بايدن ومعضلة العلاقة الأمريكية الإيرانية

يُحلل هذا التقرير موقف كل من إدارة بايدن وطهران حيال الملف النووي الإيراني، في محاولة لفهم أبرز التحديات التي تحول دون تدفق طبيعي للعلاقات من وإلى طهران.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٤‏/٠١‏/٢٠٢١

يعد الملف الإيراني أحد أبرز الملفات المعقدة التي ورثتها إدارة بايدن ليس فقط من الإدارة السابقة بل أيضاً من نتاج السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران والمنطقة ككل. فمنذ عام 1979 ومحاصرة السفارة الأمريكية في طهران، لم تنضج استراتيجية كاملة وفعالة للتعامل مع الشأن الإيراني، وتكاد سياسة "العصا والجزرة" أن تكون هي المسيطرة على مجمل الفكر السياسي الأمريكي حيال إيران.

إلا أن هذا "التخبط" الأمريكي بلغ حدوداً "قصوى" عندما انسحبت إدارة ترامب في مايو 2018 من "خطة العمل الشاملة المشتركة" بعد قرابة 3 سنوات من اتفاق إيران ودول "5+1" على تسوية القضية النووية ورفع العقوبات عن إيران.

ولا يزال هذا الاتفاق محافظاً على وجوده القانوني، ولكن بصيغة "4+1" إذ تتمسك الدول الأوروبية بأمل شراء الوقت لحين تحقيق انفراج سياسي تعود معه طهران إلى الوفاء بالتزاماتها النووية التي تحررت من كثير منها كرد على العقوبات الأمريكية التي حجبت التدفق الشرعي للنفط الإيراني إلى مشتريه.

وخلُص تقييم لفعالية سياسة العقوبات الأمريكية نشره STRATEGIECS Think Tank في أكتوبر 2020، إلى أن "الضغوط القصوى" لم تُفلح في ثني إيران عن المضي قدماً في برنامجها النووي، ولا حتى في تغيير نهجها المزعزع للاستقرار بحسب توصيفات أمريكية. ولا يعني ذلك أن هذه الضغوط فشلت، فهي زادت من الكلف التي تتكبدها إيران جرّاء سياستها الخارجية والنووية، وحدّت من طموحاتها، وأضرت بصورتها أمام شعبها ومؤيديها في الإقليم، لا سيما مع إحجامها عن الرد المباشر على استهدافات تعرضت لها، كمقتل سليماني، وإلحاق الضرر بأصولها النووية (كالتفجير في منشأة نطنز واغتيال المسؤول التقني الأول في البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده).

وأمام هذا التصعيد "النووي" من جانب إيران، و"العقوباتي" من جانب أمريكا، يتعين على فريق بايدن التعامل مع الملف الإيراني، النووي والباليستي والإقليمي، بمنطق جديد يراعي المستجدات التي طرأت في السنوات الأربع، فلا يمكن الارتكاز على إرث أوباما وإنكار إرث ترامب، فببساطة ما صلُح إبان إدارة أوباما قد لا يصلح إبان إدارة بايدن.

 وفي هذا السياق، هنالك موقفان متباينان لتسوية القضية النووية الإيرانية:

1. موقف إدارة بايدن: يُنظر إلى الملف باعتباره قضية غير منفصلة عن البرنامج الباليستي والسياسات التوسعية الإيرانية في الإقليم، ولذلك لا بد من إعادة التفاوض على اتفاق شامل يعالج كل القضايا الخلافية ولا يقتصر على الجانب النووي فقط.

وتُظهر خلفيات مسؤولي إدارة بايدن في السياسة الخارجية والدفاع أن جُلَّهم انخرطوا بصورة أو بأخرى في الفريق الأمريكي الذي أشرف على التفاوض وإعداد الاتفاق النووي عام 2015، وهو ما قد يعكس حِرْص بايدن على تغليب الدبلوماسية المرنة في التعامل مع طهران، ولكن ذلك لا يعني إهماله لدبلوماسية العقوبات أو حتى أدوات القوة الصلبة، فالجانب الإيراني لن يلين موقفه بالمحفزات المغرية وإنما يجب إظهار موقف قوة يحمل في جنباته عواقب وخيمة إذا ما واصلت إيران تحديها النووي واقتربت من العتبة التي تفتح الباب نحو امتلاك سلاح نووي.

2. موقف الحكومة الإيرانية: تطالب طهران بالعودة إلى الاتفاق النووي الموقَّع عام 2015 ليتم بعدها "النقاش" حول باقي القضايا التي تطالب واشنطن بالتوافق عليها في اتفاق موحد يعالج القضايا النووية والبالستية والتوسعية الإقليمية.

حيث ترفض السياسة الخارجية الإيرانية - حتى الآن - إعادة التفاوض على اتفاق تم التفاوض عليه مسبقاً، وترى أنه من الواجب احترام قانونية "خطة العمل الشاملة المشتركة". إلا أن هذا الاتفاق لم يعد موجوداً معنوياً، فروح الاتفاق تم انتهاكها بالإضافة إلى الالتزامات القانونية، فبعد المصادقة عليه شاعت أجواء من التفاؤل الحذر بتطبيع إيران لسياساتها بنفسها بما يؤهل إدماجها في البيئة الإقليمية كدولة لا تتبادل مع جيرانها  النظرة "العدائية". فوفقاً لمنظري السلام الاقتصادي، عادةً ما تعدّل الدول سياساتها للحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي حققتها في المفاوضات السياسية. وأثبتت التجربة عدم نجاح صياغة هكذا سلام في بيئة إقليمية مليئة بالتشدد الأيديولوجي والسياسي.

وبغض النظر عن شكل الاتفاق المحتمل، ستواجه إدارة بايدن تحديات جمّة على أكثر من صعيد في سبيل حث وإرغام طهران على انتهاج سياسات طبيعية بعيداً عن التشدد الأيديولوجي والتوسع الإقليمي. فـعودة أمريكا "America Is Back" لقيادة النظام العالمي كما أعلن عن ذلك الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تتطلب معالجة القضايا الرئيسية الشائكة في البيئة الدولية، وفي مقدمتها القضية الإيرانية.

وفي هذا المسار "إقامة علاقات طبيعية مع إيران"، سيصطدم فريق بايدن بتحديات عدة، أبرزها:

1. عوامل داخلية أمريكية

لا يمكن الجدال بصعوبة إجراء توافق أمريكي عابر للتنافرات السياسية في ظل هذا الاستقطاب غير المسبوق الذي تشهده البلاد، فهندسة فريق بايدن لاستراتيجية إيرانية فعّالة تتطلب أن تحظى هذه الأخيرة بالزخم السياسي البعيد عن التنافرات الحزبية والشخصية.

ومن غير المنطقي افتراض رغبة الإدارة الجديدة بعكس المسار الذي انتهجته الإدارة السابقة، ذلك أن قرارات السياسة الخارجية هي قرارات بيروقراطية مؤسسية وتخضع لحسابات معمّقة - أو هكذا يُفترض أن تكون. وعليه، لن يكون بمقدور فريق بايدن تقديم تنازلات ما للجانب الإيراني إذا لم "يتفاوض" الفريق مع الجهات الأمريكية المعنية بإدارة العلاقات مع إيران.

ويُعتقد أن العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب في أواخر فترتها الرئاسية، وما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، من وجود علاقات "وثيقة" تربط إيران بالقاعدة؛ يأتيان في سياق تعقيد مهمة إدارة بايدن الجديدة في خفض حدة التصعيد مع طهران، فمن المحرج أمنياً إحراز تقدم مع دولة تدعم القاعدة، ومن الصعب سياسياً وتقنياً رفع الكم الهائل من العقوبات ما لم تقدم إيران مقابلاً لا يبدو أنها ترغب في تقديمه دون أن يتم رفع هذه العقوبات أولاً.

بالإضافة إلى هذا الضغط المؤسسي البيروقراطي، سيصطدم بايدن بمناصري نهج ترامب الموجودين في مناصبهم، فحتى لو تم تغيير المسؤولين في المناصب القيادية العليا، سيظل هنالك موظفون في "الدرجة الثانية" ممن يدينون بالولاء لعقيدة ترامب الخارجية ولا يمكن إقالتهم لاعتبارات قانونية، وقد يتحول هؤلاء إلى عقبة تقنية أمام سلاسة تدفق العلاقات التصالحية مع إيران.

بالإضافة إلى ذلك، تحظى استراتيجية ترامب تجاه إيران بتأييد الصقور المحافظين المطالبين بإظهار القوة في التواصل مع إيران، وهذا التيار متغلغل في البنية المحلية الأمريكية التي يمكن بسهولة "استفزازها" في ظل هذا الاضطراب الداخلي، لا سيما إذا تعلق الأمر بالملف الإيراني الذي تضعه إسرائيل في قائمة التهديدات الكبرى التي تواجهها، حيث ترتبط - أي إسرائيل - مع هذا التيار الصقوري بعلاقة يمكن وصفها بـ "العضوية" من حيث تماسكها وتوافقها.

2. عوامل داخلية إيرانية

يسيطر التيار المحافظ على مفاصل الحكم في إيران، حيث نجح – إلى حد ما – في توجيه السخط الشعبي من الأوضاع الاقتصادية نحو "عدو خارجي" فَرَضَ العقوبات على البلاد. كما وعملت بعض الهجمات (مثل مقتل سليماني وزاده واستهداف منشأة نطنز) على توحيد البلاد خلف الرواية المحافظة المتشددة، مما سيزيد من صعوبة تقديم المستوى السياسي لتنازلات حقيقية على طاولة المفاوضات، ما لم تكن مُبرَّرة أمام الرأي العام المشحون.

وتعد الانتخابات الرئاسية القادمة التي ستُعقد في يونيو 2021 مقياساً للتوجهات السائدة في إيران، ويُتوقع أن يُمسك المحافظون بزمام الرئاسة مثلما أمسكوا بزمام السلطة التشريعية في انتخابات فبراير 2020، مما سيؤدي إلى اضمحلال التيار الإصلاحي الداعي إلى المفاوضات الجادة مع الغرب لصالح قوى تتبنى مواقف أكثر صلابة.

3. عوامل إقليمية

لن تغيب عن إدراك فريق بايدن حالةُ الغضب - أو الاستياء في توصيف مخفف - التي انتابت بعض الدول في الشرق الأوسط بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، لما اعتبرته هذه الدول منحَ إيران حرية التعامل الاقتصادي الدولي دون معالجة كل القضايا الخلافية المتنازع عليها، كما أن هذا الاتفاق لم يُجرّد إيران من قدراتها النووية وإنما جمَّد بعض الجوانب منها وأخضع منشآتها لتفتيش دوري دقيق لمدة 15 عاماً دون أن يتطرق لمسار البرنامج النووي بعد انقضاء هذه المدة.

وقد شكّل الخطر الإيراني المشترك عاملاً حيوياً في تقارب تل أبيب مع بعض العواصم الخليجية، من أجل صياغة رؤية متطابقة للتعامل مع التهديدات الإيرانية في الجوانب الأمنية والسياسية، وقد تمتد هذه الرؤية إلى الجوانب العسكرية لا سيّما بعد القرار الذي صدر قبل أيام من انتهاء الفترة الرئاسية لترامب والقاضي بضم إسرائيل إلى منطقة القيادة المركزية الأمريكية المسؤولة عن الشرق الأوسط بعد أن كانت تتبع إلى منطقة عمليات القيادة الأمريكية في أوروبا.

ويُلاحظ أن الموقف الأوروبي حيال أسلوب التعامل مع إيران يتناقض مع نظيره الإسرائيلي الذي يتطابق إلى حدٍ ما مع موقف بعض الدول الشرق أوسطية، حيث ترى هذه الدول ضرورةَ إشراكها في أي مفاوضات قادمة حتى لا "تتفاجأ" باتفاق أمريكي إيراني لا يراعي اعتبارات أمنها القومي ولا موقعها كحليف وثيق للولايات المتحدة.

في المقابل، ترفض إيران هذه المفاوضات متعددة الأطراف، وتدعو إلى إطلاق حوار إقليمي مشترك بدون تدخل قوى عالمية وفق "مبادرة هرمز للسلام" التي أعلنت عنها وأطلقت عليها اختصاراً "HOPE" على أن تُشرف عليها جهة دولية عليا مثل مجلس الأمن أو إحدى المنظمات الدولية المعنية بفض النزاعات.

وعليه؛ سيواجه فريق بايدن ضغوطاً من الحلفاء الشرق أوسطيين لصياغة اتفاق مختلف عن سابقه وتهدئة المخاوف الأمنية المنبثقة من السياسات الإيرانية "العدائية" وخططها التسلحية التي تؤكد طهران على أنها دفاعية في الدرجة الأولى وتأتي رداً على زيادة التسلح الإقليمي، لذلك عبّرت عن استعدادها لخفض التسلح، كمّاً ونوعاً، إذا ما تعهد خصومها الإقليميون بذلك أيضاً.

ومن الأجدى أن يتفادى المفاوض الأمريكي إثارة حفيظة حلفائه، حتى يتم تجنب اندلاع "سعار تسلح بأبعاد نووية" سيعقّد حتماً من درجة التوتر في المنطقة، فنظرياً من غير المنطقي النظر إلى المفاوضات على  أنها وجهة محددة وإنما مسار شامل يتم فيه التوافق على حل نهائي بين مختلف الأطراف، دون إقصاء دولة أو أكثر ودون التغاضي عن ملف من الملفات "قيد الاشتباك".

الثقة أولاً

لا يمكن التوصل إلى اتفاق شامل ومرضي ما لم يتم بناء الثقة وتقليص درجة التوجس في النوايا التي تعتري مختلف الأطراف، وهنا يُمكن للدول الأوروبية التي ما تزال طرفاً في الاتفاق النووي العملَ كوسيط يحث أمريكا وإيران على التراجع عن بعض القرارات السابقة، كالعودة إلى بعض الالتزامات النووية الإيرانية التي تم الانسحاب منها، وتخفيف وطأة العقوبات على الاقتصاد الإيراني.

وحتى لا يتكرر خطأ اتفاق 2015 بعقد اتفاق هش لم يصمد أمام المستجدات الطارئة؛ يجب على كل الأطراف تهيئة الأجواء لنجاحه قبل المصادقة النهائية عليه، حتى لا يفقد جوهره ويتم التشكيك فيه عند أول اختبار.

أول هذه الاختبارات حالياً هو خفض سقف الأهداف التي يطمح كل طرف إلى تحقيقها من المفاوضات، فعادةً ما يعمد أطراف – أو طرفا – المفاوضات إلى رفع سقف المطالب بشكل يفوق ما يمكن تحقيقه فعلياً، ومن ثم تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات، إلا أن هذا الأسلوب التفاوضي قد يؤدي إلى تعنت وجمود إذا بالغ طرف أو أكثر في سقف المطالب المبدئي لتحسين موقفه وموقعه التفاوضي.

كما يجب الأخذ بعين الاعتبار الوقتَ كعامل ضاغط في المفاوضات، فكلما طال أمد عدم التوصل إلى اتفاق؛ تتطبّع الأطراف مع هذا التوتر غير الطبيعي وتعتاد عليه، وبمرور الوقت تزداد احتمالية حدوث "شيء" ما قد يُطلق شرارة مواجهة واسعة النطاق، ففي ظل حالة "عدم اليقين" من النوايا النووية الإيرانية، تقيّم بعض المصادر التقنية أن إيران على بعد مسافة عام من القدرة على تخصيب اليورانيوم العسكري إذا ما صدر الأمر السياسي الأعلى بامتلاك "ردع" نووي.

خلاصة القول؛ إن مهمة إدماج إيران بشكل طبيعي في البنية الإقليمية والدولية تتطلب من فريق بايدن العمل وفق استراتيجية ذكية توظف عناصر التحفيز والتهديد التي تزخر بها الخزينة الأمريكية، دون إحداث قطيعة متعمدة مع سياسة "أمريكا أولاً" التي اعتمدتها الإدارة السابقة، فـ "عودة أمريكا" إلى قيادة النظام الدولي - كما أعلن عن ذلك بايدن - تستدعي توحيد الصفوف وتحقيق توافق داخلي حيال الملفات الخارجية، كالملف الإيراني.

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات