سيناريوهات التصعيد الهندي الباكستاني

تقف الهند وباكستان على حافة مواجهة عسكرية جديدة، بعد الهجوم المسلح في كشمير الذي أشعل موجة من الإجراءات الانتقامية المتبادلة، حيث لم تعد الأزمة محصورة في نطاقها الإقليمي، بل تشابكت مع التنافس الدولي بين الولايات المتحدة والصين؛ حيث تتحالف الهند استراتيجيًا مع واشنطن، فيما تُعد باكستان شريكًا رئيسًا لبكين. ونتيجة لذلك، تجد الدولتان أنهما أمام خيارين: إما حرب استنزاف تهدد استقرار المنطقة، أو تصعيد عسكري محدود يُفضي إلى تهدئة مؤقتة.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ٠٦‏/٠٥‏/٢٠٢٥

يتصاعد التوتر بين باكستان والهند بعد أن تبادلت الدولتان الإجراءات العقابية والانتقامية ضد بعضهما البعض، ثم اندلاع اشتباكات عسكرية منخفضة الكثافة بين قوات الدولتين على خط السيطرة الحدودي. يأتي ذلك في أعقاب الهجوم المسلح الذي وقع في 22 أبريل 2025 في منطقة باهالجام الخاضعة للإدارة الهندية من كشمير، وأعلنت جماعة مسلحة تُطلق على نفسها "مقاومة كشمير" والمرتبطة بجماعة "لشكر طيبة" الباكستانية مسؤوليتها عنه. وفي الواقع، فإن قراءة النزاع الحدودي بين الدولتين ضمن إطار السياقات الجيوسياسية الأوسع ومشهد النظام الدولي تُحيل إلى حصر مسار التصعيد الحالي أمام سيناريوهين؛ فإما أن يمتد التوتر ليتحوّل مع مرور الوقت إلى حرب استنزاف نتيجة ضغوط مركّبة يمارسها الطرفان، وإما أن يتجه التصعيد إلى خوض معركة حدودية محدودة النطاق تؤدي إلى تهدئة دون حل جذور النزاع.

جولة جديدة من النزاع الحدودي بين الدولتين

اتهمت الهند باكستان بالضلوع في الهجوم الذي شنّه مسلحون في الشطر الخاضع لسيطرة الهند من كشمير، وهو الاتهام الذي نفته باكستان التي تُطالب بإجراء تحقيق دولي محايد. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت الإجراءات العقابية والانتقامية التي اتخذتها الدولتان ضد بعضهما البعض؛ إذ سارعت الهند إلى إغلاق مجالها الجوي أمام الطيران الباكستاني، وإغلاق معبر أتاري-واغاه الحدودي، وطرد الدبلوماسيين الباكستانيين، وإلغاء التأشيرات الممنوحة لمواطنيها في الهند، كما أعلنت عن تعليق معاهدة مياه نهر السند الموقعة بين البلدين منذ عام 1960. في المقابل، ردت باكستان بإجراءات انتقامية، منها تعليق اتفاقية السلام "شيملا" لعام 1972، وطرد دبلوماسيين، وإلغاء تأشيرات، بالإضافة إلى إغلاق مجالها الجوي أمام الطيران الهندي ووقف التجارة مع الهند.

يُمثل هذا التوتر امتداداً للنزاع الحدودي بين الدولتين، والذي يعود تاريخه إلى عام 1947، حينما قُسّمت الهند البريطانية إلى دولتين مستقلتين (الهند وباكستان)، ووضعت كشمير تحت الحكم الهندي، لتندلع أولى الحروب بين الدولتين عام 1949، والتي أدت إلى تقسيم كشمير إلى منطقتين؛ جزء خاضع للسيطرة الهندية، وآخر للسيطرة الباكستانية. لتتوالى بعدها جولات الحرب والتصعيد بين الدولتين، من بينها الحرب الثانية عام 1965، ثم حرب عام 1999.

في الواقع، تُعد النزاعات الحدودية المنتشرة في محيط منطقة آسيا من أكثر القضايا تعقيداً وتشابكاً، إذ تتداخل فيها الجوانب الجغرافية مع الأطر السياسية والدينية والعرقية، ما يجعلها توترات قائمة ومتجددة من حين إلى آخر، وتُنذر أحياناً ببلوغ تلك الدول "حافة الحرب"، حيث إن الترسيم الحدودي يعود إلى الانتداب البريطاني الذي لم تعترف به الدول المستقلة لاحقاً، كما تنتشر فيها الجماعات المسلحة المعارضة، وتتبنى كل دولة في المنطقة أهدافاً استراتيجية وجيوسياسية خاصة بها، وتنعدم الثقة فيما بينها. فمثلاً، شهد عام 2024 سلسلة من الاشتباكات والتوترات الأمنية بين باكستان وأفغانستان نتيجة الخلاف بينهما حول ترسيم النقاط الحدودية، وفي العام نفسه تبادلت باكستان وإيران القصف وسحب كل دولة بعثاتها الدبلوماسية، بعد أن اتهمت إيران جماعة معارضة في الشطر الباكستاني من إقليم بلوشستان بتنفيذ تفجيرات كرمان في 3 يناير. كما تجددت الحرب الأرمنية الأذربيجانية حول إقليم ناغورنو قرة باغ، قبل أن تسيطر عليه أذربيجان في 20 سبتمبر 2023. وفي الجانب الآخر، اندلعت مواجهات بين الجيشين الصيني والهندي في وادي غالوان الحدودي في يونيو 2020، أسفرت عن قتلى من الجانبين للمرة الأولى منذ 45 عاماً.

مع ذلك، ظهرت عوامل جديدة عدة أدت إلى تزايد التعقيدات حول النزاعات الحدودية، وفي حالة باكستان والهند، بدأت التوترات تأخذ منحى جديداً مع صعود التيارات القومية المتشددة في الهند منذ عام 2014، إذ وصل حزب بهاراتيا جاناتا -الذي يُنادي بالهوية القومية الهندوسية- إلى الحكم، وأصبح ناريندرا مودي رئيساً للوزراء، وقد ترافق ذلك مع طموحات توسعية وأدوار دولية، وبشكل وضع كشمير في صلب السياسات القومية الهندية. فقد ألغت الهند الحكم الذاتي لكشمير عام 2019، كما ألغت قوانين الإقامة الخاصة بكشمير التي يعود تاريخها إلى عام 1927، وزادت بذلك من تشديد القيود والسياسات الأمنية، خاصة بعد التفجير الانتحاري في الشطر الهندي من كشمير الذي استهدف عسكريين وأدى إلى مقتل 46 جندياً، ما دفع الهند في 26 فبراير 2019 إلى شن غارات جوية للمرة الأولى داخل باكستان منذ حرب 1971، بل وحدث اشتباك جوي بين طائرات الطرفين، ما أدى إلى إسقاط مقاتلات من الجانبين.

سيناريوهات-التصعيد-الهندي-الباكستاني-in-1.jpg

الصراع الجيوسياسي الأوسع بين القوتين

توسعت النزاعات الحدودية في آسيا عامة، وبين باكستان والهند خاصة، ولم تعد معزولة عن السياقات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. وأصبح فهم تلك النزاعات، وتقدير مساراتها، والتنبؤ بمستقبلها، يتطلب ربطها بالاستقطاب الجيواستراتيجي الأوسع بين الولايات المتحدة والصين لتحديد معالم النظام الدولي المقبل، لا سيما وأن كلاً من باكستان والهند يلعب دورًا هامًا، وربما رئيساً، في استراتيجيات القوتين الدوليتين.

فمن جهة، تُعتبر الهند رأس الحربة الأمريكية في تقويض التوسع الصيني المتنامي، سواءً خارج حدودها البرية أو البحرية، وذلك من خلال العمل متعدد الأطراف الذي تقوده واشنطن، أو عبر الشراكة الاستراتيجية الثنائية بين البلدين. إذ تُعدّ الهند جزءًا من تحالف "كواد"، الذي يضم اليابان وأستراليا إلى جانب الولايات المتحدة، والذي أُنشئ عام 2007.

ومع صعود حكومة رئيس الوزراء مودي، تسارع نشاط الهند في الإطار الاقتصادي والأمني الأمريكي على امتداد منطقة "الهندي-الهادي"، ففي عام 2016 وقّعت الهند مذكرة تفاهم للتبادل اللوجستي مع الولايات المتحدة، والتي تُتيح للجيش الأمريكي استخدام المنشآت العسكرية الهندية. وفي عام 2018، وقّع البلدان اتفاقية "توافق أجهزة الاتصال والأمن"، التي تُتيح للهند امتلاك تقنيات أمريكية عالية الحساسية. كما وقّعا في عام 2020 اتفاقية "التبادل والتعاون الأساسية" (BECA)، التي تُمكنهما من تبادل البيانات الجغرافية والمعلومات الاستخباراتية. وفي عام 2022، قامت الهند بتشغيل حاملة الطائرات الثانية لها، في إطار التنافس الهندي-الأمريكي مع الصين في منطقة الباسيفيك. وخلال عام 2023، أطلق قادة مجموعة العشرين في نيودلهي مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا"، في خطوة تهدف بها واشنطن إلى الضغط على مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.

في المقابل، ترتبط باكستان بعلاقات استراتيجية مع الصين، وتُعد ركيزة أساس في استراتيجية الصين الإقليمية والدولية، وخصوصًا في مبادرتها المعروفة باسم "الحزام والطريق". ففي عام 2015، وقّعت الدولتان اتفاقية "الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني" (CPEC)، الذي يربط بين الحزام الاقتصادي لطريق الحرير في الشمال وطريق الحرير البحري في الجنوب، ويمر عبر المناطق المتنازع عليها بين باكستان والهند في إقليم كشمير. كما تم توقيع "اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة" في العام ذاته، لتعزيز التعاون في مجالات الدفاع، والأمن، والطاقة.

سيناريوهات-التصعيد-الهندي-الباكستاني-in-2.jpg

وفي الواقع، ترى الصين مصلحة لها في إشغال الهند عند حدودها، ومنع توسعها في منطقة الباسيفيك. لكن هذا لا يعني أن الصين قد تُقدّم دعمًا لباكستان في حرب ضد الهند، أو أنها قد تؤيد اندلاع الحرب أصلاً؛ إذ رفضت بكين تقديم الدعم لباكستان في حربها مع الهند عام 1999. وهذا الموقف يتشابه إلى حد ما مع موقف الولايات المتحدة من التصعيد بين الطرفين، إذ لا يبدو أن واشنطن تصطف إلى جانب أي منهما، كما لا تبدو لديها الرغبة في اندلاع حرب جديدة في منطقة أكثر تعقيدًا من الشرق الأوسط، خاصةً أنه لم يمضِ أربع سنوات على انسحابها من أفغانستان عام 2021.

من جهة أخرى، وبينما تتشارك الصين مع كل من الهند وباكستان في مناطق السيطرة بإقليم كشمير، فإن لديها هي الأخرى تخوّفًا من الجماعات المسلحة المتطرفة هناك، خصوصًا ما يتعلق بارتباط تلك الجماعات بالإيغور، وتأثيرها المحتمل على المشاريع الاقتصادية الصينية في المنطقة، حيث تُعد أهدافًا رئيسة للمتطرفين. وقد شهد عام 2024 ارتفاعًا في عدد الهجمات ضد المصالح الصينية في باكستان، من أبرزها الهجمات على ميناء جوادر الباكستاني، الذي يُعتبر العصب الرئيس للممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، بالإضافة إلى التفجير الانتحاري في إسلام آباد، الذي أسفر عن مقتل خمسة مواطنين صينيين في مارس 2024. وفي الواقع، فإن اندلاع حرب في المنطقة قد يُعطل صعود الصين المتسارع، وقد يُدخل الولايات المتحدة في حالة استنزاف جديدة، بعد الحربين الدائرتين في أوروبا والشرق الأوسط.

التصعيد الباكستاني الهندي في إطار المنظور الأوسع

تقترب الدولتان من خوض حرب خامسة بينهما، والتي قد تُفضي -نظريًا- إلى نتائج محفزة لصعود الصين إلى قمة النظام الدولي، أو إلى بقاء الولايات المتحدة على سدته للمدى الطويل. غير أن اندلاع حرب بين باكستان والهند، عمليًا، يعني اضطرابًا واسعًا لا يقتصر على آسيا، بل يمتد إلى المجتمع الدولي بأسره. فمن جهة، لا يزال العالم يتعامل مع تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية منذ ربيع 2022، ثم مع آثار الحرب في قطاع غزة، في خضم الترتيبات الأمريكية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وموازين القوى فيه. وأكثر من ذلك، لا يزال العالم يجهل تبعات اندلاع حرب بين قوتين نوويتين؛ ففي حين اقتربت روسيا ولوّحت مرارًا باستخدام السلاح النووي ضد أطراف غير مباشرة في حربها، فإن استخدامه قد يصبح أمرًا واقعيًا في حال اندلاع صراع بين الهند وباكستان، بالنظر إلى التكافؤ النووي، وشدة التنافس، وتشعب الأطر المحيطة بالنزاع بينهما.

ومع ذلك، لا تُعدّ الحرب هدفًا لأيّ من الدولتين، نظرًا لنتائجها غير المتوقعة، في وقتٍ تعكف فيه كل دولة على معالجة قضايا أخرى لا تقل أهمية. فالهند، من جانبها، تسعى إلى تعظيم مكاسبها ضمن المشاريع الجيوسياسية العالمية، والتي تتطلب تحقيق الأمن الشامل على المدى الطويل لتيسير حركة البضائع بفعالية وسرعة. ومن هذا المنطلق جاء ردها على باكستان بعد الهجوم الأخير، كمحاولة لتكثيف الضغوط عليها في الأبعاد العسكرية والاجتماعية والاقتصادية، خاصةً بعد أن أدرجت ملف المياه -الأكثر حساسية- ضمن أدوات الضغط، حيث تعتمد باكستان على مياه الأنهار القادمة من الهند بنسبة تتجاوز 75% من إجمالي مواردها المائية.

في المقابل، ترى الهند أن خنق الصين اقتصاديًا، ومزاحمتها في المحيط الهندي، وفرض القيود على بحريتها وتجارتها، يُعدّ هدفًا استراتيجيًا مزدوجًا، إذ يتيح للهند التوسع على حسابها وحجز موقعها الاقتصادي والدولي، كما يُضعف باكستان التي تعتمد بشكل كبير على علاقاتها الاقتصادية مع الصين. أما باكستان، فإنها تواجه أزمات داخلية متراكمة تُقيد قدرتها على أي تصعيد خارجي أو دور هجومي فاعل، خصوصًا في ملف كشمير. فعلى الصعيد الاقتصادي، تُعاني البلاد من تراجع حاد في احتياطي النقد الأجنبي، وارتفاع في معدلات التضخم تجاوز 30%، وهو الأعلى منذ عقود.

سيناريوهات-التصعيد-الهندي-الباكستاني-in-31.jpg

لكن بالنظر إلى حدة التصعيد الحالي، فقد تجاوزت الأزمة قدرة الدولتين على إدارتها دبلوماسيًا، أو حتى على طلب الوساطة من قوى كبرى كالولايات المتحدة أو الصين، حيث يُشكّك كل طرف في حيادية الطرف الآخر، بل ويعتبره متورطًا -بشكل غير مباشر- في تصعيد الأزمة. وبناءً على ذلك، فإن هذه الأزمة تختلف نوعيًا عن سابقاتها، إذ تجاوزت مجرد النزاع الحدودي، وهو ما يضع التصعيد الحالي أمام سيناريوهين رئيسين: 

السيناريو الأول: حرب استنزاف وتوتر دائم

قد يتحوّل التصعيد إلى نزاع استنزافي طويل، وبخاصة ضد باكستان، التي تواجه ضغوطًا متصاعدة من الهند منذ عام 2019 في كشمير، وتوسعت هذه الضغوط في الأزمة الأخيرة لتشمل ركائز الأمن القومي الباكستاني، وعلى رأسها المياه. ويُعد ذلك تهديدًا مباشرًا للأمن المائي والغذائي، وبالتالي للأمن الاجتماعي، الذي يعاني بالفعل من هشاشة شديدة.

استمرار هذا النمط من الضغوط قد يدفع باكستان للتركيز على أزماتها الداخلية، والابتعاد عن الانخراط الفاعل في ملف كشمير، في حين تواصل الهند سياساتها الهادفة إلى تغيير التركيبة الديموغرافية هناك. إلا أن هذا الخيار لا يُلغي احتمالية الاشتباك، بل يُبقي التوتر قائمًا، ويضع الهند بدورها في بيئة إقليمية هشة، قد تعرقل طموحاتها وتستنزف مواردها، وإن بدرجة أقل. كما أن هذا السيناريو يعني تأجيل الحرب وليس تفاديها.

السيناريو الثاني: تصعيد عسكري يؤدي إلى تهدئة

قد تتطور الاشتباكات المحدودة إلى معركة تشمل القوات البرية والجوية، ضمن نطاق جغرافي ضيق على الحدود، دون أن تمتد إلى العمق الاستراتيجي للدولتين. تسعى الهند، من خلال هذا التصعيد المحسوب، إلى إيصال رسالة جدية إلى باكستان بشأن مطالبها، دون الانزلاق إلى حرب شاملة، وهو ما يتماشى مع خطاب الحكومة الموجه إلى الداخل.

في المقابل، قد تجد باكستان نفسها مضطرة لخوض مواجهة محدودة، لتثبيت خطوطها الحمراء في ملف المياه، الذي بات يُعتبر مسألة وجودية. وبذلك، يكون استخدام المياه كسلاح مكلفًا جدًا على المدى البعيد. ومن جانب آخر، قد يدفع هذا التصعيد القوى الدولية -خاصة الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي- إلى التحرك دبلوماسيًا بهدف إعادة الاستقرار النسبي، وإن كان هشًا، إلى المنطقة.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات