركة الأموال من وإلى لبنان، كما تعثرت التفاهمات مع صندوق النقد الدولي التي كان من الممكن أن ينتج عنها 10 مليارات دولار خلال الثلاث سنوات الماضية، مع العلم أن الاقتصاد اللبناني يحتاج إلى 30 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد المتهاوي بحسب تعبير وزير الداخلية السابق، زياد بارود، في حديث له معIndependent Arabia  في يونيو 2020.

وفي نفس السياق، أعلن وزير المالية، غازي الوزني، في نوفمبر 2020، عن فشل التدقيق الجنائي في حسابات البنك المركزي الذي كُلّفت به شركة "ألفاريز ومارسال" من قبل الحكومة بسبب اندلاع خلاف بين رئيس الحكومة اللبنانية وقتها، حسان دياب، وحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، حول تضارب الأرقام الموجودة عند كل منهما فيما يتعلق بالعجوزات والخسائر المالية، هذا التضارب الذي ظهر خلال سلسلة الاجتماعات مع وفد صندوق النقد الدولي الذي قدِم إلى بيروت في مايو 2020.

وما دفع الأمور إلى التأزم أكثر هو دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في يونيو 2020 الذي يتضمن فرض عقوبات على النظام السوري من شخصيات ومؤسسات ومَن يتعامل معهم من شركاء اقتصاديين دوليين أو محليين، وبالتالي بدأت تداعيات هذا القانون بالظهور على الاقتصاد اللبناني لارتباط قطاعات معينة فيه بنظيره السوري، وتبع ذلك الحادثُ المأساويُ لانفجار مرفأ بيروت الذي خلّف عشرات القتلى وعشرات المليارات من الخسائر المادية.

حالياً يتم دراسة إمكانية تعويم الليرة اللبنانية، هذه الخطوة إذا ما تمت بشكل غير مدروس، من الممكن أن تؤدي إلى أزمة غذائية كبيرة بسبب ارتباطها بمسألة رفع الدعم وترشيده، وبالتالي هذه قضية أخرى تضاف إلى جملة من القضايا التي نتجت وتعاملت مع الأزمة الاقتصادية في لبنان، في ظل استقطاب سياسي وفراغ مستمر في السلطة.

لا شك أن الخروج من الأزمة الاقتصادية أو الاجتماع على خطة تعافٍ واضحة المعالم، لا بد من أن يمران عبر بوابة التوافقات السياسية، لكن من الواضح أن ذلك لن يحصل خلال الربع الأول من عام 2021 بالنظر إلى أن تشكيل حكومة جديدة بعد أحداث انفجار المرفأ وبدعم فرنسي، ما يزال يراوح مكانه.

إن جميع الشواهد تشير إلى أن النظام الاقتصادي والسياسي الذي ساد في لبنان خلال الـ 28 عاماً التي تلت اتفاق الطائف، قد فقد فعاليته واستنفذ سُبل وخيارات وجوده، وهذا ما يعني أن الإبقاء على هذا النموذج سيتم عبر وسائل إكراهية لا يمكن التنبؤ بحجم النتائج التالية لتطبيقها.

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات