الوجود الأمريكي في سوريا: تغيير صفة المشاركة والوجود

تتناول هذه الورقة مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في سوريا ضمن سياق التحولات المحلية والإقليمية المتسارعة، وتبرز كيف تسعى واشنطن إلى تحقيق بيئة سياسية وأمنية تخدم مصالحها دون انخراط عسكري مباشر، من خلال مراقبة أداء الحكومة السورية، والحد من نفوذ إيران والتنظيمات المتطرفة. وتربط انسحاب القوات الأمريكية أو إعادة تموضعها بتغير صفة الحكومة السورية في واشنطن، وتحولها إلى شريك سياسي يتوافق مع المحيط الإقليمي.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ٢٤‏/٠٤‏/٢٠٢٥

يعود الحديث بشأن مستقبل القوات الأمريكية في سوريا إلى الواجهة من جديد، بعد أن أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، في 18 أبريل 2025، عن خطة تدريجية لخفض قواتها المنتشرة في شمال وشمال شرق البلاد إلى النصف، وسط تفضيل من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لعدم الانخراط في الشأن السوري، باعتباره حالة من الفوضى لا يرغب في التورط بها. وتأتي هذه الخطوة استمرارًا لرؤيته خلال ولايته الأولى (2017–2021)، حين تعهّد في ديسمبر 2018 بسحب كامل القوات الأمريكية عقب الإعلان عن هزيمة تنظيم "داعش"، قبل أن يُخفَّض عدد القوات من 2000 إلى 900 جندي.

مع ذلك، شهدت سوريا والمنطقة متغيرات عدة منذ ولاية ترامب الأولى، خصوصًا في ضوء تحوّل أدوار الفاعلين في الساحة السورية، وتغير أدواتهم، وتبدّل توازنات القوى بينهم، وهو ما يعني أن مستقبل الوجود الأمريكي في سوريا بات يرتبط بقراءة جديدة للواقع.

جدلية القوات الأمريكية في سوريا

يشكّل الوجود العسكري الأمريكي المحدود في سوريا حالةً جدلية في دوائر صُنع القرار الأمريكية، إذ شهد تواترًا وترددًا في عدد القوات المنتشرة هناك. فخلال إدارة ترامب الأولى، وتحديدًا بعد هزيمة تنظيم "داعش"، لم يعد الوجود الأمريكي في سوريا أولوية لتلك الإدارة، وهي فكرة تجد صدىً واسعًا لدى العديد من السياسيين والنخب الأمريكية، الذين ينظرون إلى الانتشار العسكري في كل من سوريا والعراق بوصفه استنزافًا للموارد الاقتصادية، يفوق الأهداف التي من أجلها تم هذا الانتشار، والتي تركزت حينها على مطاردة فلول "داعش" ومراقبة نفوذ إيران ووكلائها في البلدين. في المقابل، يعتبر المسؤولون الأمنيون أن الوجود العسكري هناك جزء أساسي من استراتيجية التعامل مع تهديدات الأمن القومي الأمريكي، إذ يُمثل ركيزةً في منع تعافي تنظيم "داعش" من خسائره أو إعادة تجميع صفوفه، كما يُعد استراتيجيًا في الحفاظ على دور واشنطن ونفوذها في الشأن السوري، خاصةً مع تمركز القوات الأمريكية في مناطق غنية بالموارد النفطية والمائية. كما أنه يُعد محورياً في ضبط التوازنات بين القوى الخارجية الفاعلة، مثل تركيا وروسيا وإيران وإسرائيل، وبين القوى المحلية من خلال الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد".

وقد أسفر إعلان ترامب "المفاجئ" في أكتوبر 2019 عن سحب القوات الأمريكية، في استقالة كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس، والمبعوث الخاص للتحالف الدولي ضد "داعش"، بريت ماكغورك، ما دفع الإدارة لاحقًا إلى الحفاظ على عدد محدود من القوات. بالتالي، فإن جدلية الوجود الأمريكي في سوريا ترتبط بشكل مباشر بمقاربة الإدارة الأمريكية لدورها هناك، وهي مقاربة تختلف من إدارة لأخرى. فخلال ولاية الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، وفي ظل الحرب في قطاع غزة، ارتفع عدد القوات الأمريكية تدريجيًا، حتى بلغ ذروته بـنحو 2000 جندي، عقب تغيير النظام السوري السابق في ديسمبر 2024. وقد جاءت هذه الزيادة استجابةً لتهديدات ناشئة أفرزتها الحرب، ولمنع حدوث فراغ أمني قد يستغله تنظيم "داعش"، كما ارتبطت بشكل غير مباشر بدعم الموقف الدبلوماسي الأمريكي تجاه السلطة الجديدة، خاصةً أن إدارة بايدن أبدت انفتاحًا حذرًا عليها.

في المقابل، تنطلق محاولات دونالد ترامب لسحب القوات الأمريكية، سواء في ولايته الأولى أو الثانية، من مقاربته القائمة على عدم الانخراط في الشأن السوري. فبمجرد توليه منصبه، أشارت تقارير في فبراير 2025 إلى خطط للانسحاب خلال فترة تتراوح بين 30 و90 يومًا.

الوجود-الأمريكي-في-سوريا-تغيير-صفة-المشاركة-والوجود-in-1.jpg

المحيط المُتغير للوجود الأمريكي في سوريا

تتواجد القوات الأمريكية وسط بيئة متغيّرة، ليس في سوريا فحسب، بل في عموم المنطقة، وهي بيئة تسهم الولايات المتحدة بشكل مباشر في إرساء قواعدها وتحديد أدوار الفاعلين الإقليميين فيها. أما في سوريا، فقد كان الوجود الأمريكي يُعد ورقة ضغط على النظام السابق لدفعه نحو الانخراط في عملية سياسية حقيقية وفق مسار فيينا، إلى جانب أدوات ضغط أخرى، مثل العقوبات الاقتصادية التي منعته من التعافي أو بسط السيطرة على شمال غرب البلاد. إلا أن هذا الوجود تحوّل اليوم إلى ورقة قوة في يد واشنطن للتأثير في هندسة العملية السياسية، ومنع السلطة الجديدة من احتكار القرار السياسي بشكل أحادي أو إعادة إنتاج نموذج حزب البعث.

وبذلك، يرتبط مستقبل هذا الوجود بعدد من الملفات، من أبرزها: التأكد من أن السلطة الجديدة لن تشكل عامل عدم استقرار إقليمي، وهو ما يرتبط بتقديم الموارد المتاحة في مناطق السيطرة الأمريكية، وعلى رأسها النفط؛ وضمان تمثيل متوازن لمختلف مكونات المجتمع السوري، خاصة الأكراد الذين شكلوا شريكًا موثوقًا للولايات المتحدة. وقد عبّرت واشنطن عن موقف إيجابي تجاه الاتفاق الموقع بين الحكومة السورية المؤقتة وقوات سوريا الديمقراطية في 10 مارس 2025. كما يرتبط استمرار الوجود الأمريكي أيضًا بالحفاظ على الجغرافيا السورية خالية من النفوذ الإيراني وبعيدة عن عودة التطرف والإرهاب، سواء من قبل تنظيم "داعش" أو هيئة تحرير الشام، التي لا تزال خاضعة للمراقبة على مستوى التنظيم والأفراد، وتُصنَّف أمريكيًا كمنظمة إرهابية، مع استمرار المطالبات بتسليم قادتها، خصوصًا من يتولون مناصب في الحكومة.

على نطاق أوسع، يسهم الوجود الأمريكي في ضبط التوترات الجيوسياسية في سوريا ما بعد تغيير النظام، خاصة بين تركيا وإسرائيل. فمن جهة، تسعى أنقرة إلى توسيع نفوذها باتجاه وسط البلاد، وقد كشفت تقارير عن نيتها إنشاء قاعدة جوية في منطقة تدمر قرب مدينة حمص. ومن جهة أخرى، تعمل إسرائيل على ترسيخ عمق أمني في الجنوب السوري، وتسعى لمنع أي طرف من امتلاك وسائل قتالية تُهدد أمنها القومي. وفي هذا السياق، ترى إسرائيل أن النفوذ التركي المحتمل قد لا يتقاطع مع مصالحها، بل قد يشكل تهديدًا مباشرًا، وهو ما دفعها إلى تنفيذ سلسلة ضربات استهدفت مواقع عسكرية في مطار تدمر في مارس 2025 ردًا على تلك المحاولات.

وعليه، تتركز نقاط التوتر بين الدولتين في رفض إسرائيل لأي خطوات تركية قد تُغير من معادلة الانتشار العسكري أو تُحدث تحوّلًا في قواعد استخدام المجال الجوي. وتخشى إسرائيل من أن يؤدي انسحاب أمريكي محتمل إلى فسح المجال أمام تركيا لتكريس واقع جديد، كما حدث عام 2019 عندما شنّت تركيا هجومًا على قوات سوريا الديمقراطية عقب انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا.

محددات الانسحاب وآليات الضبط والتعويض

يتحدد مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في سوريا وفقًا للمعادلة السورية، والتفاعل الإقليمي معها، وإيجاد بيئة سياسية وأمنية تخدم المصالح الأمريكية والحسابات الجيوسياسية في المنطقة دون تكاليف عسكرية مباشرة. ولذلك، تعمل واشنطن على ترتيب البيئة الجغرافية، والأمنية، والمحلية لتحقيق هذه الأهداف، من خلال توضيح مطالبها للحكومة السورية ومراقبة أدائها تجاهها، وبالعمل متعدد الأطراف مع الدول الإقليمية الشريكة لها.

فمن جهة، يُفترض أن تلبّي الحكومة السورية المطالب الأمريكية، وأن تحدد طبيعة علاقاتها مع المكونات المحلية والأطراف الإقليمية، سواء كانوا دولًا أم جماعات. وتلعب واشنطن دورًا فاعلًا في المحادثات الجارية بين الحكومة السورية المؤقتة وقوات سوريا الديمقراطية، وقد رعت اتفاق الطرفين الموقع في مارس 2025. ومن غير المرجح أن تنسحب القوات الأمريكية قبل تنفيذ الطرفين لبنود الاتفاق بشكل كامل، تفاديًا لفراغ استراتيجي قد يُتيح للقوى الإقليمية—وفي مقدمتها تركيا—التموضع فيه، أو قد يؤدي إلى تجدد الصراع المحلي بين الطرفين، مما يخلق بيئة مضطربة يستفيد منها تنظيم "داعش" والحرس الثوري الإيراني، في وقت تُجري فيه واشنطن محادثات مع طهران حول برنامجها النووي. وتستهدف واشنطن، ضمنيًا، تقليص نفوذ إيران الإقليمي، ودفعها إلى ما وراء حدودها، وضمان ألا تستغل رفع العقوبات المحتمل في حال التوصل إلى اتفاق، لتعزيز شبكتها المتضررة بفعل الحرب في قطاع غزة.

ومن بين المطالب الأمريكية الأهم، العمل على تغيير وظيفة الجغرافيا السورية وعلاقاتها مع الجوار، إذ دعت واشنطن إلى حظر نشاط الفصائل الفلسطينية المدعومة من إيران على الأراضي السورية، وقد استجابت الحكومة بإعلانها عن اعتقال قياديين في حركة "الجهاد الإسلامي" في 22 أبريل 2025.

من جهة أخرى، تعتمد واشنطن على العمل متعدد الأطراف مع الدول التي تجمعها بها علاقات استراتيجية، لا سيما تركيا، وإسرائيل، والأردن، ودول الخليج، بما يحقق مصالح الجميع. فعلى سبيل المثال، أعلن الأردن في يناير 2025 عن تشكيل لجنة أمنية مشتركة مع سوريا لتأمين الحدود ومنع عودة تنظيم "داعش"، وتزامن ذلك مع إعلان تركيا اتفاقًا مع الأردن لدعم الاستقرار في سوريا ومكافحة التنظيم. وفي فبراير 2025، أُطلق تحالف إقليمي مشترك لمكافحة الإرهاب، ضم كلًا من تركيا، والأردن، والعراق، ولبنان، وسوريا، واستضافت الأردن الاجتماع الأمني الأول لهذا التحالف في مارس 2025 تحت مسمى "اجتماع دول جوار سوريا".

الوجود-الأمريكي-في-سوريا-تغيير-صفة-المشاركة-والوجود-in2.jpg

وفي السياق ذاته، تلعب السعودية دورًا في إعادة ترتيب العلاقات بين سوريا ولبنان، حيث رعت في مارس 2025 اتفاقًا لترسيم الحدود المشتركة بين البلدين والتنسيق بشأنها، وذلك في أعقاب اشتباكات حدودية. ومن شأن هذا المسار أن يُغلق المناطق الرخوة التي طالما تمددت بها إيران، والتي استخدمتها لمدّ حزب الله بالسلاح. وفي ذات السياق، أعلن الرئيس الأمريكي في 7 أبريل استعداده للوساطة بين تل أبيب وأنقرة، ودعا إسرائيل إلى حل خلافاتها مع تركيا. وقد أسهم ذلك في خفض التوتر بين الطرفين، تبعه فتح قناة تواصل وتنسيق بعد اجتماعاتهما في أذربيجان في أبريل 2025. ومن المحتمل أن تلعب واشنطن دورًا في فتح قنوات وسيطة—عبر دول عربية أو أوروبية—لتنسيق غير مباشر بين الحكومة السورية وإسرائيل.

وأخيرًا، بعد تحقيق ذلك وترسيخه، يمكن القول إن القوات الأمريكية قد تنسحب من سوريا، أو تُغيّر صفتها القانونية هناك، وربما مواقع تموضعها، تبعًا لتحوّل صفة الحكومة السورية لدى واشنطن، من حكومة مصنفة على قوائم الإرهاب، إلى حكومة صديقة، وربما حليفة، تسير في مسار متوافق مع جيرانها كافة.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات