توسع "الناتو" وأثره على مفاهيم الحياد والأمن الأوروبي

تقدم الورقة تأثير توسع حلف الناتو بعد تقديم فنلندا والسويد طلب للانضمام له، على مفاهيم حالة الحياد والتغيرات التي طالت دوره في إرساء الأمن والاستقرار للقارة الأوروبية، وتبحث في التداعيات الجيوسياسية والاستراتيجية المُترتبة على مختلف الأطراف (روسيا وأوروبا والأطلسي).

الكاتب سحر محمد
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١٢‏/٠٦‏/٢٠٢٢

أيا كانت السيناريوهات القادمة حول نتيجة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وكيفيتها وموعد انتهائها، فلا شك أن هناك تداعيات عدة أفرزتها الأزمة؛ على صعد شتى، وسيترتب عليها تأثير عميق في بنية الأمن الأوروبي، وتوازن القوى، والمفاهيم المستقرة في القارة منذ عقود وفي مقدمتها "مفهوم الحياد".

حيث أن منظومة الأمن الأوروبي، بعد الأزمة لن تكون كما قبلها، سواء فيما يتعلق بترتيبات الأمن الجماعي، أو بإدراك دول القارة لمقتضيات أمنها المستقبلي، أو في طبيعة العلاقات عبر الأطلسي لجهة دور الولايات المتحدة في الأمن الأوروبي ونظرة واشنطن وأوروبا لهذا الدور وحدوده.

وضمن هذا السياق، يناقش هذا التحليل أثر التوجه نحو توسع حلف شمال الأطلسي، ليشمل كلاً من السويد وفنلندا، على الأمن الأوروبي والعالمي.

 تآكل الحياد في أوروبا

في الثامن عشر من شهر مايو 2022، تقدمت كل من فنلندا والسويد بطلب رسمي للانضمام إلى حلف الناتو، والتخلي عن سياسة الحياد التي التزمت بها الدولتين منذ عقود، وقد لقي هذا الطلب حفاوة وترحيب أوروبي كبير، بينما عارضته تركيا بدعوى أن السويد تأوي خصومها من أعضاء حزب العمال الكردستاني والمصنف من قبلها والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كمنظمة إرهابية، كما تطالب أنقرة كلا الدولتين بإسقاط حظر الأسلحة المفروض عليها منذ عام 2019 بعد عملياتها العسكرية في شمال سوريا.

وعلى المنوال ذاته، عارضت كرواتيا، انضمام الدولتين لحلف الناتو، حتى يتم تعديل قانون الانتخابات في البوسنة والهرسك لتسهيل انتخاب ممثلين عن الكروات لمناصب حكومية في الدولة المشار إليها.

يُذكر أن الدولتين تقدمتا إلى طلب الانضمام لحلف الناتو، وفقاً لسياسة "الباب المفتوح"، في المادة العاشرة من ميثاقه، والتي تتيح لأية دولة أوروبية الانضمام إليه، وهي المادة التي تتمسك روسيا بمطالبها في إلغاءها، كجزء من الضمانات الأمنية المُقدمة من حلف الناتو وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء.

إن مفهوم الحياد، هو أحد المفاهيم المُتداولة في سياق فض النزاعات، وتحقيق السلام والاستقرار خاصة في المُنازاعات والمُنافسات بين القوى الكُبرى، وتُعرّف الأمم المتحدة حالة الحياد بأنها: "الوضع القانوني الناجم عن امتناع دولة عن المشاركة في حرب مع دول أخرى، والحفاظ على موقف الحياد تجاه المتحاربين، واعتراف المتحاربين بهذا الامتناع وعدم التحيز - وهذا أمر بالغ الأهمية تكتسب الأمم المتحدة من خلاله الثقة والتعاون من جميع الأطراف من أجل العمل بشكل مستقل وفعال، ولا سيما في الحالات التي تنطوي على احتدام سياسي".

ولا تزال العديد من دول العالم تلتزم بوصفها مُحايدة، مثل: إيرلندا، والنمسا، وسويسرا، ومولدوفا، وتركمانستان، وهي دول مسجلة كدول محايدة في الأمم المتحدة.

وبالرغم من مُميزات حالة الحياد، في تجنيب الدول تبعات أي صراع أو نزاع عابر لها أو على حدودها، يُثار العديد من التساؤلات حول دوافع كل من فنلندا والسويد، للتخلي عن حيادهما التاريخي في الوقت الراهن؟

 في الواقع تطرح الدولتان أسبابا متنوعة لذلك التحول، وهي:

أولاً: تغير البيئة الأمنية والجيوسياسية بعد الأزمة الأوكرانية، حيث أن دولة كفنلندا ترتبط بحدود برية طويلة مع روسيا وقد باتت مهددة بهجوم مماثل، أما السويد التي لا تربطها حدود مُباشرة مع روسيا، إلا أنها تمتلك جزيرة جوتلاند التي تبعد نحو 330 كيلومتر عن الحدود، وتقع في نطاق روسيا الاستراتيجي في بحر البلطيق، وتُعتبر منفذ السويد الوحيد لبحر الشمال.

ثانياً: تُظهر استطلاعات الرأي تأييداً شعبياً واسعاً في فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف الناتو، فوفقاً لاستطلاع أجراه مُنتدى الأعمال والسياسية الفنلندي (FBPF)، في منتصف أبريل 2022، أيد نحو 60% من الفنلنديين الانضمام للناتو، بينما أيد ذلك 59% من السويديين بحسب استطلاع رأي لمؤسسة كانتورسيفر.

ثالثاً: تُشير الوقائع الميدانية إلى أن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، قد يطال أمدها، وأن تركيز موسكو خلال المرحلة القادمة سينصب على إعادة التوازن الأمني في محيطها الجغرافي والحيوي، ما يعني حاجة الدولتين إلى الانضمام للناتو، في ظل ضمان عدم قُدرة روسيا اليوم على فتح جبهات أخرى.

رابعاً: تقع الدولتان بالقرب من القطب الشمالي، الذي يشهد تنافسات عدة بين القوى الكُبرى، التي يُرجح أن تشتد نظراً لآثار الاحتباس الحراري وما صاحبه من انحسار للجليد، بشكل أصبح من الممكن معه استغلال موارده وثرواته الضخمة، إذ تشير التقديرات أن القطب الشمالي يضم ما يزيد عن رُبع الاحتياطي العالمي من النفط.

خامساً: من الناحية العملية، لدى فنلندا والسويد، ارتباط وانخراط مُسبق مع حلف الناتو، من خلال عضويتهما في مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية للحفاظ على السلام، ومُشاركة القوات الفنلندية في جهود حفظ السلام في كل من أفغانستان والعراق تحت القيادة الأمريكية، فضلاً عن دور الدولتين في قوات التدخل السريع الأوروبية، وبالتالي تتوائم البنى التحتية العسكرية للدولتين مع معايير حلف الناتو.

 تداعيات جيوستراتيجية

إن نجاح الدولتين في الانضمام إلى حلف الناتو، حال تخطي الحلف اعتراضات بعض أعضاءه (تركيا وكرواتيا)، يُمهد لبنية أمنية أوروبية جديدة، بأبعاد جيواستراتيجية كبيرة ومُتغيرة، من خلال:

 أولاً: اتساع الطوق حول روسيا

في حال انضمام الدولتين، فإن روسيا ستصبح مُحاطة بدولة أوروبية أطلسية سادسة، إضافة إلى لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، وبولندا، والنرويج. وسيكون لذلك تأثير على مُحيط روسيا الحيوي والجغرافي ومستوى فعاليتها في الأمن الأوروبي، إلى جانب التضييق على وصولها إلى المياه الدافئة التي تُعتبر امراً حيوياً بالنسبة لها.

ثانياً: السيطرة على بحر البلطيق

انضمام فنلندا والسويد يعني أن جميع الدول المُطلة على البلطيق هي أعضاء في حلف الناتو (باستثناء روسيا وجزر أولاند)، ما يمنح الحلف سيطرة ونفوذ أكبر في البلطيق، وبشكل يُمكنه من ممارسة ضغوط أوسع على روسيا، ضمن مناطقها الاستراتيجية.

ثالثاً: زيادة فُرص الاحتكاك بين روسيا والناتو

بانضمام الدولتين ستزداد فُرص الاحتكاك العسكري بين روسيا وحلف الناتو، بإضافة الأخير نحو 1300 كيلومتر، من الحدود البرية المُشتركة بين الأراضي الفنلندية ورسيا، وبذلك يضاعف الحلف من طول حدوده مع روسيا من 708 إلى 1931 كيلومترا، في المُقابل تعتزم روسيا على بناء 12 قاعدة عسكرية على طول حدودها مع فنلندا. 

map-1-01.jpg

رابعاً: تداعيات محاولات إضعاف روسيا

بالرغم من الترحيب الذي حظي به طلب كل من السويد وفنلندا بالانضمام لحلف الناتو، واتساع مجال العقوبات الغربية على روسيا، فقد بدأت أصوات غربية تحذر من تداعيات هذا المسار، حيث ترى أن إضعاف روسيا لربما يدفع بالبيئة الأمنية الأوروبية نحو اتجاهات أكثر خطورة.

ومن ضمن هذه الدعوات، تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أكد فيه أنه لا يمكن تحقيق الأمن والسلام في أوروبا من خلال "إذلال" روسيا، بينما أشار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر على هامش منتدى دافوس في سويسرا، إلى أنه "سيكون من الخطورة بمكان بالنسبة للغرب الانغماس في مزاج اللحظة ونسيان مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي".

وتستند هذه التحذيرات على منطلقين رئيسيين، وهما:

1-  لدى روسيا دور تاريخي في ضمان الأمن للقارة الأوروبية، إذ تعد جزءً لا يتجزأ من منظومة الأمن الأوروبي، فضلاً عن الحاجة الأوروبية المُلحة لموارد الطاقة الروسية.

2- تشير التجارب التاريخية، إلى تداعيات خطيرة من "إذلال" الدول الأخرى، فقد أدى إذلال ألمانيا في التسويات التي أقرها مؤتمر فرساي 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، إلى تهيئة الظروف لظهور هتلر بعد ذلك ومن ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكذلك أدى شعور روسيا بالإهانة من تعامل الغرب معها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وعدم وفائه بتعهداته لها بعدم التوسع لحلف الناتو شرقاً، إلى سعي بوتين لاستعادة كرامة روسيا من خلال سياسات عنيفة تجاه جورجيا وأوكرانيا وتجاه توسع الناتو بشكل عام.

الخيارات أمام روسيا

أمام روسيا مجموعة خيارات حال قبول عضوية فنلندا والسويد للناتو، خاصة ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال إن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي في حال جرى هذا الانضمام، ولعل أهم هذه الخيارات هي:

أولاً: حلف "وارسو" بصيغة جديدة

من شأن تمدد حلف الناتو على الحدود الروسية كما أشرنا سابقاً، أن يدفع الأخير إلى إعادة تعريف دور منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وهي: روسيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، حيث أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة المجموعة المُنعقدة في 17 مايو الماضي، أن الدول الأعضاء ستقوم بتدريبات عسكرية مشتركة قريباً، فضلاً عن دعوات شهدها الاجتماع لتحويل المعاهدة إلى تحالف اشبه بحلف وارسو السابق.

وفي ذات السياق أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على أهمية أن تمثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي عاملا يضمن التوازن في المنطقة الأوروأطلسية، مضيفاً بأن بلاده ترى المنظمة قادرة على "ردع سيطرة حلف الناتو" في المنطقة.

in-2.jpg

ثانياً: تحرك روسيا لتأمين مجالها الحيوي

في مُقابل توسع حلف الناتو، تسعى روسيا إلى توسيع مناطق سيطرتها ونفوذها، بعد أن اعترفت باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك، مع إمكانية إلحاقهما بأراضيها، على غرار ما حدث في شبه جزيرة القرم عام 2014، إلى جانب مُطالبة أوسيتيا الجنوبية التي انفصلت عن جورجيا عام 1990، بالانضمام إلى روسيا، حيث  وقع رئيسها أناتولى بيبيلوف في 15 مايو 2022 مرسوماً يقضي بإجراء استفتاء شعبي في بلاده في 17 يوليو 2022 حول انضمام بلاده لروسيا. 

ثالثاً: التوجه نحو الشرق

كان من نتيجة أزمة أوكرانيا وتوجه حلف الناتو نحو التوسع، إلى إعادة التوجه الروسي نحو الشطر الآسيوي حيث تقع ثلاثة أرباع مساحتها في آسيا، بما يعني المزيد من التحالف مع الصين من أجل صياغة نظام عالمي جديد اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وهو ما قد ينعكس بالسلب على قوة الناتو.

يُذكر هنا، أن العلاقات الروسية الصينية، شهدت تقدماً ملحوظاً في الأيام السابقة للأزمة الأوكرانية، حيث كان الرئيس فلاديمير بوتين، أول قائد يلتقي الرئيس الصيني شي جين بينغ، بعد جائحة كوفيد-19، وقد وقعت الدولتين اتفاق شراكة غير محدود، وفي مايو الماضي، أعلنت وزارتي الدفاع الروسية والصينية، تنفيذ ضربات جوية مُشتركة فوق المحيط الهادئ، بُمشاركة "مجموعة جوية تتألف من ناقلات صواريخ استراتيجية روسية وقاذفات استراتيجية صينية قامت بدوريات فوق مياه بحر اليابان وبحر الصين الشرقي"، بحسب قائد القوات الجوية الروسية سيرغي سوروفكين، وقد تزامنت هذه المُناورات والدوريات مع اجتماع المجموعة الرُباعية "كواد" في طوكيو، والتي تضم الولايات المتحدة، اليابان، أستراليا والهند.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن طريقة تعامل الغرب مع روسيا في ظل الأزمة الأوكرانية، سيكون لها الكثير من التداعيات على الأمن الأوروبي والعالمي في السنوات المُقبلة، خاصة فيما يتعلق بـ:

  • مدى استعداد الغرب للتعامل مع الهواجس الأمنية الروسية.
  • مدى استمرار تماسك الموقف الغربي تجاه روسيا.
  • طبيعة توازنات القوى على الأرض في أوكرانيا.
  • طبيعة رد الفعل الروسي على انضمام فنلندا والسويد.

 

 

 

 

*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.

سحر محمد

باحثة في العلاقات الدولية