نبذة عن المنظور الجيواستراتيجي الصيني

في خضم الصعود المتسارع للصين كقوة عالمية مؤثرة في سير الأحداث والقرارات الدولية؛ كيف تتعامل بكين مع الأقاليم الحيوية المحتضنة لجزء نسبي من مصالحها؟ تقدم هذه المادة مقارنة موجزة للتعامل الصيني مع إقليمي جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، وتبين كيف أن الظروف المحيطة بالصين تضطرها إلى ترتيب أولوياتها الجيوستراتيجية.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١٦‏/١١‏/٢٠٢٠

تبحث الدول بشكل عام عن السُبل المثلى للحفاظ على مصالحها، ما معنى هذه الجملة التي تتردد كثيراً سواء في الإطار الأكاديمي أو غيره عبر مختلف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي؟ يمكن الإجابة على ذلك التساؤل كالتالي: إن السلطة السياسية في أي بلد تعمل على تطوير الأوضاع وتحسينها على المستوى المحلي من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وينتج عن ذلك مصالح اقتصادية تمتد إلى خارج حدود البلد المعني، بحيث تشتبك - أي المصالح - في الفضاء الإقليمي والدولي لتواجه مصير الانسياق وراء مصالح الدول الأخرى أو التوافق معها في إطار معاهدات متكافئة تحفظ تطلعات الطرفين، أو أن يكون التطور الاقتصادي والعسكري للدولة المعنية على درجة من القوة تمكنها من أن تبسط نفوذها على مصالح الدول الأخرى.

تعتبر الصين دولة عظمى بجميع المقاييس، كما أنها تبحث عن مصالحها خارج حدودها بحكم الطبيعة المعولمة التي فرضها التطور الاقتصادي منذ زمن، بالإضافة إلى وجود دول أخرى (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، وغيرها) تسعى إلى تأمين مصالحها، وبالتالي - وبناء على ما ورد أعلاه - تعمل القيادة الصينية على تسخير جميع الظروف والإمكانيات المتاحة لفرض رؤيتها التنموية وما تحويه من أنماط اقتصادية واجتماعية على أكبر قدر من الدول، مستغلة أي أزمة قد تصيب خصومها الدوليين.

ليس خفياً على أحد أن العلاقات بين بكين وواشنطن تشهد أسوأ مراحلها، ففيروس "كورونا" المستجد والحرب التجارية والتنافس التكنولوجي والعسكري، كل هذا بات ينبئ بحرب باردة خطرة وذات بنى معقدة ومتشابكة. وفي سياق هذا النزاع، لا بد من تناول ومناقشة المنظور الجيواستراتيجي الذي تفكر فيه وتمارسه دوائر صنع القرار في بكين، تجاه الأقاليم التي تحتضن - أو يتم العمل على جعلها تحتضن - المصالح الصينية بهذا القدر أو ذاك.

إن الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا تشكلان مثالاً جيداً للمقارنة من أجل فهم التفكير الجيواستراتيجي الصيني، فهاتان المنطقتان تتسمان بتمايز السياسية الخارجية الصينية تجاههما بشكل واضح.

هذا وتشكل منطقة جنوب شرق آسيا جزءاً من المجال الحيوي الجغرافي للصين، حيث تسعى هذه الأخيرة إلى إثبات حقها في السيطرة على مساحات واسعة من بحر الصين الجنوبي، وهذا ما يتعارض مع القانون الدولي فيما يخص ترسيم الحدود البحرية، كما أنه يثير امتعاض الدول الواقعة هناك مثل (فيتنام، الفلبين، أندونيسيا، تايوان، وغيرها)، التي تتخوف من التحركات العسكرية الصينية التي تتخذ في بعض الأحيان غطاء ملاحياً طبيعياً (سفن نقل، أو قوارب صيد).

وقد أشار تقرير لمجلة " "Foreign Affairsفي يونيو 2020 إلى أن الصين تمزج بين القوة الناعمة التي تركز على الاستثمارات الاقتصادية في البنى التحتية وبين النفوذ العسكري في دول جنوب شرق آسيا، حيث تسعى إلى خلق تواجد عسكري لها في دول الإقليم من خلال النفاذ إلى القواعد العسكرية، ناهيك عن استمرارها في إنشاء الجزر الاصطناعية وعسكرتها. ومن جانب آخر، تعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) على الرغم من استبعادها عن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ (التي انسحبت منها الولايات المتحدة في 2017)، كما أنها تقود البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي تأسس في بكين عام 2014.

في عام 2017، وعلى هامش انعقاد قمة دول آسيان، عُقد اجتماع بين كل من: الولايات المتحدة، والهند، واليابان، وأستراليا، لمناقشة كيفية احتواء النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة، إلا أنه يبدو أن هذه الخطوة أتت متأخرة، إلا إذا استطاعت هذه الدول تقديم البديل عن الاستثمارات الصينية، وهذا من المستبعد أن يحدث بالأخص مع ظرف الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تفشي وباء "كورونا"، إلى جانب احتمالية تهديد الصين بإعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية تجاه هذه الدول الأربع حتى لو كان ذلك سيؤثر على مصالحها بهذا القدر أو ذاك.

إن بؤرة التوتر الواضحة والتاريخية في جنوب شرق آسيا تظهر بوضوح في العلاقة بين الصين وتايوان، فالأولى تعتبر الثانية إقليماً متمرداً يتوجب ضمه إلى الوطن الأم، في حين ترى تايوان (التي تحظى باعتراف أقل من 20 دولة من حول العالم) أنها دولة مستقلة، بل ولها حقوق تاريخية في حكم الصين باعتبارها تأسست على يد الحزب القومي الصيني الذي خسر الحرب الأهلية أمام الحزب الشيوعي مع نهاية أربعينيات القرن المنصرم.

عسكرياً، الأمر محسوم لجانب الصين في أي صدام محتمل مع تايوان، إلا أن الحرب إن قامت؛ لن تقتصر على هذين الطرفين فقط، فهذه الأخيرة تحظى بتأييد أمريكي كبير تحذر بكين من تداعياته على السلم الإقليمي. وقد يقارب البعض بين الفعل الروسي بضم شبه جزيرة القرم وبين احتمالية قيام الصين بذات الخطوة تجاه تايوان، إلا أن الأمر مختلف هنا إلى حد كبير، فتايوان تمتلك جيشاً منظماً، كما أن المزاج الشعبي هناك موجه ضد النظام السياسي في الصين بالإضافة إلى الثقافة التايوانية التي باتت "مُأمركة" بحيث لا تقبل نمط الحياة الصيني.

ترى بكين أنه من الضروري إنهاء بؤر التوتر في المنطقة بأي ثمن، وهذا ما دلل عليه تعاملها مع قضية هونغ كونغ بشكل سريع وحاسم في يوليو 2020، ففي حال عدم نجاح القوة الناعمة مع دول آسيان، من المحتمل أن تلوح بكين باستخدام القوة العسكرية، ليس بشكل حرب شاملة، وإنما عن طريق مناوشات أمنية، ورفع حدة التوتر العسكري الذي تمتلك فيه الصين اليد العليا من الناحية التقنية والجغرافية، في ظل عدم وجود موقف أمريكي وأوروبي واضح تجاه هذه المسألة.

تعتبرُ منطقتا جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي البوابة التي ستتمكن الصين من خلالها من نشر قواتها البحرية لتجوب العالم، وبالتالي المسألة ليست أمنية محلية وإقليمية فقط بالنسبة لبكين، وإنما عائقاً أمام حرية حركة الأسطول البحري الصيني (الثاني في العالم بعد الأمريكي) في الأقاليم والمناطق المختلفة، أمر إذا ما حدث، سيكون من شأنه إضافة قوة تأثير إضافية لتعزيز النفوذ الصيني.

in-sied-imag.jpg

وبالانتقال إلى الشرق الأوسط، فهناك اعتبارات مختلفة نوعياً للنظرة الصينية، حيث تهتم بكين بأمن الطاقة هناك لضمان تأمينها لحاجاتها التي تفرضها العملية الإنتاجية، كما أنها تسعى إلى تصدير الشكل المتأزم للأوضاع في جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط، بهدف طرح نفسها كموازي وحائط صد أمام المصالح الأمريكية.

وتستند بكين في هذا إلى سياسة مغايرة بالمقارنة مع نظيرتها الأمريكية، حيث تتجنب الصين إعلان استراتيجية واضحة مؤيدة أو متنازعة مع دول بعينها، فتعمل على نشر استثماراتها في الدول المتنازعة (إيران ودول الخليج على سبيل المثال) ضمن مبدأ جمع المتناقضات وبالاستفادة من ضعف الطلب الأمريكي على الطاقة مقارنة بالطلب الصيني، كما أنها تقدم قوتها الناعمة للدول الشرق أوسطية بشكل ليس بالضرورة أن يرتبط بتغييرات بنيوية في الأنظمة السياسية هناك، الأمر الذي تحبذه الولايات المتحدة في كثير من الأحيان.

كما أدركت الصين مبكراً مدى حساسية القضايا العربية، حيث أعلنت عن وقوفها إلى جانب حل الدولتين لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وأدانت التدخل التركي في الشأن السوري مرات عدة، ودعمت مكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي المطل على البحر الأحمر، لكن يبقى السؤال عن الآلية التي ستقوم بكين من خلالها بحل التناقض العربي الإيراني في المنطقة؟

تبدو المصالح الصينية في الشرق الأوسط أقل أهمية من غيرها، وذلك بسبب حداثة اهتمام بكين بالمنطقة، الذي بدأ مع نهاية القرن الماضي تقريباً، بالإضافة إلى التاريخ غير الاستعماري للصين، والذي يتم توظيفه لتعزيز الرأي العام المتقبل أكثر فأكثر للاستثمارات الصينية الموجهة نحو القطاعات الإنتاجية والبنى التحتية، وليس التركيز على إصلاح السياسات المالية والنقدية التي تهتم بها مؤسسات دولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين المُسيطر عليهما أمريكياً.

يمكن القول إن الشرق الأوسط يمثل بالنسبة للصين إقليماً حيوياً ذا أهمية متنامية، دخلت إليه بكين من بوابة الاستثمارات والتعاون الاقتصادي، مع الإبقاء على الجانب الأمني في حدوده الدنيا، ما خلق صورة حسنة عن "الشريك الصيني"، إلا أن هذه الصورة ليست مضمونة مع تزايد حدة الاستقطاب السياسي والعسكري بين أكبر اقتصاديْن في العالم، حيث من الممكن أن تضطر الصين إلى الاصطفاف بشكل علني مع دولة/ محور ضد أخرى بعد مفاضلة مصالحها، أو على الأقل أن تضمن عدم التعدي على مصالحها في الدولة التي احتضنت الاستثمارات الصينية، وهذا ما سيفتح الباب حتماً لمواجهة علنية بين الصين والغرب في إقليم وقضايا جديدة.

الخاتمة

بالتأكيد، تولي بكين اهتماماً هائلاً للقضايا المحلية المُتأزمة، من قبيل الدعوات الانفصالية في إقليم التبت وملف حقوق الإنسان المرتبط بقضية المسلمين الإيغور، حيث تقوم بتحصين الجبهة الداخلية ضد التدخلات الأجنبية كما يصرح مسؤولوها، وتعمل على خفض حدة التوتر مع الهند على حدودها الجنوبية الغربية، الذي يحدد درجة نفوذها في منطقة آسيا الوسطى برمّتها.

قد يستنتج القارئ أن الأهمية الأمنية هي الفارق بين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط بالنسبة للجيواستراتيجيا الصينية، وهذا صحيح من جانب، لكن يجب تأطير هذه الفكرة بالقول إن الصين لها تصور اقتصادي وجيوسياسي للعالم ككل، وهذا ما تثبته خطة الحزام والطريق التي تعمل المؤسسات المعنية في بكين على تنفيذها بحذر. والإقليمان المذكوران ما هما إلا جزئان - يتباينا بدرجة الأهمية - من هذا التصور الشامل المرتبط بدرجة التطور الاقتصادي الصيني، وما يتمخض عنه من تصورات للطريقة التي يجب أن تسير بها الأمور على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي بشكل يضرب المفاهيم الأيديولوجية والثقافية الغربية السائدة.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات