هل تنعكس توجهات الناخب العراقي المُتغيرة على نتائج الانتخابات القادمة؟
مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية القادمة، فإن ما تُقدمه الحملات الانتخابية يجب أن يستند على استكمال ما تحقق في الواقع، وأن تستجيب لما يطمح إليه المجتمع العراقي الذي تغير بالفعل، ذلك المجتمع الذي لم يعُد يقبل بسياسات الإنكار أو التسويف.
الكاتب حازم سالم الضمور
- تاريخ النشر – ٢٨/١٠/٢٠٢٥
يعيش العراق تحولات عميقة على مستوى المزاج الشعبي، الذي بات أكثر وعياً وحساسية تجاه أداء النخب السياسية، وأكثر تطلعاً إلى تغيير حقيقي في إدارة الدولة ومؤسساتها. ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية لعام 2025، يُرجح أن تأتي نتائجها بمفاجئات غير مسبوقة تكشف عن عُمق التحولات في توجهات الناخبين، مصحوبة بدخول فئات شابة جديدة من الجيل "زد"، وبالتغيرات الإقليمية التي تؤثر على الديناميكيات السياسية داخل البلاد. لذا تُعد هذه الانتخابات مصيرية، حيث يمكن أن تحدد مسار العراق السياسي لعقود قادمة، بين استمرار الأطر التقليدية التي قد تدفع بالشارع لتجاوز الصندوق والعودة للاحتجاجات، أو صعود قوى بديلة تحمل مشروعاً وطنياً يواكب تطلعات الشعب ويعيد للعراق مكانته وسيادته.
انتخابات 2021 الكاشفة لتوجهات الناخبين
تمكنت التيارات والقوى الجديدة، مثل "حركة امتداد"، و"الجيل الجديد" في إقليم كردستان، و"تحالف تصميم" في البصرة، من حصد ما يقارب 7.75% من إجمالي الأصوات، بما يعادل نحو 700 ألف صوت، وهي نسبة تقترب من عدد الأصوات التي حصل عليها التيار الصدري، الذي نال الأغلبية البرلمانية بحوالي 900 ألف صوت، أي ما نسبته 10%، مما أهّله لحيازة 73 مقعدًا. في المقابل، تفوقت هذه القوى الناشئة على عدد من التحالفات السياسية التقليدية التي لطالما هيمنت على المشهد السياسي، إذ نال "ائتلاف تقدم" حوالي 7.20% من الأصوات الصحيحة، و"ائتلاف دولة القانون" نحو 5.67%، فيما حصل "تحالف الفتح" على نحو 5.23%.
ورغم أن هذه القوى خاضت الانتخابات ضمن دوائر جغرافية محلية محدودة، إلا أنها أظهرت قدرة ملحوظة على اختراق البنية السياسية التقليدية في وقت زمني وجيز، إذ استطاعت حركة "الجيل الجديد"، التي تأسست في عام 2017، أن تنافس الحزبين الكرديين الرئيسيين، "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، فبينما نالت أربعة مقاعد في انتخابات 2018، تجاوزت التوقعات في انتخابات 2021 بحصولها على تسعة مقاعد، في وقت حافظ فيه الحزبان التقليديان على عدد مقاعدهما تقريبًا، حيث حصل الحزب الديمقراطي على 31 مقعدًا في 2021 مقابل 25 في 2018، فيما حصل الاتحاد الوطني على 17 مقعدًا مقابل 18 في الدورة السابقة.
ومن اللافت في هذا السياق، أن القوى الجديدة، رغم افتقارها للانتشار التنظيمي الواسع والموارد التي تملكها القوى التقليدية، إلا أنها نجحت في تحفيز ما يُعرف بـ"الأصوات الصامتة"، لا سيما في المحافظات المركزية التي طالما شهدت نسب مشاركة منخفضة نتيجة الإحباط العام من الطبقة السياسية السائدة، وقد امتد تأثير هذه القوى ولو بشكل محدود إلى مناطق جنوبية ووسطى، حيث حصل بعضها على مقاعد في بابل وكربلاء وأربيل والسليمانية، بما يعكس أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المكونات السنية أو الشيعية، بل تتجاوزها إلى الإقليم الكردي، رغم اختلاف تعقيداته التنظيمية والسياسية.
وعبر المقدمة السابقة، تشير المعطيات إلى تنامي وعي فئات واسعة من العراقيين، لاسيما الشباب والناشطين، بضرورة الخروج من حالة العزوف، وبدء التأثير الفعلي من خلال تحسين اختياراتهم الانتخابية، وهو ما أفضى إلى دخول قوى جديدة إلى البرلمان على حساب تراجع ملحوظ لبعض القوى التقليدية، مثل تحالف الفتح الذي تراجع من 48 مقعدًا عام 2018 إلى 16 مقعدًا فقط في 2021. ورغم أن هذا التحول لا يزال محدودا جغرافيا، ويتركز في محافظات بعينها كالعاصمة بغداد والبصرة وذي قار وميسان، حيث لا تزال الكيانات السياسية التقليدية تحتفظ بقاعدة جماهيرية واسعة، إلا أن نتائج انتخابات 2021 عكست بوضوح اتساع الرغبة لدى الناخب العراقي في التغيير، وسعيه نحو إيجاد بدائل سياسية تعبّر عن تطلعاته بعيدًا عن الأطر الحزبية القديمة.
1.jpg)
انتخابات 2025: تحولات سياسية ومتغيرات إقليمية
تأتي الانتخابات القادمة المقررة في 11 نوفمبر 2025، ضمن سياق أوسع من التحولات المتسارعة على المستويين المحلي والإقليمي، ومنها الضغوط التي تواجه القوى التقليدية المرتبطة بمحاور إقليمية، خاصة بعد تطورات الحرب في قطاع غزة، على الرغم من نجاح تلك القوى في تمرير قانون انتخابي جديد يتناسب مع مصالحها.
ويُضاف إلى هذه التحولات السياسية دخول شريحة جديدة من الناخبين للمرة الأولى في انتخابات 2025، وهم من مواليد 2006–2007، ويُقدر عددهم بنحو 1.9 مليون شاب وشابة، ينتمون إلى ما يُعرف عالميا بجيل "زد". هذا الجيل، الذي يقود موجات من الضغط الشعبي من أجل الإصلاح وتحسين الواقع المعيشي في مختلف بلدان العالم، والذي يُتوقع أن يُحدث أثراً ملموساً في شكل المشاركة السياسية في العراق، وأن يُعزز من زخم التغيير المنتظر.
وبذلك؛ تُصبح انتخابات 2025 ليس فقط ممارسة دورية، بل لحظة مفصلية في إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وتحديد طبيعة التمثيل السياسي الذي يريده الشارع العراقي بعد تجربة عقدين من التبدلات والصراعات.
فالسؤال اليوم لم يعد مقتصرا على من يحكم؟ بل بات يتمحور حول كيف يُحكم العراق؟ وعن قدرة القوى السياسية على استيعاب متغيرات المجتمع العراقي الذي بات أكثر شبابا، وأعلى وعيا، وأقل قابلية للارتهان لخطابات الهويات الضيقة أو الولاءات التقليدية.
وفي هذا السياق، تبدو القوى القادرة على التكيف مع هذا التحول والاستجابة له واقعيا؛ مثل ائتلاف الإعمار والتنمية بقيادة محمد شياع السوداني، هي الأقرب لترجمة المزاج الشعبي إلى مشروع سياسي قابل للتطبيق، وبما يؤسس لمشروعية الإنجاز وليس المزيد من الشعارات.
وعليه يمكن النظر إلى ائتلاف الإعمار والتنمية والذي لا يُمثل مجرد امتداد تقني للحكومة، بل هو تعبير سياسي ناضج عن تجربة تنفيذية اكتسبت مشروعيتها من الميدان، واستطاع السوداني من خلاله أن يقدم نموذجا هجينا يتجاوز الانقسام بين "القوى التقليدية" و"القوى الجديدة".
فهذا الائتلاف، وإن كان يملك امتدادا في بعض أوساط القوى التقليدية، إلا أنه استوعب بذكاء الخصائص الجوهرية التي دفعت بصعود القوى الجديدة في انتخابات 2021، مثل التركيز على مفهوم السيادة الوطنية، ورفض التبعية لمحاور خارجية، والانحياز للهوية العراقية الجامعة، إلى جانب الإصرار على التنمية الاقتصادية، ومحاربة الفساد، وتحقيق إصلاحات ملموسة في مجالات التعليم، الصحة، والخدمات الأساسية.
وهكذا، يحتاج العراق في المرحلة المُقبلة، نموذجا متوازنا يجمع بين أدوات الحكم الواقعية، والقدرة المؤسسية، والخبرة الإدارية من جهة، وبين تبني خطاباً إصلاحياً قريب من تطلعات الشرائح الشبابية، والطبقة الوسطى، والفئات المهمشة التي كانت في طليعة الحركات الاحتجاجية عام 2019 من جهة أخرى. ولعل القُوى القادرة على الجمع بين الواقعية السياسية والتطلعات الشعبية، ستشكل فعليا البديل السياسي القابل للاستمرار، لا بوصفها ظاهرة انتخابية عابرة على غرار قُوى تشرين، بل كرؤية سياسية راسخة، قادر على إعادة تشكيل المشهد البرلماني، وصياغة العقد الاجتماعي، ونقطة ارتكاز لبناء تحالفات أوسع تعبر عن الهوية الوطنية الجامعة.
المشروع الوطني العراقي الضامن للاستقرار
ما يحتاجه العراق في هذه المرحلة، هو استكمال منجزات حكومته الحالية، وتحويل نهجها في التركيز على الخدمات إلى رؤية وطنية متكاملة تُعيد ترتيب الأولويات العراقية، بدءً من ترسيخ القرار الوطني المستقل، وتعزيز مكانة الدولة كمركز للقرار، وتوجيه الموارد الوطنية نحو بناء اقتصاد منتج ومجتمع متماسك.
وحيث تُشارف البلاد على إجراء الانتخابات البرلمانية، فإن مشروع العراق الوطني، يجب أن يفوق الاعتبارات الانتخابية ويتجاوز الحملات الإعلامية. إذ يُمثل مسار عمل اضطراري، في وقت لم يعد فيه الشعب العراقي يتحمل دورة أخرى من الوعود غير المحققة. فقد تغير المجتمع العراقي على نحو واضح خلال السنوات الأخيرة، لا في مزاجه السياسي فقط، بل في أولوياته ومعاييره لاختيار من يمثله.
وكشفت توجهات أصواته في انتخابات 2021 لقوى جديدة خارجة عن عباءة القوى التقليدية، تعبيرا مباشرا عن هذا التحول، ومحاولة لاستعادة صوته من خلال صناديق الاقتراع بدل الشارع. غير أن خيبة الأمل من تحولات ومواقف بعض تلك القوى بعد وصولها للبرلمان، وتفكك بعضها الآخر، وما أثبتته تجاربهم من هشاشة تلك القوى، وافتقارها للرؤية والأدوات، قد ما أعاد طرح السؤال الأهم: ما البديل الحقيقي؟
في الواقع؛ يُمكن إيجاد البديل، من خلال تركيز الناخبين على البرامج الانتخابية، وليس النظر للدعاية الانتخابية، فالأولى ستنعكس على الأداء البرلماني والتنفيذ الحكومي، فيما الثانية تنتهي بالوصول إلى البرلمان. كما تُركز الأولى على معالجة أسباب السخط الشعبي، وهي مسألة غاية في الأهمية والأولوية؛ قبل أن تتجدد موجات التظاهرات في الشارع، خاصة في أوساط الأجيال الشابة أو جيل "زد".
فالهدوء النسبي للشارع العراقي اليوم؛ مؤقت ويمثل نتاج رئيسي لنهج وإنجازات وأولويات الحكومة الحالية، التي جاءت في أكتوبر 2022 بعد أزمة سياسية حادة، وسياق احتجاجي ممتد منذ عام 2018، وهو ما يُشير إلى أن الإصلاح ممكن من داخل النظام، حيث عكفت الحكومة منذ تشكيلها على معالجة حصيلة من الفشل الحكومي والإداري السابق لها، عبر تقديم مقاربة سياسية متزنة تنطلق من السيادة والتنمية كأساس لبناء الدولة. ولم يكتف رئيس الوزراء محمد السوداني بتقديم الوعود، بل أرفقها بمنجزات فعلية في قطاعات خدمية واقتصادية حيوية. ويُمثل طرحه الحالي لمشروع "العراق أولاً"؛ بمضامينه التنموية والسيادية جهداً يهدف لاستدامة الاستقرار الناشئ في ظل حكومته، ولتجنيب العراق دوامة الاحتجاج والانسداد السياسي مجددا.
.jpg)
وأخيراً؛ ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية القادمة، فإن ما تُقدمه الحملات الانتخابية يجب أن يستند على استكمال ما تحقق في الواقع، وأن تستجيب لما يطمح إليه المجتمع العراقي الذي تغير بالفعل، ذلك المجتمع الذي لم يعُد يقبل بسياسات الإنكار أو التسويف. ومن جهة أخرى، فإن ما تحمله الانتخابات من رهانات محلية وإقليمية، تمثل اختبارا جدياً لوعي المواطنين، وفرصة نادرة لتجديد العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، وإعادة تعريف العراق وموضعه بين سائر الشعوب والدول في المنطقة والعالم.

حازم سالم الضمور
مدير عام المعهد/ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية