رسالتي الثالثة إلى إخوتنا الشيعة العرب: نداء العقل والواقع

أجدّد ندائي الصادق إلى إخوتنا من الشيعة العرب: ليكن انتماؤكم إلى أمتكم العربية، وليتقدّم ولاؤكم لوطنكم على أي ولاء حزبي أو خارجي. واجهوا التحديات الراهنة بروح الشجاعة والمسؤولية، فقد آن الأوان أن تقولوا: كفى.. كفى خسائر متتالية أنهكتكم وأرهقت أوطانكم. أعيدوا النظر بصدق، وابتعدوا عن مشروع لم يجلب لكم ولشركائكم في الوطن سوى الدماء والدمار والويلات.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٢٣‏/٠٩‏/٢٠٢٥

يمرّ الشيعة العرب اليوم بمرحلة فارقة في تاريخهم السياسي والاجتماعي، تُعدّ من أكثر المحطات تعقيداً وحساسية. فالتحولات الإقليمية والدولية التي أعقبت أحداث السابع من أكتوبر أفرزت واقعاً جديداً، أبرز ملامحه انحسار النفوذ الإيراني الذي قدّم نفسه لعقود باعتباره الحامي والمدافع عن مصالحهم. ومع هذا التراجع، يجد الشيعة العرب أنفسهم أمام امتحان مصيري يفرض إعادة ترتيب أولوياتهم الداخلية، والاعتماد بصورة أكبر على قواهم المحلية التي تعاني بدورها من التهميش والضعف.

وانطلاقاً من رؤية تحليلية متأنية، أجدّد دعوتي للنخب والفاعلين من الشيعة العرب إلى ضرورة إعادة وصل ما انقطع بجذورهم العربية وانتمائهم الوطني، وتكريس حضورهم داخل إطار الدولة الوطنية. فهذا الخيار وحده ما يضمن لهم الاستقرار والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل يقوم على المواطنة والانتماء العربي، دون أن يمسّ خصوصيتهم المذهبية أو يقطع صلتهم بمرجعياتهم الدينية.

العودة إلى البدايات ونداء العقل والواقع

أعادت كلمة الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، في 19 سبتمبر 2025، إلى ذاكرتي نصيحتي القديمة والمتكررة لإخوتنا الشيعة العرب: أن طريق المستقبل الآمن يكمن في الاندماج الصادق مع محيطهم العربي، وفي مقدّمته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن، بوصفها ركائز الاعتدال والاستقرار في المنطقة.

كنت قد عبّرت عن هذه القناعة بوضوح في أكثر من مناسبة، منها مقالي في صحيفة العرب اللندنية ومعهد ستراتيجيكس تحت عنوان: "خطة لاحتواء حزب الله حزباً مدنياً بهوية عربية!"، وكذلك في مقال آخر نشرته في النهار العربي بعنوان: "أعيدوا إخوتنا الشيعة إلى عروبتهم".

وفي مقالي المنشور في 22 مارس 2022 على صحيفة العرب اللندنية ومعهد ستراتيجيكس، شددت على أهمية إقناع حزب الله بفتح قنوات حوار جادّة مع الأطراف العربية، والعمل السياسي كممثل لشريحة واسعة من الشعب اللبناني. فقد أكدت حينها أن اللبنانيين لا يحتاجون إلى السلاح ليُعبَّر عنهم أو ليُصان حقّهم، وأن هذا ينطبق على أنصار حزب الله وقاعدته الشعبية التي تستطيع أن تشعر بالأمان متى ضُمنت لها حقوقها في إطار الدولة. كما أوضحت ألا أحد في لبنان يرغب في توريث الحرب الأهلية للأجيال القادمة بعد أن تلاشت أسبابها، خاصة مع تزايد المؤشرات على عجز إيران عن الاستمرار في دعم حزب الله أو اضطرارها للابتعاد عنه، سعياً وراء مكاسب دولية محتملة من أي اتفاق نووي مستقبلي.

وفي ذات المضمار، كتبت في مقالي الثاني على صفحات صحيفة النهار اللبنانية بتاريخ 21 أكتوبر 2024، أن تمسّك إيران بأذرعها المسلحة في لبنان وسائر المنطقة يظلّ رهناً بحساباتها التكتيكية، بينما يبقى هدفها الاستراتيجي الأعمق هو صون "تحالفها" طويل المدى مع المكوّن الشيعي العربي. كما أشرت إلى أن "الخمينية" نجحت في ترسيخ معادلة خطيرة، تقوم على الدمج بين الانتماء المذهبي والولاء السياسي لإيران، وتصوير الخلافات مع أشقاء الوطن من الطوائف الأخرى على أنها صراع وجودي لا مفرّ منه. غير أن هذه الرؤية لم تعد ضرورية في المرحلة المقبلة، بل إنها لن تخدم أيّاً من الطرفين. فالمنطقة لم تجنِ من الترويج للإسلام السياسي ـ بنسخته الشيعية اليوم بعد تعثّر نسخته السنية بالأمس ـ سوى المزيد من الانقسام والتوتر.

الاستحقاق الآني: الدولة الوطنية أو لا شيء

منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، سعت طهران إلى تقديم نفسها كحامية للمستضعفين، وفي مقدمتهم الشيعة العرب. لكن هذا الدور لم يبقَ في إطار الشعارات والخطاب، بل تجسّد في مشروع منظّم هدفه تسييس الهوية المذهبية للشيعة العرب، وفصلهم عن فضائهم الوطني والعربي. وقد ظهر ذلك جلياً في تأسيس ورعاية عشرات، وربما مئات، الفصائل المسلحة التي اتخذت من الشيعة العرب قاعدتها البشرية الرئيسة.

وبهذا تحوّل الدور الإيراني من داعمٍ للمجتمعات الشيعية إلى وصيٍّ سياسي وأمني، أعاد تشكيل واقعهم وربطه بمسار مشروعها الإقليمي الأوسع. غير أن هذا المشروع لم يعد بمنأى عن التغيير، بفعل التحولات الإقليمية والدولية الجارية. وإذا ما قررت إيران التكيّف مع هذه المعطيات الجديدة، فإنها ستبعث برسالة إيجابية للعالم العربي والإسلامي، بل وللمجتمع الدولي أيضاً، مفادها دعمها لفكرة الدولة الوطنية. وحينها سيكون المكسب مضاعفاً: لإيران نفسها من جهة، ولإخوتنا الشيعة العرب من جهة أخرى، عبر استقرارهم واندماجهم في دولهم على أسس راسخة من المواطنة.

لا سيما أنه لا يمكن لذاكرة المنطقة السياسية أن تتجاهل بسهولة النهج الإيراني الذي امتد لعقود، ممهوراً بسلسلة من الأحداث والهزات الجيوسياسية الكبرى؛ بدءاً من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، مروراً بتحولات "الربيع العربي" عام 2011، وصولاً إلى الحرب الدائرة اليوم في قطاع غزة. وقد أفرزت هذه الحرب – بالفعل- واقعاً بالغ التعقيد على مستوى الإقليم بأسره، وكانت إيران في مقدمة المتأثرين به، إذ فقدت جزءاً مهماً من قوتها الداخلية والخارجية، وبات واضحاً أنها مضطرة إلى مراجعة مواقفها وسياساتها تجاه دول المنطقة والعالم.

فالوعود السياسية والمشاريع الإقليمية التي روّجت لها طهران طوال عقود تكشّفت هشاشتها أمام صدمة الحرب. وقد انعكس ذلك بجلاء على أبرز أدواتها، أي "حزب الله" اللبناني، الذي مُني بخسائر قاسية تمثّلت في انهيار جانب من بنيته القيادية التاريخية، وتآكل قدراته الصاروخية، فضلاً عن تراجع نفوذه السياسي في الساحة اللبنانية.

وتؤكد هذه الوقائع أنّ إيران اعتمدت طويلاً على سياسة تصدير أزماتها ونقل معاركها إلى خارج حدودها، لتتفادى دفع أثمان بشرية مباشرة، على حساب الدماء والأرواح العربية. غير أنّها اليوم بدأت تذوق شيئاً من المحن والمعاناة نفسها التي حمّلتها لإخوتنا من الشيعة العرب على امتداد المنطقة.

فعلى إيران -الآن- أن تعي أن الاحتفاظ بخطابها الأيديولوجي التقليدي، المعادي للولايات المتحدة وإسرائيل، لم يعد مجدياً في زمنٍ بات المشروع الأمريكي–الإسرائيلي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على أساس إنهاء ظاهرة الميليشيات أمراً واقعياً وملموساً. غير أن طهران لا تزال، بفعل حسابات داخلية وخارجية، تتجنب الاعتراف العلني بهذه الحقيقة، تاركة وراءها ملايين الشيعة العرب يواجهون مصيرهم وحدهم، في وقت تتراجع فيه القوى المحلية التي استندوا إليها تدريجياً. إن استمرار هذا الوضع يهدد، في لحظة سياسية قادمة، بتحويل هذا المكوّن الواسع إلى جماعة بلا تمثيل فعّال ولا وزن حقيقي في معادلات دولهم الوطنية.

ويمثّل هذا الواقع، في جوهره، وتنبيهاً ونذيراً موجَّهَين إلى الشيعة العرب بضرورة إعادة قراءة التحوّلات الراهنة، وتقدير مآلاتها، واستشراف مساراتها المستقبلية. ومن هذا المنطلق، تبدو العودة إلى الفضاء الوطني والعربي الخيار الأجدر بالاعتبار، لما ينطوي عليه من قدرة على تأمين الحماية، وصيانة الحقوق، وضمان التمثيل العادل والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية، بعيداً عن الارتهان لمشاريع عابرة للحدود ثبت قصورها وتداعياتها السلبية.

محور المقاومة إلى أفول: الفكرة والتطبيقات

تدلّ تداعيات الحرب في قطاع غزة، سواء من حيث آثارها المباشرة المتمثلة في نزوح الغالبية العظمى من سكان القطاع، أو في انعكاساتها الإنسانية الكارثية التي تهدد بالمجاعة وتحوّل غزة إلى مساحة يطغى عليها الموت والدمار، على محدودية وفشل استراتيجية ما يُسمى بـ"محور المقاومة". فقد كشفت هذه الحرب بجلاء قصور نموذج "المقاومة المسلحة غير المتكافئة" عن تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية، إذ لم يسهم سوى في تعميق المأساة الإنسانية وتعريض المجتمعات المحلية لتكاليف باهظة، دون أن يحدث أي تغيير ملموس في موازين القوى الإقليمية.

وينطبق هذا الواقع كذلك على الساحة اللبنانية، حيث يعيش جزء كبير من أبناء الجنوب حالة نزوح طويل الأمد بعيداً عن منازلهم ومصادر رزقهم، في ظل استمرار التوغلات العسكرية الإسرائيلية وعجز الدولة عن تأمين الموارد لإعادة إعمار ما دمّرته مغامرات "حزب الله" العسكرية. ويتكرر المشهد نفسه ضمن مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن، حيث تتعرض البنى التحتية الحيوية للنقل والطاقة لضربات إسرائيلية متواصلة طالت مطار صنعاء وميناء الحديدة وشبكات الكهرباء ومخازن النفط. ورغم الخسائر الفادحة، يصرّ الحوثيون على مواصلة عمليات عسكرية محدودة الفعالية، تزيد من معاناة السكان ولا تغيّر شيئاً في المعادلات الاستراتيجية.

ومع التحولات الأخيرة، أقدمت إسرائيل على تعديل استراتيجيتها للأمن القومي، لتقترب أكثر من النموذج الأميركي القائم على مبدأ "مطاردة مصادر التهديد أينما كانت، بغضّ النظر عن بعدها الجغرافي". وبذلك أصبحت مكوّنات المنطقة كلها عرضة لاحتمال الاستهداف المباشر من قبل إسرائيل.

وإذا لم يُدرك قادة حزب الله في لبنان، والفصائل في العراق، والحوثيون في اليمن، حقيقة هذا الواقع الجديد، واستمروا في انتهاج الأساليب ذاتها، فإنهم يغامرون بتكرار مأساة حماس في غزة. وحينها ستُلقى على عاتقهم مسؤولية الدماء البريئة التي تُسفك من شعوبهم، ولن يشفع لهم الندم بعد فوات الأوان، في مواجهة خصم أثبت قوته وبطشه.

ولست هنا بصدد استعراض ميزان القوى، بل لعرض حقائق يرفض الكثيرون الإقرار بها أو الإصغاء إليها. فالجميع يرى كيف تشن إسرائيل هجماتها على جبهات متعددة، وتلحق بإيران وحلفائها الخسائر تلو الخسائر، من دون أن تتمكّن طهران من توجيه ردّ مكافئ يحفظ ماء وجهها، ولو بالحد الأدنى.

وهنا أجدّد نصيحتي لإخوتنا: أنّ الخروج من المأزق الطائفي البغيض هو الخيار الوحيد الآمن، وأنّ الابتعاد عن المشروع الإيراني السياسي لم يعد ترفاً، بل ضرورة، لأنه لا يخدمهم ولا يخدم شعوبهم بأي شكل. فالتوجّه نحو تسليم السلاح، والانخراط في الدولة، وممارسة دورهم كمواطنين ملتزمين داخل مؤسساتها الشرعية، هو السبيل إلى ضمان حقوقهم وصون مستقبلهم.

وعلى السياق ذاته، تنطبق هذه القراءة على الحالة السورية؛ إذ إنه عقب تراجع وتيرة الضربات الإسرائيلية ضد ما يُعرف بـ "محور المقاومة"، بدأت الأنظار الإسرائيلية تتجه نحو الأراضي السورية والجماعات المسلحة التي آلت إليها السلطة هناك. فالفكر الأصولي الجهادي، الذي تزعم هذه السلطة أنها قد انسلخت عنه، ومن يقف خلفه من تيارات، لا يزال يُعدّ من أبرز الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة وإسرائيل، ويظل احتمال اندلاع مواجهة عنيفة ووجودية ضده قائماً في العقل الاستراتيجي لكل من واشنطن وتل أبيب، تبعاً للظروف والمعطيات المتغيّرة.

ولا يتعارض هذا التصور، بطبيعة الحال، مع ما يُطرح من مقترحات بشأن اتفاقات أمنية محتملة بين سوريا وإسرائيل، إلا أن جدواها بالنسبة لسوريا ودول المنطقة تبقى رهنًا بتوضيح تفاصيلها، وتوفير ضمانات كافية تحول دون تفكك الأراضي السورية أو المساس بوحدتها الجغرافية والسياسية.

مع التأكيد على أهمية أن تدير تركيا ملفاتها الإقليمية بما ينسجم مع مستوى الفطنة السياسية المعهود منها، لا سيما في ظل الحديث المتزايد عن إعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة، بما يحقق الاستقرار ويعزز من دورها كفاعل مسؤول ومتوازن في البيئة الإقليمية.

لا خيار بديل عن الدول العربية الوطنية

على الرغم من التحولات الجارية والتراجع النسبي في القوة والنفوذ، لا يزال أطراف ما يُعرف بمحور المقاومة متمسّكين بخطابهم وأجندتهم التقليدية، التي أثبتت التجارب عجزها وآثارها السلبية على استقرار المنطقة. وقد برز ذلك بوضوح في الرسالة التي وجّهها الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، في 19 سبتمبر 2025 حول الحوار مع المملكة العربية السعودية، إذ ظلّ هذا الحوار مرهوناً بشرط أساسي يقوم على العداء لإسرائيل. وهو ما يعكس انشغالاً مستمراً بالخطاب الأيديولوجي القديم، مع تجاهلٍ واضح لمحدودية القدرات الواقعية لمحور المقاومة.

فالواقع أنّ مفهوم "المقاومة" كما يطرحه أتباع المحور الإيراني لا يعدو أن يكون توظيفاً للعمل الحزبي والعسكري في خدمة السياسات الإيرانية الإقليمية. وهو مفهوم حديث النشأة ارتبط بإيران ما بعد الثورة الخمينية، وأتواقع -كما ترجح المؤشرات الراهنة- أن تعمد طهران إلى إعادة صياغته، أو إدخاله في مرحلة سبات طويلة، بعدما تبيّن قصوره عن مواكبة متغيرات الواقع ومتطلبات المستقبل.

ولا يمكن النظر إلى هذه الدعوة باعتبارها مراجعة نقدية جادّة من جانب حزب الله. فهي:

 أولاً، لم تصدر عن القيادات التاريخية الأكثر نفوذاً، التي كانت تمتلك فرصاً أوفر لاتخاذ مواقف أكثر واقعية، لكنها آثرت التمسك بخطاب طائفي عابر للحدود، متماهٍ مع الأجندة الإيرانية، على حساب انتمائها العربي وروابطها المشتركة مع أبناء الوطن. ذلك الخطاب، الذي طالما رفع شعار السلاح الموجّه ضد إسرائيل، فقد اليوم معظم مصداقيته أمام وقائع الحاضر.

وثانياً، تكشف هذه الدعوة أن الحزب لا يزال متمسّكاً باستقلاليته عن الدولة اللبنانية، محتجزاً عملياً حقّ التمثيل السياسي للطائفة الشيعية، بما يعكس استمرار الفجوة بين خطاب حزب الله والخطاب الرسمي للدولة ومتطلبات الواقع الوطني. وهي فجوة تفصل بين مصالح الطائفة الشيعية الحقيقية وبين الممارسات السياسية الفعلية لمكوّنها الحزبي.

إن هذا الخطاب يعبّر عن فقدان قادة حزب الله لصلتهم بالواقع الفعلي، في وقتٍ يتطلب الاعتراف بالحقائق وبحدود القوة المتاحة. فمثل هذا الاعتراف لا يُعدّ تراجعاً، بل يُترجم ذكاءً استراتيجياً وحنكةً سياسية، طالما كانتا شرطاً أساسياً لصون المجتمعات والحفاظ على التوازن الوطني.

ولم تكن المملكة العربية السعودية يوماً بعيدة عن نهج التعاون والحوار في علاقاتها الإقليمية والدولية. فمنذ عام 1989، حين رعت اتفاق الطائف الذي شكّل محطة مفصلية في تاريخ لبنان، واصلت المملكة، إلى جانب العديد من الدول العربية، دعم استقرار لبنان وتعزيز مؤسساته، رغم ما فرضه الواقع السياسي من تعقيدات. وخلال تلك المرحلة، حرصت هذه الدول على التمييز الواضح بين الدولة اللبنانية والشعب اللبناني من جهة، والكيانات الخارجة عن الدولة من جهة أخرى. ومن هنا فإن المملكة لا تدخل في نقاش أو تستقبل دعوات صادرة عن كيانات عابرة للجغرافيا، لا تعترف بفكرة الدولة الوطنية، بل تتمسك دوماً بالتعامل مع الدولة بصفتها صاحبة الولاية العامة والمسؤولة الشرعية.

وفي السياق ذاته، يواجه إخوتنا الشيعة العرب تحدياً جوهرياً يقتضي منهم التمعّن بعمق فيما تحاول إيران ووكلاؤها إخفاءه عن وعيهم واستقلالية قرارهم. فالقدرة على قراءة التحولات الإقليمية، وفهم حدود النفوذ الإيراني، تشكّل عاملاً أساسياً في إعادة ترتيب أولويات الشيعة العرب وولاءاتهم، على نحو يكفل حماية مصالحهم الوطنية، ويضمن لهم تمثيلاً عادلاً وفاعلية راسخة ضمن إطار الدولة الوطنية.

والحقيقة الواضحة التي لا تحتمل التأويل هي أن إيران بلغت مرحلة من التهالك الداخلي لم تعد معها قادرة على رعاية أي مشروع توسّعي جديد في منطقتنا، أو جعل إخوتنا الشيعة وقوداً له. ومن هنا، فإن الواجب على الشيعة العرب في لبنان والعراق واليمن أن يعيدوا الاعتبار لدورهم الوطني والقومي الذي شرفهم به التاريخ، عبر دعم سيادة دولهم واستقلالها على قاعدة المواطنة الكاملة، والتعلّم من التجارب المريرة التي دفعت بعض دول المنطقة ثمناً باهظاً لها بسبب تحالفات خاطئة. فهذا وحده ما يقدّم الحلول للإشكالات، ويُبدّد المخاوف، ويصون المصالح الوطنية.

وفي ختام هذه الدعوة الثالثة، أجدّد ندائي الصادق إلى إخوتنا من الشيعة العرب: ليكن انتماؤكم إلى أمتكم العربية، وليتقدّم ولاؤكم لوطنكم على أي ولاء حزبي أو خارجي. واجهوا التحديات الراهنة بروح الشجاعة والمسؤولية، فقد آن الأوان أن تقولوا: كفى. كفى خسائر متتالية أنهكتكم وأرهقت أوطانكم. أعيدوا النظر بصدق، وابتعدوا عن مشروع لم يجلب لكم ولشركائكم في الوطن سوى الدماء والدمار والويلات.

إنني لا أبتغي من هذا النداء إلا النصح، حفاظاً على دماء المسلمين والعرب وسلامتهم، وخروجاً من دوامة الصراع، وتحريراً للشعوب من ذهنية الروايات القومية الزائفة التي اتخذت من قضية فلسطين والقدس مجرد سردية لتبرير مشاريعها، بينما الحقيقة أن القدس وفلسطين تستحقان مشروعاً أوفى وأنبل من هذا التضليل.

وأشدد اليوم على أن المطلوب هو انخراط الشيعة العرب الكامل مع شعوبهم وأوطانهم، لا بصفة طائفة منفصلة، بل كجزء أصيل ومكوّن أساس في النسيج الوطني، تجمعهم مع بقية المكونات علاقة صحية راسخة تقوم على أسس المواطنة الجامعة. ولعل العراق يقدّم نموذجاً واضحاً في هذا المسار، إذ يدير مقدراته السياسية والاقتصادية والعسكرية وفق مصالحه الوطنية، مستفيداً من التحولات الحاسمة التي يشهدها محيطه.

إن التكاتف والوقوف صفاً واحداً في وجه محاولات تمزيق النسيج العربي، ورفض كل أشكال التحريض المذهبي والطائفي، هو السبيل الآمن، بل هو طوق النجاة لنا جميعاً. فالعرب، على اختلاف مكوّناتهم، كانوا ولا يزالون الحاضنة الصادقة والحامية الأمينة لكل أبنائهم، دون تمييز أو إقصاء، بما يصون الكرامة ويحفظ الهوية.

ومن منطلق إيماني العميق بالدور الوطني العروبي، وبالمسؤولية الأخلاقية تجاه إخوتنا الشيعة، أجدّد ندائي لهذه الأمانة، وأرفعها خالصة: اللهم إني قد بلّغت، اللهم فاشهد.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS