مناورات "ذو الفقار-1400": تكتيكات عملياتية ورسائل سياسية
يقدم التقرير التالي لمحة عن أبرز الجوانب العملياتية في مناورات "ذو الفقار - 1400" التي نفذها الجيش الإيراني، كما يناقش التقرير الرسائل السياسية التي حملتها المناورات في وقتٍ تستعد فيه الدبلوماسية الإيرانية لحسم عدة ملفات، أهمها المفاوضات النووية في فيينا
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٢/١١/٢٠٢١
أنهى الجيش الإيراني مناورات "ذو الفقار - 1400" في توقيتٍ حساس تتهيأ فيه إيران لجولات حاسمة من المحادثات النووية في فيينا، فصحيح أن هذه المناورات دورية سنوية إلا أنه لا يمكن اعتبارها مجرد تمرينات روتينية لرفع الجهوزية العملياتية، ففي العمق ثمة رسائل سياسية تم توجيهها نحو أهداف تحتل صدارة اهتمامات السياسة الخارجية الإيرانية.
وقبل أن يتم مناقشة هذه الرسائل، لا بد من تسليط الضوء على بعض الجوانب العسكرية في هذه المناورات، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
(هذه الجوانب تم ملاحظتها استناداً على ما جاء في تصريحات المتحدث باسم المناورات، الأميرال محمود موسوي، وقائد قوة الدفاع الجوي، العميد علي صباحي، ووكالة الأنباء الإيرانية "إرنا"، ووكالة فارس)
1- غطّت المناورات مساحة تزيد عن مليون كم مربع تمتد من شرق مضيق هرمز مروراً ببحر عمان وحتى شمال المحيط الهندي، ما يجعلها من أضخم المناورات الإيرانية على الإطلاق.
2- نُفذت المناورات بمشاركة الفروع الأربع للجيش الإيراني: القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي، ولم يُنشر عدد الجنود المشاركين في المناورات، ولكن تم الدفع بمختلف التشكيلات والآليات الثقيلة البرية والبحرية والبرمائية والجوية، وركزت التصريحات الإيرانية الرسمية على فعالية منظومات القيادة والسيطرة ونجاح المناورات في وظائف الاتصالات والتنسيق بين مختلف القوات المنخرطة فيها، أي أن المناورات اشتملت على مهام الحرب الإلكترونية الحاسمة في تحديد قوة الجيوش.
3- جواً، تم إجراء عمليات تزويد بالوقود أثناء التحليق، كما تم استخدام الطائرات المسيرة والمخصصة للاستطلاع الجوي، كأبابيل 3، ومهاجر 4، ناهيك عن طائرات الاستطلاع المأهولة والتي حلقت على ارتفاعات شاهقة ومنخفضة لمحاكاة الإفلات من نطاق رصد الرادارات.
4- هنالك حديث عن انخراط جيل جديد من الشباب في تنفيذ الطلعات الجوية وتشغيل منظومات الدفاع الجوي، مع التأكيد على أن الأداء الجيد الحالي للجيش الإيراني لن يكون مقنعاً بمضي الوقت، وهو ما يتطلب -وفق التصريحات الرسمية – العمل على تغيير الأساليب والمحافظة على التقدم التكنولوجي، بما يتناسب مع التوقعات المستقبلية.
5- غاب عن هذه المناورات الحرس الثوري بتشكيلاته المتنوعة، وهو أمر معتاد على هذه المناورات، أي أنه لم يجري إقصاءه وتهميشه بسبب ما يقال عن تنافس شديد بين مكوني القوة الرئيسيين في إيران: الجيش والحرس الثوري. ولا يعني ذلك نفي وجود مثل هكذا تنافس، فكثير من التقارير والشواهد أكدت عدم انسجام هذين الجهازين خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالاندفاع في دعم الجماعات المسلحة في الشرق الأوسط والتدخل في إدارة الشؤون المدنية، كالاقتصاد والقضاء.
6- سبق هذه المناورات، مناورات أخرى أجراها الدفاع الجوي الإيراني بالاشتراك مع القوة الجوية للحرس الثوري تحت اسم "مدافعي سماء الولاية – 1400"، وهي الأضخم على صعيد الدفاع الجوي، حيث غطت مساحتها نصف مساحة إيران أي ما يعادل 800 ألف كم مربع. وتم الكشف في المناورات عن منظومة جديدة أقل حجماً من منظومة "باور 373" يمكنها تعقب عدة أهداف في نفس الوقت وإصابتها ويمكن تشغيلها على السفن الحربية. وشملت المناورات أيضاً محاكاة التعامل مع هجوم صاروخي واسع النطاق بهدف رفع الجهوزية وتشكيل طبقات آمنة للدفاع الجوي، ووفق التصريحات الرسمية، جميع المنظومات المستخدمة في مناورات سماء الولاية محلية الصنع.
التوقيت السياسي
بناءً على الاستعراض السابق للجوانب العملياتية في المناورات الأخيرة، يتضح أن طهران تمارس استعراضاً لقوتها تبعث به برسائل إلى الإقليم والعالم، فحتى الاسم الذي أُطلق على المناورات يحمل دلالة في الثقافة الإسلامية، فذو الفقار – حسب الروايات المتباينة في دقتها الشرعية – هو اسم سيف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في معركة أحد ودافع به عن الرسول حين أحاط به المقاتلين من كل جانب.
أما بالنسبة للرقم 1400 المشترك في تسمية مناورات ذو الفقار وسماء الولاية، فهو يعود إلى العام الهجري 1400 الذي يقابله في التقويم الميلادي العام 1979، وهو العام الذي حصلت فيه "الثورة الإسلامية" التي أنهت حكم الشاه وأقامت النظام السياسي الإيراني بصورته الحالية.
إذاً، تمضي إيران قدماً في أسلوبها السياسي القائم على دفع التصعيد نحو مستويات عالية لحث الأطراف المقابلة على تقديم تنازلات، فهي في تصعيدها تخفي رغباتها الكامنة لحل الأزمات الرئيسية العالقة، أي أن ما تقوم وتصرح به طهران يندرج تحت "تحسين شروط التفاوض" في أكثر من ملف مشتعل.
أبرز هذه الملفات هي المفاوضات النووية التي لا يعرف للآن ما إذا كانت ستجري أم لا، فطهران ترفض عقد مفاوضات جديدة تفضي إلى اتفاق نووي جديد، وتطالب بالتفاوض على آليات العودة للاتفاق السابق. في حين تطالب واشنطن بالتوصل إلى اتفاق أقوى وأطول زمنياً، فخطة العمل الشاملة المشتركة "JCPOA" الموقعة في يوليو 2015 بين إيران ودول "5+1" والمعروفة بالاتفاق النووي مدة صلاحيتها 15 عاماً تتحلل طهران بعدها من التزاماتها النووية.
وتعد الجولة القادمة من المفاوضات النووية أو "المحادثات النووية" – كما تطلق عليها الخارجية الإيرانية في إشارة إلى أن الناتج التفاوضي لن يكون اتفاق جديد – حاسمة فهي الجولة الأولى التي تجري بعد تولي الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، سلطاته الدستورية وسط مخاوف من تولي الجناح الصقوري لهذه المفاوضات، حيث يتردد أن رئيسي نقل صلاحيات الإشراف على المفاوضات من وزارة الخارجية ذات التوجهات الإصلاحية المنفتحة إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يضم شخصيات محافظة تميل إلى التمسك بآرائها وتعتبر القضايا الأمنية والسياسة الخارجية خطوط حمراء لا يجوز التفريط بها دون مقابل "ثمين".
وبعيداً عن التأثر بالبروباغندا الإيرانية، ووفق علم النفس السياسي، فإن الدول والمجتمعات التي تدرك قوتها لا تميل إلى التفاخر بها، وبالتالي يمكن القول إن استعراض القوة الإيراني يخفي في طياته مكامن ضعف استراتيجي تعتري مفاصل الدولة برمتها يمكن استعراضها تالياً:
أولاً، أنهكت سياسة "الضغوط القصوى" وجائحة كورونا الاقتصادَ الإيراني، حيث تظهر البيانات الرسمية تدهوراً غير مسبوق في المؤشرات الاقتصادية، وقدم تقرير صادر عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية في أكتوبر 2021 لمحة كافية عن واقع الاقتصاد المجتمعي في إيران، فأكثر من 50٪ من الشعب الإيراني يعيشون تحت خط الفقر، نصفهم – أي ربع عدد السكان – يعيشون في فقر مدقع يعجزون معه في تلبية الاحتياجات الأساسية. ويقترب معدل البطالة من الـ30٪ إذ أطاحت جائحة كورونا بـ1.4 مليون وظيفة.
أما فيما يتعلق بمعدل التضخم فهو يسجل مستويات قياسية متراكمة على أساس شهري تحطمت معه القدرة الشرائية لعموم الإيرانيين، وهذه الأزمة مرتبطة جوهرياً بانهيار سعر صرف الريال الإيراني أمام الدولار وعجز الحكومة الإيرانية عن إيجاد أسواق "تغامر" في التعامل معها في ظل عقوبات أمريكية تستهدف كل من يتعامل مع أي جهة إيرانية في معظم القطاعات الاقتصادية.
ويُجمع مراقبون أن سياسة العقوبات التي انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ليست "إجرائية" بأهداف محدودة محددة، وإنما شاملة تهدف إلى حشد وتجييش الرأي العام الإيراني بما يقود إلى إضعاف – أو حتى إنهاء – سيطرة المنظومة السياسية الحاكمة.
ثانياً، امتدت الضغوط القصوى على إيران إلى مناطق نفوذها الإقليمي، فالانتخابات التشريعية التي جرت مؤخراً في العراق أقرت انخفاض واضح في حضورها السياسي، حيث هوت الحصة التي حصلت عليها القوائم الانتخابية المنبثقة من تشكيلاتها العسكرية الحليفة، أما في لبنان، فتشتعل فيه الأوضاع على خلفية انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار بفعل عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين الدوليين وبفعل "حادثة" مرفأ بيروت التي امتدت تداعياتها إلى الاحتقان السياسي المزمن في البلاد.
وبعد ما جاء في مقابلة مصورة قبل تشكيل الحكومة اللبنانية مع وزير الإعلام، جورج قرداحي، انتقد فيها الدورَ السعودي في اليمن؛ تشهد علاقات لبنان الخليجية أزمة لم تقتصر على الجانب السياسي بسحب السفراء، بل طالت جزئياً اللبنانيين المقيمين في الدول الخليجية وسط تقديرات بأن يتم إنهاء خدمات جزء من اللبنانيين العاملين في الخليج. ووفقا لما جاء في صحيفة القبس الكويتية، أوقفت وزارة الداخلية الكويتية إصدار جميع فئات التأشيرات للبنانيين الراغبين بزيارة البلاد، وتزامن هذا الإجراء مع توقيف النيابة العامة الكويتية قرابة 10 لبنانيين بتهمة تمويل حزب الله.
أما في سوريا فيواجه الحضور الإيراني ضغوطاً على أكثر من مستوى، ففي الخفاء ثمة تنافس روسي إيراني في نطاق المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، وهذا التنافس يرتبط بصورة أو بأخرى مع المتطلبات الإسرائيلية الأمنية الساعية إلى تحجيم التواجد العسكري المدعوم إيرانياً لا سيما قرب الحدود المشتركة.
ولذلك هنالك تيار رسمي وشعبي في سوريا يرى ضرورة تقليص الحضور الإيراني إلى الحد الأدنى كمقدمة لعودة السيادة في سوريا إلى دمشق وبما يكف التدخلات الأجنبية المبالغ بها في الشأن السوري.
ومؤخراً طرأت اتصالات وتحركات علنية لعواصم عربية مع دمشق تحت غطاء اقتصادي موجه للشعب السوري، وهذه التحرك العربي نحو دمشق يعتقد مراقبون أن هدفه مزاحمة الحضور الإيراني في سوريا وعرقلة جهودها لتثبيت واستدامة الواقع المتشكل الآن في سوريا والذي يمنحها أفضلية واضحة.
ثالثاً، ويكاد هذا العامل أن يكون الأخطر والأعقد، حيث تعد إسرائيل العدة لـ"خيارات أخرى" للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، سواء عبر العمل المنفرد أو المشترك مع واشنطن، ويرفع كلا الجانين (إيران وإسرائيل) وتيرة استعداداتهما الجيوسياسية لردع النوايا التصادمية المتبادلة.
وتتخوف طهران جدياً من تنامي علاقات تل أبيب مع دول واقعة في عمق مجالها الحيوي، وبعض النطاقات الجغرافية في اليمن (كجزر واقعة في بحر العرب ومضيق باب المندب) حيث يمكن تتبع طوق تشكله إسرائيل يضاد النفوذ الإيراني المحيط بإسرائيل، وهذا الطوق يمتد من بحر قزوين مروراً بإقليم كردستان العراق وحتى مضيق هرمز.
وأعلنت القوات البحرية المركزية الأمريكية "NAVCENT" عن مناورات بحرية هي الأولى من نوعها تشارك فيها أيضاً الإمارات والبحرين وإسرائيل، لتعزيز القدرات الأمنية الملاحية الجماعية في البحر الأحمر، ومن المتوقع تكرر هذه المناورات والشراكات العسكرية ليس فقط بسبب اتفاقيات التبادل الدبلوماسي بين دول عربية وإسرائيل وإنما لأن البنتاغون نقل إسرائيل مطلع 2021 من نطاق عمل القيادة الأوروبية للقوات الأمريكية "EUCOM" إلى منطقة عمل القيادة المركزية "CENTCOM" الشرق أوسطية.
ولربما تتمكن إسرائيل في الفترة المقبلة من إحداث اختراق عبر أفغانستان التي تربطها حدود مشتركة وعرة مع إيران، ففي ظل الفوضى الأمنية التي تشهدها أفغانستان يمكن لأطراف كثيرة توظيف الجغرافيا الأفغانية لتحقيق مآرب موجهة ضد هذا الطرف أو ذاك. وقد نُشرت عدة تقارير ناقشت تداعيات ما يجري في أفغانستان على إيران، كتقرير نشرته "Washington Post" في يوليو 2021 جادلت فيه أن أفغانستان قد تصبح مستنقع حقيقي لإيران.
وقد كان لافتاً أن التصريحات الإيرانية الرسمية حول مناورات ذو الفقار 1400 أشارت إلى أن أحد أهداف المناورات هي إرساءَ الأمن في منطقة غرب آسيا، والتي تضم حسب التصنيف الإيراني أفغانستان ومعظم دول المشرق العربي.
رابعاً، تعد إيران من أكثر دول العالم التي يُعلن عن تعرضها لهجمات سيبرانية، ومؤخراً تجاوزت وجهات هذه الهجمات المنشآت النووية والحساسة وأصبحت تطال الخدمات المدنية، كميناء بندر عباس التجاري في مايو 2021 وأنظمة توزيع المحروقات في أكتوبر 2021.
ورغم تقدم القدرات الهجومية السيبرانية الإيرانية، إلا أنها تظل قاصرة عن رصد وصد تلك الهجمات، وبالطبع يشتبه أن تكون إسرائيل في مقدمة المستهدِفين وفق الإعلام الإسرائيلي والغربي.
ومع سيطرة الحرب الهجينة على مجمل التفاعلات الشرق أوسطية، لا يمكن لأي دولة تسعى لانتزاع مكانة إقليمية مرموقة تحقيقَ هذا الهدف دون تأمين جبهتها السيبرانية بصورة تجعلها قادرة على التحرك سياسياً دون خشية تعطيل أحد أنظمتها الحيوية الضرورية لسير الحياة اليومية.
وبعد هذه الإضاءة على مكامن الضعف أو القلق الاستراتيجي، تدرك طهران أنها في غنى عن الانتقال إلى مستويات أخرى من التأزيم الإقليمي، ويمكن الاستدلال على هذا الإدراك بشواهد معينة، أبرزها المحادثات السعودية الإيرانية والتي وإن كانت منفصلة تقنياً عن محادثات فيينا النووية إلا أنها تنسجم مع المطالبات الأمريكية بضرورة تحاور طهران مع محيطها الإقليمي بهدف تسكين الجبهات المشتعلة لا سيما في اليمن، فسياسات إيران الإقليمية واحدة من قضايا "الحل النهائي" لمعضلة العلاقات الأمريكية الإيرانية.
"إذا أردت السلام فاستعد للحرب"
تفسر هذه المقولة اللاتينية المنسوبة إلى الفكر السياسي القديم ارتفاعَ ضجيج المناورات والتهديدات في المنطقة، فما لم تظهر "بجعة سوداء" سيظل وقوع حرب إقليمية كبرى أمراً مستبعداً، فارتفاع التصعيد ظاهرياً يعكس في جوهره رغبة الأطراف التوصلَ إلى تسوية إقليمية تحقق الحد الأدنى من الاعتبارات والمصالح الخاصة بهذه الأطراف، كلُّ على حدة. وستظل الحرب الهجينة الدائرة على أكثر من مستوى وفي أكثر من جبهة مستعرةً إلى أن تقتنع هذه الأطراف بجدوى السلام البنّاء الذي يعود بالنفع على الجميع.
وهذه القناعة تدفع بها صعوبة الاستمرار في تحمل كلف التوترات الحالية في مقابل مكاسب متوقعة جرّاء خفض التصعيد الإقليمي، وطهران كغيرها من العواصم لا تريد أن تنطبق عليها نظريات انهيار الدول بسبب التوسع الخارجي، فهنالك داخل إيراني يرزح تحت وطأة ظروف اقتصادية صعبة.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات