نظرة على الاقتصاد الليبي بعد التوافق السياسي
بعد نحو عقد من انعدام الاستقرار السياسي والأمني، تشكَّلت حكومة ليبية جديدة في مارس 2021 كنتيجة لحوار سياسي برعاية أممية بين الفرقاء السياسيين، ومن البديهي القول إن الاتفاق السياسي الذي يصفه البعض بغير المتين ليس النقطة الأخيرة في حل الصراع الليبي المحلي خاصة في ظل وجود تحديات اقتصادية كبيرة ومعقدة تعاني منها الدولة الليبية والتي يحاول هذا المقال تسليطَ الضوء على أبرز معالمها.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٣٠/٠٥/٢٠٢١
تشكَّلت الحكومة الليبية الجديدة في 10 مارس 2021 برئاسة، عبد الحميد الدبيبة، بعد سنوات من عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي ساد على الساحة الليبية وما رافقه من تدخل أطراف إقليمية ودولية ساهمت في تعقيد المشهد العام وعرقلة الطريق لإيجاد حل، حالة لم تُجْدِ معها التفاهمات السياسية المرحلية من قبيل اتفاق الصخيرات عام 2015 وما نتج عنه من اعتراف أممي بالمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بقيادة، فايز السراج، حيث استمر الاقتتال الداخلي المدعوم إقليمياً آخذاً معه الوضع الاقتصادي والاجتماعي إلى مستوى حرج دَفَعَ الأطراف المتنازعة إلى التوافق السياسي خوفاً من تفاقم التململ الذي أصاب القواعد الشعبية لكل طرف جرّاء تردي الأوضاع المعيشية.
وعلى إثر هذا الاتفاق السياسي، توقّع صندوق النقد الدولي في آخر تقرير أصدره عن آفاق الاقتصاد العالمي، نموَ الاقتصاد الليبي بواقع 5%، وذلك بعد أن سجّل أداءً سيئاً خلال عام 2020 بسبب انخفاض أسعار النفط عالمياً نظراً للتداعيات الاقتصادية المترتبة على جائحة كورونا.
وبعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، بدأ الإنتاج النفطي في ليبيا بالتعافي تدريجياً، حيث رفع الجيش الوطني الليبي يده عن حقول النفط التي كان يسيطر عليها، لتُعلن مؤسسة النفط الليبية بعد ذلك عن رفع إجراء القوة القاهرة الذي كان مفروضاً على آخر الحقول النفطية شرقي البلاد، وسبق ذلك اتفاق الجيش مع المؤسسة في سبتمبر 2020 على استئناف تصدير النفط ضمن آلية واضحة وشفافة يتم بموجبها توزيع العوائد بشكل عادل على مختلف الأقاليم مع ضمان عدم وصولها إلى أيدي الجهات المسلّحة والمقاتلين الأجانب. وبلغ الإنتاج اليومي للنفط الليبي خلال شهر مارس الماضي ,2831 مليون برميل.
يمكن القول إن صناعة النفط ساهمت في إيجاد الحل السياسي، حيث انخفض إنتاج النفط الليبي إلى أقل من 100 ألف برميل قبل يناير 2020، وبالتالي دخلت الدولة في حالة من الضيق الشديد الذي ترافق مع حالة من التضارب المؤسسي ونشوء كيانات موازية، فعلى سبيل المثال كان هناك في مقابل حكومة الوفاق، حكومة عبد الله الثني في الشرق المتحالفة مع الجيش الوطني الليبي بقيادة، خليفة حفتر، إلا أن السلطتين التنفيذيتين فشلتا في تلبية المطالب الشعبية بشأن تأمين حد أدنى من الخدمات والحياة الكريمة، فبدا خيار العودة إلى إنتاج النفط منطقياً للأطراف المتنازعة نظراً إلى توفر الموارد اللازمة لذلك، حيث تمتلك ليبيا أكبر احتياطيات من النفط في قارة أفريقيا.
ومن المتوقع أن يشهد الاقتصاد الليبي تحسناً خلال العام الحالي بالنظر إلى عودة مردودات بيع النفط للتدفق في خزينة الدولة والتي تمثل 95% من الواردات العامة للبلاد، لكن المخاوف ما زالت قائمة، حيث إن التوافق السياسي بين الأطراف المتخاصمة غير مضمون، وصحيح أن أسواق النفط على المستوى العالمي تمر بفترة من الاستقرار مائلة إلى الزيادة السعرية، حيث لم ينخفض سعر برميل خام برنت عن 64 دولار منذ منتصف أبريل الماضي، إلا أن ثبات الطلب العالمي عند نقطة معينة هو أمر نسبي بطبيعة الحال، وتقلّبه يعني اضطراب الاقتصاد الليبي بشكل كبير بسبب الاعتمادية الكبيرة على صناعة النفط، ناهيك عن أن ليبيا تحظى بإعفاء من اتفاقيات خفض الإنتاج في إطار تحالف "أوبك+" نظراً لحاجتها الكبيرة إلى رفع مستوى الإنتاج لديها، لكن لا أحد يضمن أيضاً ألا تتم مطالبتها بالانخراط في خفض الإنتاج ولو بنسب قليلة في حال انخفض الطلب العالمي على النفط مرة أخرى لأي سبب كان.
إن مسألة عدم تنوع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الليبي هي المشكلة الأساسية، لذلك سيبقى الوضع مضطرباً، وهذا ما عبَّر عنه وزير الدولة للشؤون الاقتصادية في حكومة الدبيبة، سلامة الغويل، عندما صرَّح لوسائل إعلامية أن تنويع مصادر الدخل هو من ضمن الآمال الوحيدة لتوحيد الشعب الليبي في مواجهة التحديات الاقتصادية وتحقيق التنمية المستدامة.
يُلاحِظ المطَّلع على الشأن الليبي أن التحديات الاقتصادية تتجاوز قضية الاعتماد على النفط كمورد رئيسي، كما تتجاوز معضلة الحفاظ على الاستقرار الأمني بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية بما تتضمنه من عملة صعبة، حيث تعاني ليبيا أيضاً من عدم شفافية ونزاهة النظام المالي، فحتى اللحظة يوجد فرعان للبنك المركزي الأول في طرابلس والثاني في البيضاء على الرغم من حديث الغويل في منتصف مايو 2021 عن قُرب موعد توحيد البنك المركزي من أجل استعادة ما تبقَّى من ثقة في النظام المالي الليبي، وعملية استعادة الثقة هذه بدأتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالتعاون مع شركة International" "Deloitte البريطانية التي تُعتبر أكبر شركة استشارات وخدمات محاسبية في العالم، حيث أطلقت البعثة منذ أغسطس 2020 عملية لمراجعة وتدقيق الحسابات لفرعي البنك المركزي بهدف جمعها ودمجها لكي يتم توحيد أعلى مؤسسة نقدية في البلاد، والتي كانت قد انقسمت في عام 2014.
لطالما اتهمت حكومة الوفاق ومؤيدوها المسؤولين في المناطق الشرقية للبلاد الخاضعة لنفوذ حفتر، بأن نقل البنك المركزي الليبي إلى بنغازي كانت له نتائج وخيمة على إدارة السياسة النقدية والمالية والوضع الاقتصادي بشكل عام، وذلك بسبب ضخ كميات كبيرة من الدينار الليبي المطبوع في روسيا إلى السوق والمقدّرة بنحو 4 مليارات دينار، وفقاً لدراسة أصدرتها الأمم المتحدة عام 2020 وهي بعنوان "دراسة تمهيدية عن الاقتصاد في ليبيا: الواقع والتحديات والآفاق" مما أدى إلى حدوث تضخم وانخفاض في قيمة العملة مقارنة بغيرها من العملات المحلية، وفي المقابل وُجّهت الاتهامات إلى حكومة الوفاق باستخدام أموال البنك المركزي في دعم الجماعات المسلحة ودفع رواتب المقاتلين الأجانب، ناهيك عن قضايا الفساد المستشري في البنك والهياكل الإدارية الأخرى في طرابلس؛ ولا تنفي الاتهامات المتبادلة حقيقة وجود فساد يطال المال العام واقتصاد البلاد والذي يجب التعامل معه لحل الصراع كما يرى المبعوث الدولي السابق، غسان سلامة.
إن تبادل الاتهامات لم يغطي حقيقة أن النظام النقدي قد جرى تعطيله، وأن ذلك كان له تبعات كارثية على الوضع الاقتصادي، فعلى سبيل المثال بلغ مقدار الديْن العام في عام 2020 ما مقداره 60 مليار دولار أي 260% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب بيانات البنك المركزي الليبي في طرابلس، وهذا ما ترافق بالتأكيد مع انخفاض قيمة العملة وهروب رؤوس الأموال المحلية وانخفاض الملاءة المالية للدولة.
بصيص أمل
جاء التوافق السياسي في أعقاب ترتيب الأوراق الاقتصادية، فقد جرى الاتفاق - كما ذكرنا سابقاً - على العودة إلى إنتاج النفط، وحدَّد البنك المركزي في اجتماع موحد لمجلس إدارته في ديسمبر 2020 سعرَ صرف الدينار عند 4,48 مقابل الدولار الواحد، فقبل ذلك كان هناك سعران لصرف العملة؛ واحد للاستخدامات الرسمية ويبلغ 1,4 دينار مقابل الدولار، والآخر لاحتياجات المواطنين اليومية ويبلغ 3,9 دينار.
على الرغم من أن التوتر الأمني ما زال قائماً بين شرق البلاد وغربها وذلك يعني تعطل الحركة التجارية المحلية، إلا أن هدوء الجو الإقليمي العام الذي يدل عليه في المقام الأول خفضُ حدّة النبرة التصعيدية بين مصر وتركيا اللتين انخرطتا في الصراع الليبي بشكل مباشر وغير مباشر، والاهتمام الخليجي والعربي والأوروبي بالمشاركة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، يوحي بأن المستقبل قد يتجه نحو الاستقرار.
كما ويمكن وصف استجابة الحكومة الجديدة لمتطلبات المرحلة المقبلة بالجيدة، حيث قامت وزارة المالية الليبية في أبريل الماضي بإنشاء صندوق لإعادة الإعمار يتطلب 50 مليار دولار على مدار 3 سنوات كمرحلة أولى، على أن يضم المساهمات المالية الرسمية على شكل مخصصات من الميزانية الليبية، بالإضافة إلى المساهمات المحلية المتأتية من القطاع الخاص الليبي والأجنبية.
لا أحد يُنكر أن شبح التوتر والنزاع الأمني يُمكن أن يعود إلى ليبيا في أي وقت ما لم يتم تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وبسط السيطرة الأمنية بشكل مركزي على كامل التراب الليبي، كما أن على القيادة الليبية أن تُدرك جيداً وتُراعي ضرورة الموازنة بين مصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين الراغبين في الاستثمار على الأراضي الليبية نظراً لما توفره من موارد ضخمة وموقع استراتيجي متميز، فعدم المفاضلة بين هذا الطرف أو ذاك سيكون من شأنه ضمان الاستقرار وتسريع عجلة التنمية الاقتصادية.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات