هل تشكل قمة العشرين منعطفًا جديدًا في النظام العالمي؟
تقدير موقف يتناول قمة مجموعة العشرين الأخيرة التي انعقدت في الهند وأبرز محاورها ويتطرق إلى القضايا الخلافية بين أطرافها كالأزمة الأوكرانية والتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري وإعادة هيكلة الديون، ويشير التقدير إلى أن القمة شكلت منعطفاً جديداً في مسار العلاقات بين أعضائها وفي مستقبل التكتلات الدولية التقليدية.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٩/٠٩/٢٠٢٣
جاء انعقاد قمة مجموعة العشرين في الهند يومي التاسع والعاشر من شهر سبتمبر 2023، مُعبراً عن حالة الانقسام والاستقطاب الذي يشهده النظام الدولي وبشكل لم يكن له مثيل منذ أرسى النظام أركانه في تسعينيات القرن الماضي، فقد عجزت القمة التي غاب عنها الرئيسان الروسي والصيني، عن التوافق حول رؤية مشتركة للعديد من القضايا الدولية الكُبرى محل الخلاف بين المجتمعين كالأزمة الأوكرانية والتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري وإعادة هيكلة الديون، والتي انعكست بشكل لافت في مضامين بيان القمة الختامي.
مع ذلك؛ فمن المُتوقع أن تُشكل القمة بمخرجاتها ودلالاتها منعطفا جديداً في مسار النظام العالمي، خاصة في نتائج وتداعيات إطلاق ممر (الهند-الشرق الأوسط-أوروبا)، وإعلان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعمهم لممر "لوبيتو" الذي يربط زامبيا والكونغو الديمقراطية بأسواق التجارة الإقليمية والعالمية عبر ميناء لوبيتو في أنجولا.
تحركات ومنعطفات سبقت القمة
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في ربيع 2022 دخلت الصراعات الدولية مرحلة جديدة من الاستقطاب ما بين دول حلف الناتو، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وكل من روسيا والصين، وهي مرحلة شهدت العديد من المنعطفات الهامة، ومنها:
أولاً: الإعلان عن استئناف العلاقات السعودية الإيرانية في 10 مارس 2023 برعاية صينية، وتأكيد البلدين على احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة في العام 2001 واتفاقية التعاون في مجال "الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب" الموقعة في العام 1998.
ثانياً: طرح فكرة مشروع مشترك للبنية التحتية لربط دول الخليج والمنطقة العربية بشبكة من السكك الحديدية والموانئ البحرية المرتبطة بالهند خلال اجتماع رباعي لمستشاري الأمن القومي في الولايات المتحدة والسعودية والإمارات العربية المتحدة والهند، عقد في الرياض في 7 مايو 2023، وهي الفكرة التي ولدت في منتدى التعاون الاقتصادي الحكومي الدولي (I2U2) الذي تأسس في العام 2021 ويضم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والإمارات والهند، وإعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في 30 يوليو 2023، أن إسرائيل تعمل على إنشاء سكة قطار مشيراً إلى احتمالية ربطها مستقبلاً بالسعودية.
ثالثاً: انعقاد مؤتمر الأعمال العربي الصيني العاشر في الرياض يومي 11-12 يونيو 2023، والذي أعلن خلاله عن إطلاق "طريق حرير" عصري جديد بين الصين والعالم العربي كجزء من خطة المواءمة ما بين رؤية 2030 السعودية ومبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث حمل ذلك الإعلان جملة من المحددات المهمة، كالتزام السعودية بالعمل كجسر يربط العالم العربي بالصين، وربط المنطقة ببعضها ومحيطها في أفريقيا وأوروبا وفي آسيا.
رابعاً: انعقاد قمة كامب ديفيد الثلاثية في 18 أغسطس 2023 بين رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكوريا الجنوبية، واتفاقهم على اعتماد خط ساخن، وعقد قمة سنوية بينهم، ورفع مستوى التعاون الدفاعي الثلاثي "بشكل غير مسبوق" بما يشمل إجراء مناورات عسكرية مشتركة سنوية.
خامساً: إعلان قادة مجموعة "بريكس" (BRICS) في 24 أغسطس 2023 عن فتح باب العضوية أمام ست دول جديدة هي الأرجنتين، وإثيوبيا، وإيران، والسعودية، ومصر، والإمارات، وترحيب الدول الست بالقرار.
اشتداد المنافسة الجيو-استراتيجية
كل ما سبق قمة العشرين من مواقف وأحداث تكثف في القمة، ويكاد يتركز في قضية وصول حدة الاستقطاب ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين من جانب، وروسيا والصين من جانب آخر، إلى مستويات متقدمة من التنافس الجيو-استراتيجي حول أقاليم العالم المختلفة، وذلك ما حملته مؤشرات يومي القمة، من حيث:
أولاً: الاهتمام الأمريكي الكبير بالمشاركة في القمة، والإعلان خلالها عن مشاريع الولايات المتحدة وحلفائها كمشروع "ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا" في مواجهة مشروع "الحزام والطريق" الصيني، ومحاولة الولايات المتحدة الحصول على أكبر دعم ممكن لسياساتها ومواقفها ومشاريعها من جانب أطراف مجموعة العشرين، وسعيها لتعزيز علاقاتها بالهند بوصفها أكبر ساحة "مواجهة" محتملة مع الصين.
ثانياً: غياب الرئيسين الروسي والصيني عن القمة، وما يحمله هذا الغياب من رسائل ودلالات توجه الأنظار نحو مجموعات أخرى يرجح أن تؤدي دوراً كبيراً في المرحلة القادمة، كمجموعة "بريكس" ومنظمة "شنغهاي" للتعاون.
ثالثاً: عجز القمة في تلبية الرغبات الأمريكية والأوروبية بالتوافق على إدانة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقد غابت كلمة الرئيس الأوكراني عن القمة عبر تقنية الفيديو رغم كل الضغوط الأمريكية والغربية، خلافاً لما حصل في قمة مجموعة العشرين السابقة في بالي الإندونيسية عام 2022.
رابعاً: نجاح الهند في توظيف القمة لتعزيز مكانتها الدولية القادمة بوصفها "قطباً" سياسياً واقتصادياً عالمياً ورث حركة "عدم الانحياز" وحافظ على مواقفها بعد انتهاء الحرب الباردة، وقدرتها على لفت الانتباه الدولي لرؤيتها بعيدة المدى المتعلقة بمكافحة التغير المناخي وتعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة بعد إطلاق التحالف الدولي للطاقة الشمسية بقيادتها.
خامساً: الموافقة على ضم الاتحاد الإفريقي لعضوية مجموعة العشرين، وهي خطوة تأتي في ظل ازدياد حدة التنافس الدولي للنفوذ في أفريقيا، وجاءت بدعم من الأطراف الثلاثة الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين) رغم اختلاف تلك الأطراف في معظم القضايا الأخرى، وهو ما يشي بمصلحة الأطراف الثلاثة لكسب الاتحاد الإفريقي إلى محوره العالمي انطلاقاً من بوابة مجموعة العشرين.
ما بعد قمة العشرين
شكلت قمة الهند منعطفاً جديداً في مسار العلاقات بين أعضائها وفي مستقبل التكتلات الدولية التقليدية، وهو منعطف يتسم بمجموعة من المؤشرات والدلالات، من حيث:
أولاً: التراجع النسبي لدور مجموعة العشرين مقارنة بالسنوات السابقة، وهو ما ظهر في غياب الرئيسين الروسي والصيني عن المشاركة في القمة، وفي بيانها الختامي "التوافقي/ التوفيقي" الذي أظهر عمق الخلافات حول القضايا الرئيسية بين "أقطاب" المجموعة، خاصة فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، وعدم القدرة على اتخاذ موقف يدين روسيا بشكل صريح كما حدث في قمة بالي السابقة.
ثانياً: تراجع التأثير الأمريكي على أعضاء المجموعة، وهو ما ظهر في رفض الهند مطالب واشنطن منح الرئيس الأوكراني زيلينسكي فرصة لمخاطبة القمة عبر الفيديو.
ثالثاً: أساس الاهتمام الأمريكي بالقمة وبالعلاقات مع الهند غير منفصل عن الرؤية الاستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى تعزيز رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، وترسيخ دور الهند الأمني من خلال مجموعة الحوار الأمني الرباعي "كواد"، في مواجهة الاستراتيجية الصينية الساعية لإضعاف الروابط بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في شرق آسيا.
رابعاً: يشير عدم تعليق الصين على مشروع " الهند-الشرق الأوسط-أوروبا" إلى وعي الصين بالأهداف الأمريكية الساعية إلى مزاحمة القدرة التنافسية لها، كما يشير إلى استمرار القيادة الصينية في تنفيذ استراتيجياتها عبر العديد من البوابات دون الوصول إلى مرحلة الصدام المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذا السياق تعمل بكين على زيادة كفاءة وفعالية التكتلات السياسية والاقتصادية الأكثر انسجاماً مع أهدافها، مثل مجموعة "بريكس" ومنظمة "شنغهاي" للتعاون.
خامساً: رغم التباينات الروسية الصينية حول العديد من المواقف والسياسات، إلا أن تنامي علاقات الدولتين يأتي لمواجهة الولايات المتحدة، وبحكم تلاقي مطالب الدولتين بنظام عالمي متعدد الأقطاب، وبالتالي تقف الولايات المتحدة في مواجهة قطبين اثنين كبيرين يختلفان في الاستراتيجيات الجزئية والسياسات والمواقف، لكنهما يتفقان في استراتيجية كبرى لا تكون فيها الولايات المتحدة قطباً وحيداً أوحداً في النظام الدولي القادم.
سادساً: بروز الطموحات العالمية لبعض الدول والتجمعات الإقليمية كالاتحاد الإفريقي، وسعي تلك الدول والتجمعات لتطوير مكانتها الدولية في عالم ما بعد الأزمة الأوكرانية انطلاقاً من مصالحها القومية التي بدت أكثر وضوحاً واستعداداً للابتعاد عن "التبعية" لمراكز القوى العالمية التقليدية، وأكثر استعداداً لتنوع الخيارات وتعدد التحالفات وتجنب الصدامات.
وأخيراً؛ تخلت قمة العشرين في الهند عن دورها الذي أسست من أجله بإيجاد حلول للقضايا والتحديات العالمية، وأصبحت القمة تعبر عن اختلالات النظام العالمي ومنافسات أقطابه، وما الممر الممتد من الهند إلى أوروبا مروراً بالشرق الأوسط إلا تعبيراً عن تنافس جيوسياسي وتباين جوهري في الرؤى لكل ما يدور في فلك النظام العالمي من علاقات سياسية واقتصادية وتفاعلات وأحداث.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات