مجتمع غزة: الأدوار والفاعلية في ضوء الفراغ السياسي والأمني
عملت إسرائيل بشكل منهجي على تفكيك بنية حكم حماس في غزة، مستهدفة مؤسساتها الإدارية والأمنية، ما خلّف فراغًا في إدارة الشؤون المدنية والأمنية، وهو ما دفع العشائر واللجان الأهلية لتولي أدوار خدمية وتنظيمية مؤقتة، وسط غياب بديل مركزي. في المقابل، تسعى إسرائيل إلى استخدام هذه التكوينات ضمن نموذج "التوظيف دون التمكين" لتكرار تجربة روابط القرى بأسلوب محدث، دون تقديم بديل سياسي منظم، ما يعكس واقعًا هشًا تتداخل فيه الضرورة المجتمعية مع الحسابات الإسرائيلية.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٤/٠٨/٢٠٢٥

عملت السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى التفكيك الممنهج لبنية حكم حركة حماس في قطاع غزة، على الاستهداف المكثف لهياكل سلطتها ومراكز قوتها، والمتمثلة في بنيتها التحتية الإدارية والأمنية والمؤسساتية؛ من وزارات وبلديات ونقابات ومجالس محلية ومراكز شرطة، وغيرها. وقد خلق ذلك فراغًا في السلطة وفي إدارة الشؤون الخدمية والأمنية، أدى إلى ظهور بدائل محلية من العشائر الغزّية والقوى المحلية التي تزايدت أنشطتها مؤخرًا في سياق تقديم الخدمات وتوفير الأمن. ومن هنا، تبحث الورقة في الدور المتوقع للعشائر والتركيبات الاجتماعية الأخرى في غزة، انطلاقًا من موقعها كفاعل أهلي-اجتماعي، عبر أدوارها التاريخية في الشؤون المدنية والوظيفية، ومن خلال إحلال روابط أولية محل البنى التنظيمية المركزية التي كانت تهيمن عليها حماس، وهي أدوار محكومة بحالة الفراغ المتوقعة في المرحلة الانتقالية في اليوم التالي لوقف الحرب، وحالة التدهور المعيشي لكل تفاصيل الحياة، بالإضافة إلى الاعتبارات السياسية الفاعلة في تشكيل مستقبل القطاع على المدى البعيد.
تفكيك الحكم المركزي في غزة
اتبعت إسرائيل، منذ اندلاع الحرب، سياسة منهجية وتصاعدية تهدف إلى تفكيك البنية المركزية للحكم في قطاع غزة، مركّزة على استهداف الهياكل البيروقراطية والمؤسساتية والإدارية المرتبطة بحركة حماس. وقد هدفت هذه الاستراتيجية إلى تقويض الأدوار المركزية التي تؤديها الحركة في إدارة شؤون المجتمع، تمهيدًا لترتيبات ما بعد الحرب على الصعيد المدني. وتنسجم هذه التوجهات مع ما ورد في وثيقة "اليوم التالي للحرب"، التي أقرّها المجلس الوزاري المصغّر (الكابنيت) في فبراير 2024، والتي تنصّ على أن تتولى إدارة القطاع، في المرحلة اللاحقة، شخصيات محلية ذات خبرة إدارية، تتكفّل بالإشراف على الشأن المدني والنظام العام.
فعلى المستوى البنيوي، دمّرت الغارات الإسرائيلية خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من العدوان (7–28 أكتوبر 2023) ما لا يقل عن 79 مقرًّا حكوميًا، من بينها وزارات الداخلية، والمالية، والتعليم، إضافة إلى البنوك وشبكات الاتصالات. واستمرت طوال الأشهر الأولى من الحرب في استهداف مبانٍ حيوية مثل المجلس التشريعي، والمحاكم العليا، والمراكز الأمنية، ومقارّ الشرطة والبلديات، ومكاتب الحركة، كاستهداف مكتب رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، في أكتوبر 2023. كما واصلت إسرائيل خلال عامي 2024 و2025 تنفيذ سلسلة اغتيالات استهدفت رؤساء عدد من البلديات، واستهدفت قادة وعناصر جهاز الشرطة التابع لحركة حماس في غزة، من بينهم قائد الشرطة محمود صلاح في خان يونس في يناير 2025.
كما اعتمدت إسرائيل على تفعيل واختبار سياسة احتواء موازية لتُسهم في تفكيك وحدة الحكم المركزي، عبر محاولتها توظيف البنية العشائرية كبديل لإدارة الشأن المحلي. ففي يناير 2024، كشفت مصادر إسرائيلية عن خطة لتقسيم القطاع إلى مناطق تُدار عشائريًا، بهدف توزيع المساعدات وتولي الخدمات الأساسية بعيدًا عن مؤسسات حماس. وبعد مارس 2024، درست إسرائيل تهيئة العشائر لتحقيق تلك الخطة، غير أن عددًا من العشائر رفض التعاون مع إسرائيل. وقد أشار بيان لتحالف من العشائر في مارس 2024 إلى أنهم جزء من الحركة الوطنية وليسوا بديلًا عنها، كما أعلنت بعض عائلات وشيوخ من غزّة رفضهم عروضًا إسرائيلية لتولي توزيع المساعدات دون تنسيق مع الأمن المحلي. وقد ترافقت المحاولات الإسرائيلية بتهديدات من حركة حماس للعشائر، فيما وصفته مع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثاني، ظهرت تحولات ملموسة في طبيعة الأدوار التي اضطلعت بها التكوينات الاجتماعية التقليدية تحت حكم حماس. فقد أدى تراجع منظومة الحكم إلى بروز مبادرات عشائرية تولّت مهام تنظيم الأمن وتوزيع المساعدات، في محاولة لسدّ الفراغ الناجم عن انهيار البنية الحكومية، وفي ظل غياب بديل مركزي قادر على إدارة المشهد المدني.
التركيبات الاجتماعية وتطور الأدوار في الحالة الفلسطينية
تلعب التركيبات الاجتماعية التقليدية أدوارًا مركزية في المجتمعات العربية، ومن ضمنها المجتمع الفلسطيني، الذي لعبت فيه أدوارًا فاعلة على مدار القرن الأخير وفتراته الزمنية المتلاحقة، حيث:
أولاً: في نهاية الحقبة العثمانية
اتسمت الحالة الفلسطينية في نهاية تلك الحقبة بما اتسمت به الكثير من المجتمعات العربية التي خضعت للحكم العثماني، خاصة في بلاد الشام والعراق، من حيث تمكين السلطة العثمانية لبعض العائلات الإقطاعية ودمجها في شبكة سلطات الدولة المحلية من خلال نظام الضرائب (عائلات مثل عبد الهادي، وأبو حجلة، وأبو غوش، والجيوسي، والحسيني، والنشاشيبي، والعلمي، والدجاني، والشوا، وطوقان، وغيرها)، ومن خلال بروز التنافس العائلي على خلفيات التمثيل الديني والسياسي (بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي)، وبداية ظهور شخصيات نخبوية في مراكز المدن ومن أعضاء مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) والمثقفين والكُتّاب. في هذه الحقبة كان التأثير الأهم للعائلات الإقطاعية ورموزها من القادة والزعماء الدينيين والسياسيين والمحليين، ولم يكن للعشائر التقليدية ذات الأصول البدوية وعائلات الفلاحين في القرى والأرياف تأثير واضح في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
ثانياً: حقبة الانتداب البريطاني
وهي الحقبة الممتدة من عام 1917 حتى عام 1948، وفيها شهدت البلاد تحولات مهمة في أدوار العائلات والنخب الفلسطينية، من حيث زيادة نفوذ العائلات الإقطاعية التقليدية وبروز دورها السياسي (الشوا في غزة، طوقان في نابلس، الحسيني والنشاشيبي في القدس وبقية المناطق على سبيل المثال)، ومن حيث ظهور نخب جديدة في الفضاءات الاقتصادية والحزبية والإعلامية.
ثالثاً: من النكبة إلى النكسة
وهي الحقبة الممتدة من عام 1948 وحتى عام 1967، وفيها حدثت تغيّرات جوهرية في أدوار العائلات الفلسطينية، حيث انتهت تلك الأدوار تقريبًا في معظم فلسطين التاريخية بفعل إقامة دولة إسرائيل عليها (78% من مساحة البلاد)، وبفعل التهجير القسري لمعظم الشعب الفلسطيني (أكثر من 800 ألف من أصل مليون و400 ألف). وقد شهدت هذه الحقبة ظهور قضية اللاجئين الفلسطينيين الذين لعبوا أدوارًا مركزية في الحياة السياسية الفلسطينية في مخيمات اللجوء في الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل تراجع دور العائلات الإقطاعية التقليدية، باستثناء أدوار أقل وأقرب إلى الرمزية لبعض العائلات.
رابعاً: الحكم العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة
في هذه الحقبة الممتدة من عام 1967 وحتى عام 1994، عادت العشائر والعائلات لتأدية أدوار متعددة ومهمة، وذلك بحكم الخضوع المباشر للاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي عمل من البداية على تطوير نهج السلطات البريطانية في توظيف قادة العائلات الفاعلة ضمن منظومة الحكم بدرجات متفاوتة، إذ ساهمت في استقرار الأوضاع الأمنية والاجتماعية في مناطق الحكم العسكري الإسرائيلي.
ورغم أن تلك السياسات الإسرائيلية لم تحقق نجاحًا حاسمًا في هذا السياق، بفعل التحولات الجذرية في أدوار العائلات لصالح العشائر ذات الأصول البدوية، وعائلات اللاجئين، ومن بقي من رموز العائلات التقليدية في الضفة الغربية ممن كانوا أقرب لمنظمة التحرير الفلسطينية أو الحكومة الأردنية، إلا أنّ رموز بعض العائلات لعبت دورًا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل مستقل عن القيادتين الفلسطينية والأردنية، خاصة في فترة تأسيس "روابط القرى" في عام 1978 من قبل الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة (عائلات دودين في الخليل، والخطيب في رام الله، وقمصية في بيت لحم، وصوالحة في نابلس، والحنتولي في جنين، وعودة في قلقيلية)، لكنّ ذلك الدور تراجع كثيرًا في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بفعل ضغوط القيادتين الفلسطينية والأردنية، وتلاشى تمامًا مع تفجّر الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987.
كان الوضع في قطاع غزة مختلفًا نسبيًا، وذلك لأسباب تعود أساسًا إلى النسبة المرتفعة لعائلات اللاجئين التي تقطنه (حوالي 70%)، بالإضافة إلى عدم شمول القطاع بمشروع "روابط القرى" الذي تبنّته إسرائيل في الضفة الغربية. هذا السياق الخاص أفرز أربعة مستويات متباينة من الأدوار التي أدّتها العشائر والعائلات الغزية خلال فترة الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر، وهي:
أولاً: مستوى الدور الوطني المنخرط في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر، عسكريًا وسياسيًا، كما برز في عائلات اللاجئين، وعائلات عبد الشافي، وبسيسو، وحلس، والصوراني، والآغا، وعدوان، وغيرها من العائلات التي ساهمت في تأسيس وقيادة الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، خاصة حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية.
ثانياً: مستوى الدور الاقتصادي والاجتماعي (الواقعي/الوسطي) الذي حافظ على علاقات جيدة مع الحركة الوطنية دون أن يتخذ موقفًا مناهضًا لإسرائيل، كما برز في عائلات الشوا، ومرتجى، كالدور السياسي والاجتماعي الذي لعبه رشاد الشوا (1909–1988) رئيس بلدية غزة الأسبق، والدور الاقتصادي الذي لعبته شركات عائلة مرتجى، وغيرها.
ثالثاً: مستوى الدور الاجتماعي البعيد عن السياسة، الذي اكتفى بالحفاظ على أدوار تقليدية في إطار الإصلاح والالتزام بالقيم المتوارثة والخدمة العامة، كما برز في دور العشائر ذات الأصول البدوية ووجهائها وزعمائها، وكما ظهر بدرجة أقل في دور بعض "المخاتير" الذين حافظ بعضهم على علاقات جيدة نسبيًا مع الإدارة المدنية الإسرائيلية، كما في تجربة "مجلس المخاتير" بزعامة المختار موسى أبو شعبان عام 1967.
رابعاً: مستوى التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر، والذي اقتصر على بعض العائلات الصغيرة أو بعض الأفراد من العشائر البدوية في غزة وسيناء، والذين تم جمع معظمهم في قرية الدهنية التي أسسها الحكم الإسرائيلي في غزة عام 1977. وهؤلاء لم يكن لهم أي نوع من الحضور الاجتماعي، ولو النسبي، بل كانوا يعانون من اتهامهم بالعمالة لإسرائيل.
التركيبات الاجتماعية في القطاع وعلاقتها مع حركة حماس
بعد نهاية حقبة الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر للضفة الغربية وقطاع غزة، أدركت السلطة الفلسطينية فور تأسيسها في العام 1994 أهمية الدور الذي تلعبه العشائر والعائلات في المجتمع الفلسطيني، إذ أصدرت السلطة الفلسطينية من البداية القرار رقم (161) لسنة 1994 القاضي بإنشاء "إدارة شؤون العشائر" التابعة لمكتب الرئاسة، وهو ما أدركته أيضًا حركة حماس بعد سيطرتها على قطاع غزة في العام 2007، إذ أسست الإدارة العامة لشؤون العشائر والإصلاح التابعة لوزارة الداخلية لحركة حماس عام 2008. ولاحقًا، أصدرت السلطة الفلسطينية القرار رقم (89) لسنة 2012 بشأن إنشاء وتشكيل الهيئة العليا لشؤون العشائر بالمحافظات الجنوبية في قطاع غزة – تم حلها بمرسوم رئاسي عام 2019 – كهيئة تابعة بشكل مباشر لرئيس السلطة في الضفة، وتقوم بمهام (فضّ المشاكل والنزاعات بين الناس من خلال البتّ فيها واتخاذ الإجراءات اللازمة لإنهائها).
في الواقع، شرعت حركة حماس، منذ توليها السلطة في قطاع غزة، في إعادة تشكيل المشهد الأمني والاجتماعي بما يضمن لها السيطرة المركزية على الحكم، بعد أن وجدت نفسها أمام تشكيلات اجتماعية تتداخل فيها الانقسامات السياسية مع توازنات عشائرية وطبقية راسخة، ومكونات تقليدية امتلكت نفوذًا اجتماعيًا وتسليحيًا مستقلًا عن الفصائل، ما دفع حماس إلى تبنّي استراتيجية مزدوجة تقوم على القمع العسكري من جهة، والدمج والاحتواء المؤسسي المحكوم من جهة أخرى. ولفهم طبيعة العلاقة وحدود التفاعل أو التصادم ما بين البنى الاجتماعية ومنظومة حكم حماس ما قبل الحرب، يمكن تقسيم التكوينات الاجتماعية إلى عدة مستويات من حيث الحضور الاجتماعي في القطاع، وهي:
أولاً: عشائر تقليدية ذات امتدادات قبلية وبدوية
تمثّل العشائر ذات الجذور البدوية، وخصوصًا تلك التي لها امتدادات في سيناء والنقب وجنوب الضفة الغربية، كعشائر الترابين والعزازمة، وهي كتلة سكانية محافظة ذات تأثير متزايد جنوبًا في مناطق مثل رفح وشرق خان يونس. ولم تدخل هذه العشائر في مواجهة مباشرة مع حركة حماس وحكومتها. ورغم ذلك، فقد اُتّهم ياسر أبو شباب، المنحدر من عشيرة الترابين، بالتعاون مع إسرائيل من خلال تلقي دعم لإنشاء ميليشيا مسلحة، عُرفت باسم "القوات الشعبية"، وتنشط في المناطق الشرقية من رفح. وقد دفعت التهم له بالعمالة مع إسرائيل عشيرته "الترابين" إلى التبرؤ منه في بيان لها.
ثانياً: العائلات الحضرية
يبرز في القطاع عائلات حضرية برجوازية أو من الطبقة الوسطى، مثل الشوا، والشنطي، والصوراني، والريّس، والقدوة، وغيرها، وغير المرتبطة بعشائر، إلا أنها شكّلت جزءًا من النخبة المدنية قبل نكبة 1948، كما لعبت أدوارًا اقتصادية وإدارية بارزة دون انخراط مباشر في الصراعات المسلحة أو الاستقطاب الأيديولوجي. وأسست عائلة الشوا، مثلًا، مؤسسات اقتصادية كبرى، أبرزها بنك فلسطين عام 1960. ورغم هذا النفوذ الاقتصادي، بقيت هذه العائلات محايدة دون أدوار سياسية في ظل حكم حماس.
ثالثاً: العائلات الكبيرة
وهي عائلات ريفية أو شبه ريفية في الغالب، وذات امتدادات حزبية وفصائلية، كعائلات حلّس، والأسطل، والمصري، ودغمش. وبخلاف العائلات الحضرية، دخلت حماس في صدامات مسلّحة مع بعض هذه العائلات، كدغمش وحلّس، فقد خاضت الحركة مواجهات مسلّحة مع عائلة دغمش في عامي 2007–2008، ما أدى إلى مقتل أفراد منها. وكانت العائلة تتزعم فصيلًا مسلحًا متحالفًا مع تنظيم القاعدة، وهو "جيش الإسلام" بقيادة ممتاز دغمش، وارتبطت بأنشطة تهريب الأسلحة. وفي مارس 2024، أفادت تقارير بإعدام حماس مختارًا من عائلة دغمش باتهامه بسرقة المساعدات وبيعها بالتعاون مع إسرائيل.
كما شكّلت عائلة حلّس أحد أبرز التحديات الأمنية لحماس، نظرًا لانتمائها التقليدي لحركة فتح، وقد اندلعت مواجهات مسلحة في حي الشجاعية بين عناصر العائلة وقوات حماس في عام 2008.
رابعاً: عائلات اللاجئين
وهي تشكّل حوالي 70% من مجموع سكان قطاع غزة، كعائلات البطراوي، والشيخ، والنجار اللاجئة من مدينة أسدود، وعائلات المدهون، وزقّوت، والسنوار اللاجئة من مدينة المجدل (عسقلان)، وعائلات السعافين، والجبالي اللاجئة من الفالوجة، وعائلات المقادمة، وأبو شمالة، والمشهراوي اللاجئة من قرية بيت دراس، وغيرها من العائلات.
خامساً: الشخصيات الاعتبارية التقليدية (المخاتير والوجهاء المحليين)
عملت حماس على استيعاب منظومة الوجهاء والمخاتير التي حافظت على حضورها الاجتماعي منذ عهد السلطة الفلسطينية، بوصفها رموزًا محلية مرجعية في المسائل والقضايا الاجتماعية، من خلال دمجهم ضمن أطر رسمية محدودة الصلاحيات، مع الإبقاء على غالبية المخاتير رغم موالاة معظمهم لحركة فتح. ففي عام 2008، أنشأت ما سُمّي بـ"إدارة شؤون العشائر والمصالحة الاجتماعية" ضمن وزارة الداخلية، وأُسندت إليها مهام فضّ النزاعات وإدارة شؤون الإصلاح الأهلي تحت إشراف مباشر من الأجهزة الأمنية. وقد جرى تعيين "لجان إصلاحية" تابعة للحركة لضبط هذا الدور وتشديد الرقابة عليه، لخفض استقلاليته في مجال القضاء التقليدي دون اللجوء إلى التفكيك الكامل. كما استعانت الحركة ببعض الوجهاء المحليين في توزيع الخدمات الاجتماعية والإغاثية والصحية، ليس بوصفهم وسطاء ضمن جهازها الإداري. أما خلال الحرب الحالية، فقد أنشأت الحركة في نوفمبر 2024 وحدة شرطية جديدة تُعرف باسم وحدة "سهم"، تضم أفرادًا من جهاز الأمن الداخلي وأعضاء عشائريين (بالتعاون مع لجان عشائرية محلية)، مهمتها دعم النظام الداخلي وحماية المساعدات.
التكوينات المجتمعية كفاعل مستقل في ظل الانهيار
برز في المقابل من الانهيار شبه الكامل لأجهزة الحكم في قطاع غزة، أنماط من الفاعلية المجتمعية غير الرسمية، التي حاولت ضمن ما يمكن تسميته بـ "الإدارة من الأسفل"، أداء أدوار ذات صلة في تسيير الشؤون المدنية من خدمات وتوزيع الموارد والمساعدات الإنسانية، ومنها:
أولاً: اللجان الشعبية والعشائرية
شكّلت اللجان الشعبية والعشائرية، خاصة في شمال غزة، محورًا رئيسًا في محاولات إعادة تنظيم الحياة اليومية، خاصة خلال فترات الحصار وسيطرة الجيش الإسرائيلي على معابر القطاع. فقد تولّت هذه اللجان تأمين المساعدات وتوزيعها، خاصة في ظل انسحاب المنظمات الإنسانية الدولية من مناطق الشمال. ورغم ذلك، كانت هذه اللجان عرضة مباشرة للاستهداف؛ إذ قُتل العشرات من أعضائها في غارات إسرائيلية خلال تنسيقها لدخول المساعدات، ما دفعهم إلى تعليق العمل مؤقتًا في مارس 2024. ومع اشتداد حالات نهب وسرقة المساعدات، تمكنت هذه اللجان بعد شهور من تأمين بعض شاحنات المساعدات في يونيو 2025.
ثانياً: المبادرات الأهلية -شبكات مساندة ذاتية
بالتوازي مع جهود اللجان، نشأت مبادرات أهلية مستقلة تستند إلى الحاجات المباشرة للسكان، والتي تركزت على توفير الغذاء ومطابخ الوجبات اليومية، خاصة في مناطق شمال القطاع. وغالبًا ما تتلقى هذه المبادرات دعمًا ماليًا عبر ترويج أنشطتها على الإنترنت، وتقدّم خدماتها لعينة من المواطنين، وفي حالات معينة للآلاف من العائلات والنازحين.
ثالثاً: اللجان التنظيمية في مخيمات النزوح
مع تصاعد أعداد النازحين وتوسع المخيمات، نشأت مئات اللجان المحلية داخل هذه التجمعات، لتسيير شؤون السكان، وتوزيع الموارد، وتنظيم العلاقة مع المنظمات الإغاثية. ووفق تحديث صادر عن OCHA في يونيو 2025، فإن أكثر من 682 ألف نازح يعيشون في مخيمات مكتظة، يُشرف على إدارتها جزئيًا لجان مجتمعية تتألف من سكان المخيم أنفسهم، وتلعب هذه اللجان دورًا في إشراك المجتمع المحلي في مواقع النزوح، مما يضمن تمثيل الفئات المهمشة، والضعيفة، وتزويدها بالإمدادات، والخدمات.
الشبكات التقليدية وإدارة السكان في مرحلة ما بعد حماس
يعمل الانهيار التام لمؤسسات الحكم في قطاع غزة على ظهور ملامح تحولات في البنية الاجتماعية المحلية، تميل نحو إعادة تفعيل شبكات تقليدية عشائرية وعائلية كبدائل "إدارية" مؤقتة، تحت ضغط الحاجة الإنسانية وانهيار المؤسسات التابعة لحركة حماس في القطاع، وما أعقبه من حالة الفراغ الأمني والخدمي، والذي بدأ يُملأ بصورة متقطعة من قبل فاعلين محليين غير رسميين.
هذا الدور لا يُعبّر بالضرورة عن صعود العشائر كقوى بديلة عن الحكم، بقدر ما يُترجم عودة "الروابط الأولية" التي تنشط عادة في لحظات الانهيار المجتمعي، حيث تنتقل بعض وظائف الدولة أو السلطة المركزية إلى الفواعل الاجتماعية بفعل حالة الطوارئ وغياب البديل المنظَّم، بهدف ضبط السلوك العام، وتسيير الخدمات اليومية الأولية، والتي تبرز في حالة القطاع في العمليات الإغاثية وتوزيع المساعدات الإنسانية.
لكن هذا الواقع لا ينفصل عن حسابات السياسة الإسرائيلية وأهدافها، إذ تتقاطع هذه التحولات مع توجّه إسرائيلي واضح يسعى إلى تشجيع "نموذج روابط قرى" جديد في غزة، شبيه بالذي فُرض في الضفة الغربية خلال السبعينيات، والذي يقوم على توظيف تكوينات اجتماعية محلية (عشائر، وعائلات، ووجهاء محليين) كأطر إدارة مدنية منزوعة الصفة السياسية، تحت هدف إدارة الأزمات والخدمات، ودون تقديم بديل سياسي منظَّم، والتي مثّلت حينها نموذجًا عمليًا لإدارة مناطق فلسطينية في ظل السيطرة الإسرائيلية المباشرة.
ويبدو أن الجنوب، وتحديدًا مناطق رفح، يمثّل ساحة اختبار مبكّرة لهذا التوجّه، نظرًا لوجود عشائر لها امتدادات عبر الحدود، وبعضها له علاقات سابقة أو حالية مع إسرائيل أو السلطة الفلسطينية أو أطراف عربية، ما قد يسمح باستخدامها كوسيط محلي في ترتيبات أمنية أو خدماتية مستقبلية في المرحلة الانتقالية. حيث بدأت مؤشرات ظهور محاولات تشكّل وحدات مدنية محلية في بعض مناطق القطاع، لا سيما في جنوبه، إذ رغم الرفض العشائري للتنسيق مع إسرائيل، واصلت الأخيرة العمل على تمكين مجموعات اجتماعية ميدانيًا، حيث أشار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في يونيو 2025 إلى أن حكومته بدأت فعليًا تفعيل بعض العشائر المعادية لحماس في غزة وتسليحها كجزء من استراتيجية المواجهة، وبما يتيح تقليل خسائر الجيش الإسرائيلي. وقد تمثّل ذلك واقعيًا في دعم إسرائيل لميليشيات (أفراد مسلحين) مثل "القوات الشعبية" بقيادة ياسر أبو شَبّاب لتوسيع نفوذها في رفح والمشاركة في توزيع المساعدات.
هذا الاستخدام لا يعني تمكينًا فعليًا للعشائر، بل هو أقرب إلى منطق "التوظيف دون التمكين"، حيث تُمنح بعض المجموعات قدرة رمزية ومادية محدودة مقابل أدوار إجرائية مدنية، من دون السماح لها بتشكيل قاعدة سلطة أو بنية سياسية بديلة؛ إذ لا تهدف إسرائيل لبناء منظومة حكم عشائري بقدر ما تهدف إلى توظيف وسطاء ميدانيين-محليين، قادرين على تجنيب الجيش الإسرائيلي عبء المهام الشرطية والاحتكاك المباشر مع المجتمع السكاني الذي يعيش حالة انهيار غير مسبوقة.
في هذا السياق، قد نشهد محاولات لإضفاء شرعية على هذه الفواعل المحلية عبر دعمها اللوجستي من منظمات دولية أو عبر قنوات الإغاثة، دون أن يكون ذلك ضمن إطار إداري موحد على امتداد القطاع، بل وفق منطق الإدارة اللامركزية الذي يسهل التحكم به وتوجيهه.
وأخيراً، رغم أنّ هذا السيناريو يفتقر إلى المقومات المستدامة، نظرًا لغياب بنية مؤسسية لدى هذه التكوينات، واعتمادها على شرعية تقليدية جزئية أساسها الحاجة الإنسانية التي يفرضها الأمر الواقع، إلا أنه يعكس اتجاهًا واقعيًا يعيد تعريف الفاعلية الاجتماعية، ليس بوصفها بديلًا سياسيًا، بل كفاعل انتقالي في حالة انهيار السلطة المركزية، انطلاقًا من القاعدة الاجتماعية. وهو الأمر الذي حصل نسبيًا في الدور الذي قامت به العشائر في قطاع غزة في حقبة الحكم العسكري المباشر (1967–1994)، أي الدور الاجتماعي البعيد عن السياسة، الذي اكتفى بالحفاظ على أدوار تقليدية في إطار الإصلاح، والالتزام بالقيم المتوارثة، والخدمة العامة، بموازاة الأدوار التي قامت بها العائلات الأخرى. وهو ما ظهر كمساحة أمان وسط التجاذبات الداخلية من جهة، والصراع مع الحكم العسكري الإسرائيلي من جهة أخرى، وهو ما يمكن أن يتطوّر إلى دور شبيه، لكن ليس متطابقًا، بحكم اختلاف المعطيات وتغيّر الفاعلين، واحتمالات مشاركة أطراف أخرى تمثّل شرائح اجتماعية حديثة العهد في هذا الانتقال.

ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات