الموقف الإيراني من الأزمة الأوكرانية بين التكتيكي والاستراتيجي
تقدم الورقة قراءة في الموقف الإيراني "الغامض" من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، من حيث طبيعة الموقف المُتمثل بعدم الوقوف إلى جانب أي من أطرافها، والوقوف على أبعاد ذلك الموقف، من أجل الإجابة على التساؤل الرئيسي: هل تشهد السياسة الخارجية الإيرانية تحولاً من الشرق إلى الغرب؟
الكاتب عمر الرداد
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ١١/٠٤/٢٠٢٢
مقدمة
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية، عن محطة جديدة في سياق العلاقات الدولية، أقل ما يُمكن وصفها بالمرحلة الثانية من "المُنافسة" الحقيقية بين الشرق والغرب. فالعلاقات الروسية الأمريكية والأوروبية، أصبحت أكثر اصطفافاً واستقطاباً من ذي قبل، وبينهما تتجه التقديرات لدعم صيني مُعلن لروسيا في عملياتها العسكرية ضد أوكرانيا، وفي مواجهتها مع الغرب بشكل عام. ويتسع هذا الاستقطاب بحدوده ليصل الشرق الأوسط، ويُظهر عن عمق التباين بين مواقف عدد من دوله وتوجهات الولايات المتحدة، بما فيها دول الخليج ومصر، حيث تمسكت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، باتفاق "أوبك بلس" مع روسيا ورفضت زيادة إنتاج النفط، فيما ذهبت تركيا وإسرائيل لاتخاذ مواقف بمرجعيات تعكس تحقيق مصالحهما العليا بالبقاء على مسافة واحدة من أطراف الصراع، والدخول في مفاوضات وساطة بين موسكو وكييف.
وبين ذلك كله؛ كان لافتاً الموقف الإيراني من الأزمة الأوكرانية، والذي بدت فيه طهران أقرب إلى واشطن منه عند موسكو، بالرغم من علاقاتها الاستراتيجية مع الأخيرة، والندية مع الأولى.
وعبر هذه المُقدمة، يثير الموقف الإيراني تساؤلات عدة، أهمها: هل يُمكن اعتبار موقف طهران بكونه تحولاً استراتيجياً عميقاً في سياساتها الخارجية؟ وهل ينعكس ذلك على الشرق الأوسط بشكل أو بآخر؟
طبيعة الموقف الإيراني من الأزمة الأوكرانية وأبعاده
على الرغم من العلاقات المُتقدمة بين روسيا وإيران، لم يصدر عن القادة والنخب السياسية الإيرانية أي تصريحات أو خطابات دالة على دعم طهران أو معارضتها للعمليات الروسية العسكرية في أوكرانيا، فقد التزم كبار مسؤوليها الحياد في الحديث عن الأزمة، وفي غضون ذلك تحتفظ طهران بموقف سياسي ثابت بشأن الأزمة الأوكرانية، بما في ذلك ما أعلنه المرشد الإيراني، علي خامنئي، أن طهران تؤيد وقف الحرب، في حين اعتبر وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد اللهيان، أن الأعمال الاستفزازية لحلف شمال الأطلسي هي جذر الأزمة الأوكرانية، إلا أنه أكد أن "الحرب ليست حلاً".
ويُمكن تلخيص الموقف الإيراني، بعدم الوقوف إلى طرف من أطراف الأزمة الروسية الأوكرانية، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، مع تأكيدات إيران بأن الحوار والدبلوماسية هما المخرج الوحيد للأزمة، ويبدو أن موقفها الغامض يُعبر في ثناياه عن مُعارضة العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، ذلك أنها ترفض بشكل كلي الحرب لتغيير الوقائع الحاضرة، خشيةً منها أن صدور مواقف مؤيدة عنها قد يُشرعن في المستقبل عمليات عسكرية أمريكية أو إسرائيلية ضد برنامجها النووي، ولذلك امتنعت عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، بإدانة العمليات العسكرية الروسية ومطالبة بإنهائها، في وقت كان يفترض فيه أن تنضم إيران لحلفاء روسيا (سوريا، إريتريا، بيلاروسيا وكوريا الشمالية) بالتصويت ضد القرار.
ومن جهة أخرى؛ فإن العمليات الروسية في أوكرانيا قد تنعكس بشكل مباشر على قوة موسكو في قضايا أخرى تقع في نطاق الأمن والاهتمام الإيراني، لا سيما في سوريا وأفغانستان وهو ما سنأتي على ذكره لاحقاً.
في المُقابل، ركز الموقف الإيراني من الأزمة الأوكرانية، بالتنديد بالتوسع المُحتمل لحلف الناتو شرقاً، والذي يعني عملياً محاصرة روسيا، وهو ما ترى فيه إيران في غير مصلحتها، حيث تعتبر موسكو داعماً لها في القضايا الدولية، وجزء من قوتها الخارجية، فضلاً عن مخاطر تحول أوكرانيا إلى مستنقع للاستنزاف الروسي، قد يُحول خارطة أولويات الأخيرة على المستوى العسكري والجيوسياسي بعيداً عن تقديم الدعم للقضايا التي تعني إيران. هذا إلى جانب أن توسع الناتو يُهدد كذلك إيران إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تركيا الدولة الكبيرة على حدودها هي عضو في الحلف.
وبناءً على ذلك؛ لا يزال الموقف الإيراني من العمليات العسكرية، قيد التشكل، وبانتظار المشهد الذي ستفرزه الأزمة، فيما عدا ذلك، يُمكن القول إن طهران تُعارض ضمناً العمليات العسكرية، وتُعارض علناً التوسع المُستمر لحلف الناتو شرقاً.
تباين المصالح وحالة من عدم الثقة
تزامنت الأزمة الأوكرانية، في ظل الحديث المُتزايد عن تحقيق طهران وواشنطن جُملة من التفاهمات في محادثات فيينا، قد تفضي قريباً إلى توقيع اتفاق نووي جديد، أو العودة للعمل بالاتفاق السابق عام 2015.
بالنسبة لطهران، يُعد التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، طوق نجاة لها، من سطوة العقوبات والضغوطات المفروضة عليها منذ حملة العقوبات القصوى التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وخلفت تداعيات كبيرة أنهكت الاقتصاد الإيراني، ولهذا يُعد النجاح في محادثات فيينا هدفاً استراتيجياً لطهران.
وقد ألقت الأزمة الجيوسياسية الدولية في أوكرانيا بظلالها على محادثات فيينا، خاصة بعد الطلب الروسي من الدول الغربية بالحصول على ضمانات مكتوبة لمواصلة تعاونها مع إيران، والذي نظر إليه في الداخل الإيراني باعتباره موقفاً يهدد مصالحها الوطنية، ويسعى لعرقلة التفاهمات الحاصلة في فيينا، بعد أن دخلت مرحلة حاسمة من تاريخها، وعليه أكدت النُخب السياسية الإيرانية أن طهران غير معنية بالمطالب الروسية، وحذرت وزارة الخارجية الإيرانية من أنها لن تقبل إملاءات من عوامل أجنبية.
ويُمكن فهم الموقف الروسي من محادثات فيينا بعد عملياتها العسكرية في أوكرانيا في ثلاث اتجاهات:
الأول؛ أن إيران بعد الاتفاق النووي المُحتمل قد تُشكل تهديداً استراتيجياً لها، وتحديداً في استعداد طهران لتزويد أوروبا بالغاز وتعويض أي نقصٍ محتمل في الإمدادات الروسية، حيث تشير التقديرات أن إيران قادرة على توفير 20% من احتياجات أوروبا من الغاز. وبين الدولتين تاريخ سابق من استعداد طهران لمنافسة روسيا في صادراتها للغاز، فقد عرض الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، خلال زيارته لتركيا عام 2016، تزويد أنقرة بالغاز.
أما الثاني؛ فإن عودة طهران لسوق الطاقة العالمي، سيؤدي إلى ضبط الارتفاعات الحادة في الأسعار، وهو ما سيُقلل من العائدات المالية الروسية، التي تحتاجها في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليها. خاصة وأن إيران تعتبر من الدول المنتجة للنفط والغاز، ولديها القدرة على ضخ كميات كبيرة منها في الأسواق العالمية، خاصة بعد الإعلان عن اكتشاف حقل "تشالوس"، أكبر حقل طبيعي للغاز في بحر قزوين، منتصف عام 2021.
وثالثاً؛ تسعى موسكو لاستخدام دورها في محادثات فيينا، كورقة تضغط بها على الدول الغربية لتخفيف حدة مواقفها تجاه عملياتها في أوكرانيا، في ظل حاجة الدول الغربية للإسراع بتوقيع الاتفاق النووي لخفض أسعار النفط وتقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي.
بالنسبة لإيران، التي شهدت علاقاتها مع روسيا تطورات مُلفتة خلال العقود السابقة، فهي تدرك أن التناغم الكبير بين خطاب الدولتين على الصعيد الإقليمي والدولي، لا يعني تناسق سياستهما فعلياً، فقد اختبرت من قبل حالة عدم ثقة إزاء السياسات الروسية، ولنعد قليلاً إلى الماضي نجد أن روسيا كانت قد لعبت دوراً معرقلاً لتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، وفقاً للتسريب الصوتي المنسوب لوزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، وكانت موسكو قد استفادت من انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي المُبرم عام 2015، بزيادة صادراتها من النفط والغاز.
وعلى المنوال ذاته نظرت إيران إلى اتفاق كاراباخ بين روسيا وتركيا، باعتباره استهداف لها، فقد وصفت وكالة أنباء فارس، سيطرة أذربيجان على أجزاء من ناغورني كاراباخ بأنه "تحول شرير" يستهدفها. وأن الاتفاق الروسي التركي يستبعد طهران من المعادلة القوقازية، أما في سوريا، فبالرغم من التفاهمات الرئيسية الروسية الإيرانية فيما يتعلق بدعم الرئيس السوري بشار الأسد، تقف الدولتين أمام طرفي نقيض في العديد من الملفات في الشأن السوري، ومنها التفاهمات الروسية الإسرائيلية، في توجيه ضربات تستهدف الجماعات المُسلحة المدعومة إيرانياً، والتعاون الروسي التركي في الشمال السوري.
تداعيات تطور الموقف من "التكتيكي" إلى "الاستراتيجي"
من الواضح أن الأزمة الأوكرانية ومحادثات فيينا، قد أنتجت موقفاً إيرانياً يتوسط بين أقرب حلفائها وأبرز خصومها، ويجد هذا التناقض مكانه في المنطلقات الأيديولوجية الإيرانية، المُتمثلة بمبدأ "لا شرقية ولا غربية"، وبينما اقتضت الضرورة والمصلحة الوطنية الوقوف على حياد من الأزمة الأوكرانية، فذلك يعلو على علاقاتها الدولية مهما بلغت درجتها ومستواها.
مع ذلك، فإن ما سبق لا يعني نية طهران الإضرار بعلاقاتها مع موسكو، ولا السماح للأخيرة بتعطيل التفاهمات المنجزة في محادثات فيينا، وسيبقى الموقف الإيراني محكوماً بهذين المُتغيرين - الأزمة الأوكرانية ومحادثات فيينا - وتأثير كل منهما على الآخر.
وبطبيعة الحال فإن المعطيات الجديدة التابعة للمُتغيرين أعلاه ستُغير حُكماً من طبيعة "التحالف" الروسي الإيراني، من جهة أن طهران إذا ما وقعت اتفاقاً نووياً خلال الأيام والأسابيع القادمة، ستكون أمام مجموعة واسعة من العلاقات الخارجية المبنية على أسس وشراكات اقتصادية واستراتيجية لا سيما من دول تُعارض بشدة العمليات العسكرية الروسية. إلى جانب أن الاتفاق النووي يُرجح أن يقود إلى تعزيز النفوذ الإيراني في ساحات تشترك بها الدولتين، وثمة توازنات دقيقة تحكمها، مثل سوريا وأفغانستان وحتى منطقة آسيا الوُسطى.
وفي الختام؛ فإن موقف طهران سيبقى ضمن المناورات "التكتيكية" على المستوى السياسي، لكن مجريات الأحداث في القضيتين سابقتي الذكر، سيُبقي الباب مفتوحاً أمام تحول "استراتيجي" يسعى للتقارب مع الدول الغربية، على حساب علاقاتها مع موسكو.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
عمر الرداد
خبير أمن استراتيجي